الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأصله: ضرب الدابة وكدّها بالرجل، ومنه قوله تعالى:{اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص 42/ 38].
{أُتْرِفْتُمْ} أي نعمتم، والإتراف: التنعم والتلذذ، أو إبطار النعمة. {وَمَساكِنِكُمْ} التي كانت لكم {لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ} أي لتسألوا غدا عن أعمالكم أو تعذبون، فإن السؤال من مقدمات العذاب {يا وَيْلَنا} يا هلاكنا، ويا: للتنبيه {ظالِمِينَ} بالكفر {فَما زالَتْ تِلْكَ} الكلمات {دَعْواهُمْ} أي دعوتهم التي يردّدونها، أي ما زالوا يكررون تلك الكلمة {حَصِيداً} محصودين، كما يحصد الزرع بالمناجل، بأن قتلوا بالسيف {خامِدِينَ} ميتين، كخمود النار إذا طفئت.
{لاعِبِينَ} عابثين، بل دالين على قدرتنا ومرشدين عبادنا {لَهْواً} ما يلهى به من زوجة أو ولد. والفرق بين اللعب واللهو: أن الأول لا يقصد به هدف صحيح، والثاني يقصد به الترويح عن النفس {مِنْ لَدُنّا} من عندنا من الحور العين والملائكة {إِنْ كُنّا فاعِلِينَ} ذلك، لكنا لم نفعله فلم نرده.
{نَقْذِفُ} نرمي رميا بعيدا {بِالْحَقِّ} الإيمان {عَلَى الْباطِلِ} الكفر {فَيَدْمَغُهُ} يذهبه ويقهره ويهلكه، وأصل الدمغ: كسر الشيء الرخو، وإصابة الدماغ بالضرب، وهو مقتل {فَإِذا هُوَ زاهِقٌ} ذاهب وهالك وزائل {وَلَكُمُ} يا كفار مكة {الْوَيْلُ} العذاب الشديد {مِمّا تَصِفُونَ} الله به من الزوجة أو الولد.
{وَلَهُ} لله تعالى {مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} ملكا {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ} لا يتعظمون {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} لا يكلون ولا يعيون ولا يتعبون {يُسَبِّحُونَ} ينزهونه ويعظمونه دائما {لا يَفْتُرُونَ} لا يضعفون.
المناسبة:
هذه الآيات مبالغة في زجر الكفار عن عصيانهم وكفرهم، فبعد أن أبان الله تعالى أنه أهلك المسرفين في تكذيبهم وكفرهم بالله، ونصر الأنبياء المرسلين عليهم، وأسقط اعتراضاتهم التي أظهرت إعجاز القرآن، وأوضحت أن إيراد تلك الاعتراضات كان لحب الدنيا وحب الرياسة فيها، بالغ تعالى في زجرهم عن ذلك، فقال:
{وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً، وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ} أي كثيرا ما أهلكنا من أهل القرى الذين كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر بالله وتكذيب
الرسل، وأوجدنا وأحدثنا بعد إهلاكهم قوما آخرين مكانهم، كما قال تعالى في آية أخرى:{وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} [الإسراء 17/ 17] وقال تعالى:
{فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها، وَهِيَ ظالِمَةٌ، فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها} [الحج 45/ 22].
والمراد بالقرية: مدائن كانت باليمن، وقال أهل التفسير والأخبار: إنه أراد أهل حضور، وكان بعث إليهم نبي اسمه شعيب بن ذي مهدم، وقبر شعيب هذا باليمن بجبل يقال له: ضنن كثير الثلج، وليس بشعيب صاحب مدين؛ لأن قصة «حضور» قبل زمن عيسى عليه السلام، وبعد مئات من السنين من زمن سليمان عليه السلام، لكنهم قتلوا نبيهم، وكانت «حضور» بأرض الحجاز من ناحية الشام
(1)
.
{فَلَمّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ} أي فلما تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة، كما وعدهم نبيهم، إذا هم يفرون هاربين منهزمين من قريتهم، لما أدركتهم مقدمة العذاب.
