الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ} ألم تعلم أن الله جعل جميع ما في الأرض مذللة لكم، معدّة لمنافعكم. {وَالْفُلْكَ} السفن. عطف على {ما} أو على اسم {أَنَّ} . {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ} للركوب والحمل، والجملة: حال من {الْفُلْكَ} ، أو خبر. {الْفُلْكَ} على قراءة الرفع على الابتداء. {بِأَمْرِهِ} بإذنه. {أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} من أن تقع أو لئلا تقع، يأن خلقها على صورة متينة مستمسكة. {إِلاّ بِإِذْنِهِ} أي إلا بمشيئته، وذلك يوم القيامة، وفيه رد على القول باستمساكها بذاتها. {رَحِيمٌ} بتسخير ما في الأرض، وإمساك السماء، والتهيئة لعباده أسباب الاستدلال، وفتح أبواب المنافع عليهم، ودفع أنواع المضارّ عنهم.
{أَحْياكُمْ} بالإنشاء بعد أن كنتم جمادا: عناصر ونطفا. {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انتهاء آجالكم.
{ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} في الآخرة عند البعث. {إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ} لجحود للنعم مع ظهورها، تارك توحيد الله تعالى.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى عظيم قدرته على تحقيق النصر للمؤمنين، أتى بأنواع من الدلائل على قدرته البالغة، من إيلاج الليل في النهار وبالعكس وخلقه لهما وتصرفه فيهما وعلمه بما يجري فيهما، وإنزال المطر لإنبات النبات، وخلقه السموات والأرض وملكه لهما، وتسخيره ما في الأرض والفلك، وإمساك السماء من الوقوع على الأرض، والإحياء والإماتة ثم الإحياء.
التفسير والبيان:
أورد الله تعالى في هذه الآيات أنواعا من الدلائل على قدرته البالغة وعلمه الشامل، ومن كان قادرا على كل شيء، عالما بكل شيء، كان قادرا على النصر، فقال:
1 -
{ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ} أي ذلك النصر المذكور بسبب أنه قادر على كل شيء، فهو يولج ويدخل الليل في النهار ويولج ويدخل النهار في الليل، بمعنى زيادة أحدهما على حساب الآخر، فيزيد في أحدهما من الساعات ما ينقص من الآخر، فتارة يطول الليل ويقصر
النهار كما في الشتاء، وتارة يطول النهار ويقصر الليل كما في الصيف، فالقادر على ذلك قادر قطعا على نصرة المظلوم، وإثابة الطائع، ومجازاة العاصي.
{وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي وذلك بسبب أن الله سميع لكل دعاء أو قول، بصير بكل عمل أو حال، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
وهذا يعني أن الله تعالى هو الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء، الحاكم الذي لا معقب لحكمه، كما قال:{قُلِ: اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ، تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ، وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ، وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ، وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ، بِيَدِكَ الْخَيْرُ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ} [آل عمران 26/ 3 - 27].
وعلة هذه القدرة الفائقة ما قال:
{ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ} أي ذلك الوصف المتقدم من القدرة الكاملة والعلم التام لله تعالى لأجل أن الله هو الحق، أي الموجود الثابت الواجب لذاته، بلا مثيل ولا شريك، بمعنى أنه هو مصدر الوجود، وأنه الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له؛ لأنه ذو السلطان العظيم، وكل شيء فقير إليه، ذليل لديه، وأن ما يعبدون من دونه من الآلهة من الأصنام والأنداد والأوثان، وكل ما عبد من غير الله هو باطل، لا يقدر على صنع شيء، ولا يملك ضرا ولا نفعا؛ لأنه عاجز ضعيف، ومصنوع مخلوق لربه القادر.
{وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أي ولأن الله تعالى المتعالي على كل شيء بقدرته وعظمته، الكبير عن أن يكون له شريك، إذ هو العظيم الذي لا أعظم منه، العلي الذي لا شيء أعلى منه شأنا، الكبير الذي لا أكبر منه، ولا أعز ولا
أكبر منه سلطانا، كما قال تعالى:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة 255/ 2] وقال:
{الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ} [الرعد 9/ 13].
والمقصود: كيف يصح لعبدة الأصنام وأمثالها عبادة من لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا، ويتركون عبادة من بيده كل شيء، وهو القادر على كل شيء؟! 2 - {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الله يرسل الرياح، فتثير سحابا، فيمطر على الأرض الجرز التي لا نبات فيها، وهي هامدة يابسة، فتصبح زاهية نضرة، مخضرة بالنباتات والأزهار ذات الألوان البديعة، والأشكال الرائعة، بعد يبسها وجمودها، قال الخليل: المعنى انتبه! أنزل الله من السماء ماء، فكان كذا وكذا. وقوله:
{مُخْضَرَّةً} أي ذات خضرة، على وزن مفعلة كمبقلة ومسبعة، أي ذات بقل وسباع.
{إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أي إن الله رحيم لطيف بعباده، يدبر لهم أمر المعاش، وأصل علمه أو فضله إلى كل شيء، عليم بما في أنحاء الأرض من الحب مهما صغر، خبير بمصالح خلقه ومنافعهم وأحوالهم، لا يخفى عليه خافية، فيحقق لهم المصلحة بتدبيره، كما قال تعالى حكاية عن لقمان:{يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ، إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان 16/ 31] وقال سبحانه: {وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ، وَلا أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ} [يونس 61/ 10].
3 -
{لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} جميع ما في السموات وما في الأرض لله سبحانه خلقا وملكا وعبيدا، أي جميع الأشياء هي
مخلوقة له، مملوكة له، عبيد له، منقادة خاضعة لأمره، متصرف فيها كيف يشاء، وهو غني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، عبد لديه. وهذا دليل آخر على القدرة الإلهية الشاملة.
4 -
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ} أي ألم تعلم أن الله ذلل لكم أيها البشر جميع ما في ظاهر الأرض وباطنها، من حيوان وجماد ومعدن وزروع وثمار، لينتفع بها الإنسان في مصالحه المختلفة، كما قال تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية 13/ 45] أي من إحسانه وفضله وامتنانه.
{وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} أي وسخر لكم السفن، جارية في البحار، لنقل الركاب والبضائع، بتسخيره وتسييره، متنقلة من بلد إلى بلد، ومن قطر إلى قطر، فيتم تبادل الحوائج والمنافع، ويتعايش الناس متعاونين، يحققون بها ما يحتاجون إليه ويريدون.
{وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاّ بِإِذْنِهِ} أي ويحفظ السماء بما فيها من كواكب ونجوم بالجاذبية، وبتخصيص مدار ثابت خاص لكل منها، بمشيئته وإرادته، ولو شاء لأذن للسماء، فسقطت على الأرض، فهلك من فيها، ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء من أن تقع على الأرض إلا بإذنه وأمره، وذلك يوم القيامة حيث تتساقط الكواكب وتتصدع السموات، كما قال تعالى:
{إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ} [الانفطار 1/ 82 - 2] ولولا هذا النظام الدقيق لا لاصطدمت الكواكب ببعضها، ودمرت الأرض بما عليها، لذا قال:
{إِنَّ اللهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} أي إن الله تعالى رؤف رحيم بالناس على ظلمهم، فمتعهم بجمال السماء والأرض، وأرشدهم إلى الاستدلال بآيات الكون على وجوده ووحدانيته.