الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
ما تقدم من أول السورة إلى هنا كان في النبوات، وما يتعلق بها سؤالا وجوابا، وأما هذه الآيات فإنها في بيان التوحيد، ونفي الشريك.
التفسير والبيان:
{أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} أي بل اتخذ المشركون آلهة من الأرض من دون الله يحيون الموتى من قبورهم، أي لا يقدرون على شيء من ذلك، فكيف جعلوها لله ندا وعبدوها معه؟! قال الزمخشري: و {أَمِ} هنا-أي مع الاستفهام-هي المنقطعة الكائنة بمعنى «بل» الإضرابية، والهمزة قد آذنت بالإضراب عما قبلها، والإنكار لما بعدها، وهو اتخاذهم آلهة ينشرون الموتى.
والمراد بالآية التذكير بخواص الألوهية التي منها إحياء الموتى من قبورهم، فإن المشركين وإن لم يصرحوا بذلك، فإنهم بادعائهم الألوهية لها يثبتون تلك الصفة لها. ووصف الآلهة بكونها من الأرض إشارة إلى أنها من الأصنام المعبودة في الأرض. وهذا تهكم بهم وتوبيخ وتجهيل لهم.
ثم أثبت الله تعالى التوحيد ونفي وجود إله غير الله، فقال:
{لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا} أي لو كان في السموات والأرض آلهة غير الله لخربتا وفسد نظامها؛ لأنهما إذا اختلفا وقع الاضطراب والخلل والفساد، وإن اتفقا في التصرف في الكون، فلا داعي للتعدد؛ لأنه يؤدي إلى وجود الخلق والأمر والمقدور من خالقين قادرين على مخلوق واحد، وهذا محال؛ لأنه يجعل وقوع المقدور والمراد للاثنين، لا لواحد منهما، وهذا لا يصح؛ لأن لكل منهما إرادة مستقلة بالتأثير، فلا يعقل وقوع مخلوق لخالقين.
وبناء عليه يكون جميع ما في هذا العالم العلوي والسفلي من المخلوقات دليل وحدانية الله تعالى، لذا قال:
{فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ} أي تنزه الله تعالى وتقدس عن الذي يفترون ويقولون: إن له ولدا أو شريكا، وتعالى عما يأفكون علوا كبيرا، فهو رب العرش المحيط بهذا الكون.
ونظير الآية: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ، وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ، وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ، سُبْحانَ اللهِ عَمّا يَصِفُونَ} [المؤمنون 91/ 23].
وتأكيدا لهذا التنزيه قال تعالى:
{لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْئَلُونَ} أي لا يسأل تعالى عن أفعاله، فهو الحاكم الذي لا معقّب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد، لعظمته وجلاله وكبريائه، وعلمه وحكمته، وعدله ولطفه، وإنما يسأل خلقه عن أفعالهم، ما عملوا وما سيعملون، وهذا كقوله تعالى:{فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر 92/ 15 - 93] وقوله سبحانه: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون 88/ 23].
ثم كرر تعالى الإنكار على المشركين استفظاعا لشأنهم، واستعظاما لكفرهم فقال:{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ: هاتُوا بُرْهانَكُمْ} أي أيصح بعد هذه الأدلة أن يتخذوا آلهة دون الله، ويصفوا الله بأن له شريكا؟ فإن وصفتم الله تعالى بأن له شريكا، فهاتوا برهانكم على ذلك، إما من العقل وإما من الوحي، فإنكم لا تجدون كتابا من كتب الأولين كالتوراة والإنجيل إلا وفيه تقرير توحيد الله وتنزيهه عن الشركاء، كما أن العقل كما تقدم يرفض وجود إلهين، وأشار فيما يأتي إلى الدليل النقلي فقال:
{هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} أي هذا الوحي الوارد في معنى توحيد الله ونفي الشركاء عنه، ورد علي، كما ورد على جميع الأنبياء، فهو ذكر
أي عظة للذين معي أي أمتي، وعظة للذين من قبلي أي أمم الأنبياء السابقين عليهم السلام. وبذلك اتفق القرآن وجميع الكتب السماوية السابقة على الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، وهذا تبكيت للمشركين يتضمن نقيض مدّعاهم.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} أي بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعرفون الحق، ويعرضون عنه، ولا يميزون بين الحق والباطل، فلا تنفع فيهم الأدلة والبراهين.
{فَهُمْ مُعْرِضُونَ} أي فهم لجهلهم معرضون عن قبول الحق وعن النظر المؤدي إليه. وهذا دليل على أن الجهل أو عدم العلم هو أصل الشر والفساد كله، وأنه يترتب على عدم العلم الإعراض عن استماع الحق وطلبه.
وتأكيدا لمضمون الكتب والرسالات السماوية بالتوحيد ونبذ الشرك قال:
{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ.} . أي لم نرسل رسولا سابقا من عهد آدم عليه السلام إلى قومه إلا أوحينا إليه ألا معبود إلا الله، فاعبدوه مخلصين له العبادة، وخصوه بالألوهية، فرسالات جميع الأنبياء قائمة على التوحيد، وكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
ونظير الآية قوله تعالى: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف 45/ 43] وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ، وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ} [النحل 36/ 16].
والخلاصة: أنه لا دليل للمشركين على ما زعموا، فلا برهان لهم، وحجتهم داحضة؛ لأن الفطرة تشهد بتوحيد الله، وكذلك العقل السليم، ورسالات جميع الأنبياء متحدة في دفع الشرك وإقرار التوحيد.
وبعد التنزيه عن الشريك، نفى تعالى اتخاذ الولد فقال:
{وَقالُوا: اِتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً} أي وقال بعض العرب وهم بطون من خزاعة وجهينة وبني سلمة: الملائكة بنات الله، فرد الله عليهم بقوله:
{سُبْحانَهُ} أي تنزيها له عن الولد، فإن الولد يشبه أباه في شيء، ويخالفه في أشياء، فلو كان لله ولد لأشبهه من بعض الوجوه، وخالفه من وجوه أخرى، فيقع التركيب في ذات الله تعالى، والله سبحانه منزه عن مشابهة الحوادث، ولا مجانسة بين الخالق والمخلوق.
ولما نزه سبحانه نفسه عن الولد، أخبر عن الملائكة بقوله:
{بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ} أي ليس الملائكة بنات الله، بل هم عباد مخلوقون له، مقربون لديه، والعبودية تنافي الولادة، إلا أنهم مفضلون على سائر العباد.
ومن خصائصهم أنهم:
1 -
{لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أي لا يتكلمون إلا بما يأمرهم به ربهم، ولا يخالفونه فيما أمرهم به، بل يبادرون إلى فعله، وهو تعالى عالم محيط علمه بهم، فلا يخفى عليه منهم خافية، كما قال:
2 -
{يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ} أي يعلم ما تقدم منهم من عمل، وما هم عاملون في المستقبل، أي كما أن قولهم تابع لقول الله، فعملهم أيضا مبني على أمره، لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به، وجميع ما يأتون ويذرون في علم الله واطلاعه، وهو مجازيهم عليه، فلا يزالون يراقبونه في جميع أحوالهم، ويضبطون أنفسهم عن أي مخالفة لأمره.
3 -
{وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى} أي لا يجسرون أن يشفعوا إلا لمن ارتضاه الله، وأهّله للشفاعة، فلا تعلقوا الآمال على شفاعتهم بغير رضا الله تعالى.