الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال: أتنكرون أن يكون لبني عبد مناف نبي؟ فسمعنا النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى أبي جهل، فوقع به، وخوّفه، وقال: ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك الوليد بن المغيرة، وقال لأبي سفيان: أما إنك لم تقل ما قلت إلا حميّة، فنزلت الآية:{وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً} .
نزول الآية (37):
{خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} نزلت هذه الآية في استعجالهم العذاب، روي أن الآية نزلت في النضر بن الحارث، وهو القائل:{اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال 32/ 8].
المناسبة:
بعد أن أقام الله تعالى أدلة ستة على وجود الخالق المتصف بالوحدانية، أبان أن مصير الدنيا إلى فناء وزوال، وأنها خلقت للابتلاء والامتحان، ولتكون جسرا إلى الآخرة دار الخلود، وأن مصير الخلائق جميعا إلى الله تعالى للحساب والجزاء، ثم ذكر أن مجيء القيامة أو العذاب بالنار آت بغتة لا محالة، فلا يغترن أحد بطول البقاء في الدنيا، ولا يسخرن برسول من عند الله، فإنه سيلقى جزاء سخريته واستهزائه، وهذا زجر واضح شديد التأثير.
التفسير والبيان:
ينفي الحق تعالى الخلود في الدنيا لأحد من المخلوقات، فيقول:
{وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} أي قضى الله تعالى ألا يخلد في الدنيا بشرا، فلا أنت يا محمد ولا أحد ممن سبقك أو عصاك أو يأتي بعدك إلا عرضة للموت، وقد قدّر لك أن تموت كسائر الرسل المتقدمين قبلك.
{أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ} أي هل إذا متّ أنت أيبقى هؤلاء المشركون بربهم؟ لا، بل الكل ميتون، فلا يؤملون أن يعيشوا بعدك.
وهذا رد على المشركين الذين كانوا يتمنون موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يقدرون أنه سيموت، فيشمتون بموته، فنفى الله تعالى عنه الشماتة بهذا.
ونظير الآية قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ} [الرحمن 26/ 55 - 27].
أخرج البيهقي وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مات، فقبّله وقال: وا نبياه، وا خليلاه، وا صفيّاه، ثم تلا:
{وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} الآية.
واستدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام مات، وليس بحي إلى الآن؛ لأنه بشر، سواء كان وليا أو نبيا أو رسولا.
وتأكيدا لبيان موت جميع البشر، قال تعالى:
{كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ} أي كل مخلوق إلى الفناء، وكل نفس ذائقة مرارة الموت قبل مفارقتها الجسد،
جاء في الحديث: «إن للموت لسكرات»
(1)
فلا يفرح أحد بموت أحد، ولا يشمت أو يتشفى لوفاته، فالكل متجرع كأس المنون. والذوق هنا: مجاز عن الإدراك. والمراد بالموت هنا: مقدماته من الآلام العظيمة.
{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} أي نبتليكم ونختبركم بالبلايا والنعم، أو بالمحبوب والمكروه، بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال، اختبارا وامتحانا، لنعلم أتصبرون وتشكرون أم لا؟ وقوله {فِتْنَةً} مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه
(1)
روى ابن ماجه في معناه: «اللهم أعني على سكرات الموت» .
والمراد من ذلك: أنا نعاملكم معاملة من يختبركم، لنعرف الصابر في الشدائد، والشاكر في الرخاء.
{وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ} أي ومرجعكم ومصيركم في النهاية إلينا، أي إلى حكمنا ومحاسبتنا ومجازاتنا، فنجازيكم بأعمالكم. وفي هذا وعد بالثواب، ووعيد بالعقاب.
والابتلاء لا يكون إلا بعد التكليف، والتكليف لا يكون إلا بعد البلوغ والعقل، فالآية دالة على حصول التكليف، والتكليف لا يقتصر بالمكلف على ما أمر به ونهي عنه، بل ابتلاه بأمرين:
أحدهما-ما سماه خيرا: وهو نعم الدنيا من الصحة واللذة والسرور.
والثاني-ما سماه شرا: وهو المضارّ الدنيوية من الفقر والآلام وسائر الشدائد النازلة بالمكلفين.
وإنما سمي ذلك ابتلاء، والله عالم بما سيكون من أعمال العالمين قبل وجودهم؛ لأنه في صورة الاختبار.
{وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً} أي وإذا رآك كفار قريش كأبي جهل وأشباهه، ما كان همهم إلا السخرية منك، وما يتخذونك إلا مهزوءا به، فيستهزءون بك وينتقصونك، وكان جديرا بهم التفكير في سلوكك وأخلاقك، وفيما ينزل عليك من وحي فيه عظة وذكرى للعقلاء، وهم الذين حمى الله نبيهم منهم بقوله:{إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر 95/ 15].
وهم القائلون: {أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} أي يقولون تعجبا واستنكارا:
أهذا الذي يعيب آلهتكم ويسفّه أحلامكم؟! {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ} أي والحال أنهم كافرون بالله الذي خلقهم
وأنعم عليهم، وإليه مرجعهم، و {هُمْ} الثانية توكيد كفرهم أي فهم الكافرون، مبالغة في وصفهم بالكفر. والمراد أنهم كيف يعجبون منك ومن صنيعك بنبذ آلهتهم ووصفها بالسوء، وهم أشد عجبا، إذ يكفرون بالله، ويستهزئون برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى في الآية الأخرى:{وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُواً، أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً. إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا، لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها، وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان 41/ 25 - 42].
والخلاصة: أنهم يعيبون على النبي ذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء، مع أنهم كافرون بالرحمن الذي هو المنعم الخالق المحيي المميت، ولا فعل أقبح من ذلك، فالهزء والذم يعود عليهم من حيث لا يشعرون، وهم أحق بالاستهزاء والسخرية؛ لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه.
وبالرغم من هذا فهم أناس حمقى طائشون متهورون يستعجلون بمجيء العذاب الذي تهددهم به يا محمد، فقال تعالى:
{خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} أي خلق عجولا، أو فطر الإنسان على العجلة، والمراد نوع الإنسان، وقيل: إنه شخص معين، حتى لكأن التعجل جزء من تكوينه وفطرته، وسجيته وطبعه كما قال تعالى:{وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً} في الأمور [الإسراء 11/ 17]، فاستعجل هؤلاء المشركون عذاب الله وآياته الملجئة إلى الإيمان والإقرار بالعبودية، وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فالمراد بالآيات: أدلة التوحيد وصدق الرسول، أو الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة، ولذلك قال:{فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} أي أنها ستأتي لا محالة في وقتها، ثم حكى الله تعالى قولهم:
{وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} أي إنهم يستعجلون أيضا
بوقوع العذاب بهم تكذيبا وجحودا، وكفرا وعنادا، واستبعادا لحدوثه، فيقولون على سبيل الاستهزاء للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه المؤمنين لجهلهم وغفلتهم: متى وقت حدوث عذاب النار الذي تهددوننا به إن كنتم صادقين في وعدكم وقولكم؟! فقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} أي يا معشر المؤمنين.
أراد تعالى نهيهم عن الاستعجال وزجرهم، فقدّم أولا ذمّ الإنسان على إفراط العجلة، وأنه مطبوع عليها، ثم نهاهم وزجرهم عن استبطاء الموعود به بقصد إنكار وقوعه وعدم تصوره أصلا، ثم بيّن مدى حماقتهم بهذا الطلب فقال:
{لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النّارَ.} . أي لو تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة، لما استعجلوا، ولو علموا أحوال عذاب النار التي تحيط بهم من الأمام والخلف وجميع الجهات، وحين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فلا يستطيعون ردّ النار عن وجوههم، ولا دفعها عن ظهورهم، ولا يجدون ناصرا لهم ينصرهم ويمنعهم من العذاب وينقذهم منه كما قال تعالى:{وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ} [الرعد 34/ 13]، وجواب {لَوْ} محذوف، أي لو علموا وقت الوعيد، لما أصروا في البقاء على كفرهم، ولما استعجلوا هذا العذاب الشديد.
والعلم في قوله تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ} بمعنى المعرفة، فلا يقتضي مفعولا ثانيا، مثل {لا تَعْلَمُونَهُمُ، اللهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال 60/ 8].
وإنما خص الوجوه والظهور؛ لأن شدة تأثرها بالعذاب أكثر.
ونظير الآية: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النّارِ، وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر 16/ 39]، وقوله أيضا:{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ} [الأعراف 41/ 7]، وقوله كذلك:{سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ، وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النّارُ} [إبراهيم 50/ 14] فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم.