الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الرازي: وأقوى الوجوه: أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الامان عن شرعه، أي شرع الله، وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك، ويبطل قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ} [المائدة 67/ 5] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه. فبهذا عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة.
التفسير والبيان:
تبين من الكلام السابق في سبب النزول أن قصة الغرانيق موضوعة مكذوبة وضعها الزنادقة، لذا يجب تفسير الآيات على نحو آخر، خلافا لما عليه كثير من المفسرين. ولا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة، بها وقعت الفتنة، ثم اختلف الناس في صورة هذا الإلقاء، لكن المقطوع به أن النبي صلى الله عليه وسلم عملا بدلالة الآيات السابقة الدالة على عصمته، وأنه لا ينطق عن الهوى أنه لم يجار الشيطان فيما ألقاه، ولم يردد على لسانه ما وسوس به. وأحسن تأويل للآيات كما قال القرطبي: هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا، ويفصّل الآي تفصيلا في قراءته، كما روى الثقات عنه، فيمكن ترصّد الشيطان لتلك السكتات، ودسّه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات، محاكيا نغمة النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار، فظنّوها من قول النبي صلى الله عليه وسلم وأشاعوها، ولم يقدح ذلك عند المسلمين، لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، وتحققهم من حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذمّ الأوثان وعيبها ما عرف عنه
(1)
.
وعلى هذا يكون معنى الآية: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ.} . أي وما أرسلنا يا محمد قبلك رسولا ولا نبيا إلا إذا قرأ وتلا كلام الله، ألقى الشيطان في قراءته
(1)
تفسير القرطبي: 82/ 12 - 83
وتلاوته بعض الأقاويل والأباطيل. وقوله {مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} دليل على تغاير الرسول والنبي، والفرق بينهما كما في الكشاف: أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي غير الرسول: من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله. وقد ذكرت في المفردات التعريف المشهور والأصح للرسول والنبي وعدد الرسل والأنبياء.
{فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ} أي فيزيل الله ما وسوس به الشيطان من الكلمات والخرافات التي تعلّق بها بعض الكفار، ثم يجعل آياته محكمة محصّنة مثبّتة، لا تقبل التشويه والتزييف أو الزيادة أو النقصان.
وهذا يشبه محاولات بعض القساوسة اليوم دسّ بعض الأكاذيب والشبهات في مبادئ الإسلام وتعاليمه، وقلب الحقائق، وتزييف الوقائع، وتأويل بعض الآيات على وجه غير صحيح، ثم تتبدد تلك المساعي الخبيثة، وتدحض تلك المفتريات على يد بعض العلماء الأثبات من المسلمين أو من غيرهم، وتدفن تلك الآراء المدسوسة في النشرات والكتب المدرسية وغيرها.
{وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي والله عليم بكل شيء، وبما أوحى إلى نبيه، وبما يكون من الأمور والحوادث، لا تخفى عليه خافية، حكيم في تقديره وخلقه وأمره وأفعاله، له الحكمة التامة، والحجة البالغة، فيجازي المفتري بافترائه، ويظهر الحق للمؤمنين، وتتبدد الظلمة في نفوس المنافقين، وهذا ما أبانه الله تعالى في موقف الفريقين، فقال:
1 -
{لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} أي ليجعل ما يوسوس به الشيطان فتنة أي ابتلاء واختبارا للمنافقين الذين في قلوبهم شك وشرك وكفر ونفاق، وللمشركين أو اليهود المعاندين قساة
القلوب، حين فرحوا بإلقاء الشيطان بعض الكلمات، واعتقدوا أنه صحيح من عند الله، وإنما كان من الشيطان.
{وَإِنَّ الظّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ} أي وإن هؤلاء الظالمين أنفسهم من المنافقين والكفار لفي مخالفة وعصيان، ومشاقة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وعناد بعيد من الحق والصواب.
2 -
{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، فَيُؤْمِنُوا بِهِ، فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي ولكي يعلم أهل العلم النافع الذين يفرقون به بين الحق والباطل، والمؤمنون بالله ورسوله أن ما أوحيناه إليك هو الحق الثابت الصحيح من ربك الذي أنزله بعلمه وحفظه، وصانه أن يختلط به غيره، فيصدقوا به وينقادوا له، وتخضع له قلوبهم، وتذل وتخشع له نفوسهم، وتعمل بأحكامه وآدابه وشريعته، كما قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت 41/ 41 - 42].
{وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي وإن الله لمرشد المؤمنين بالله ورسوله إلى طريق قويم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه، ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه بتأويل سليم للمتشابه في الدين، وتفصيل واضح للمجمل منه، وفي الآخرة يهديهم الطريق الصحيح الموصل إلى درجات الجنان، ويصرفهم عن دركات النيران.
ومصير الفريق الأول ما قال تعالى:
{وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ}
…
{عَقِيمٍ} أي ولا يزال الكفار في شك وريب من هذا القرآن أو من الرسول، فضمير {مِنْهُ} راجع إلى القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم، أو لا يزال الكفار في ريب منه أي مما ألقى الشيطان في قلوبهم حين قراءة القرآن عليهم، حتى تأتيهم الساعة، أي يوم القيامة أو مقدماتها أو
الموت، بغتة أي فجأة من غير أن يشعروا، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم، أي يوم القيامة أو يوم حرب مدمرة كيوم بدر. وجعل الساعة غاية لكفرهم وأنهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء. وإنما وصف يوم القيامة بالعقيم لأنه لا يأتي بعده ليل، ووصف يوم الحرب بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه، فيصرن كأنهن عقم لم يلدن، أو لأن المقاتلين يقال لهم: أبناء الحرب، فإذا قتلوا وصف هذا اليوم بأنه عقيم، على سبيل المجاز. قال ابن كثير: القول الأول هو الصحيح، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به، ولهذا قال:{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ، يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} .
والمراد بالآية أن الكفار ما يزالون على كفرهم لا يؤمنون حتى يهلكوا.
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي السلطان والتصرف يوم القيامة يوم الجزاء والثواب والعقاب لله الواحد القهار، يقضي بينهم بالحق، وهو الحكم العدل جل شأنه، كما قال تعالى:{مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة 4/ 1] وقال عز وجل:
{الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ، وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً} [الفرقان 26/ 25].
ونتيجة الحكم تظهر ببيان جزاء كل من الفريقين، فقال تعالى:
{فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ} أي فالذين آمنت قلوبهم وصدقوا بالله ورسوله وبالقرآن، وعملوا بمقتضى ما علموا من الأعمال الصالحة بإطاعة أوامره تعالى واجتناب نواهيه، وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم، لهم جنات النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا، فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ} أي والذين كفرت قلوبهم بالحق وجحدته، وكذبوا بالقرآن وبالرسول، وخالفوا الرسل، واستكبروا عن اتباعهم، فأولئك لهم عند ربهم عذاب مذلّ مخز، مقابل