{لا تَرْكُضُوا، وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ..} . أي يقال لهم تهكما واستهزاء:
لا تركضوا هاربين من نزول العذاب، وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة التي أبطرتكم والسرور، والمعيشة الرغيدة، والمساكن الطيبة، لعلكم تسألون عما كنتم فيه، فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، أو يسألكم الناس: لماذا نزل هذا العذاب؟! وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ} تهكم بهم وتوبيخ، فأجابوا:
{قالُوا: يا وَيْلَنا، إِنّا كُنّا ظالِمِينَ} أي إنهم اعترفوا بذنوبهم حين
(1)
تفسير القرطبي: 274/ 11
لا ينفعهم ذلك، فقالوا: يا هلاكنا، إنا ظلمنا أنفسنا بكفرنا بربنا. وهذا اعتراف صريح منهم بالكفر الموجب للعذاب.
{فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ} أي فما زالوا يرددون تلك المقالة، وهي الاعتراف بالظلم، حتى حصدناهم حصدا، وخمدت حركاتهم، وسكنت أصواتهم خمودا كالنار التي أصبحت خامدة لا حياة فيها.
فقوله: {تِلْكَ} إشارة إلى قولهم: {يا وَيْلَنا.} . إلخ؛ لأنها دعوى، كأنه قيل: فما زالت تلك الدعوى دعواهم. والدعوى هنا بمعنى الدعوة أي المطلب، قال تعالى:{وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} [يونس 10/ 10] وسميت دعوى؛ لأنهم كانوا دعوا بالويل فقالوا: {يا وَيْلَنا} والمولول كأنه يدعو الويل، فيقول: تعال يا ويل، فهذا وقتك. والحصيد: الزرع المحصود، أي جعلناهم مثل الحصيد، تشبيها لهم به في استئصالهم، كما تقول: جعلناهم رمادا، أي مثل الرماد، فهم يشبهون الحصيد والخمود.
وعقابهم هذا حق وعدل جزاء إنكار هم النبوة، وجعلهم معجزات النبي عبثا ولعبا، لذا أبان تعالى أنه ما خلق السماء والأرض وما بينهما إلا بالعدل فقال:
{وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ} أي وما أوجدنا السموات والأرضين إلا بالحق، أي بالعدل والقسط، لا للهو واللعب، فإنا خلقناها لفائدة دينية هي أن تكون دليلا على معرفة الخالق لها، ولمنافع أخرى دنيوية وغيرها، وليجزي الذين أساؤوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وأنه لم يخلق ذلك عبثا ولعبا.
ونظير الآية قوله تعالى: {وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً، ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ} [ص 27/ 38] ثم أكد تعالى نفي اللعب فقال:
{لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا إِنْ كُنّا فاعِلِينَ} أي لو شئنا أن نتخذ ما يلهو كما يتخذ العباد من الزوج والولد، لاتخذناه مما لدينا من الملائكة والحور العين، إن كنا نقصد اللهو ونفعل اللعب. واللهو: المرأة بلسان أهل اليمن، والولد أيضا؛ لأنه ملازم للمرأة.
وهو كقوله تعالى: {لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً، لاصْطَفى مِمّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ، سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهّارُ} [الزمر 4/ 39]. وهذا رد على من اتخذ المسيح أو عزيرا ابنا لله تعالى.
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ} أي بل إننا نبين الحق، فيدحض الباطل ويزيله، فإذا هو زائل مبدّد، ذاهب مضمحل.
و {بَلْ} هنا إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب، وتنزيه منه لذاته، فليس من صفاتنا وحكمتنا اللعب، وإنما تغليب الجد على اللهو، ودحض الباطل بالحق، كأنه قال: سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب، بل من عادتنا تغليب الجد على اللهو، ودحض الباطل بالحق.
وقد استعار القذف والدمغ لضياع الباطل وفنائه، لتصويره بالصورة الحسية المؤثرة التي ترسخ في الأذهان، وتدل على قوة الحق، وضعف الباطل، حتى لكأنه غير موجود.
وإذا كان هذا من شأننا فكيف لا نبين الحق وننذر الناس، وإلا كنا لاهين لاعبين. فقوله:{إِنْ كُنّا فاعِلِينَ} معناه: ما كنا فاعلين، مثل {إِنْ أَنْتَ إِلاّ نَذِيرٌ} [فاطر 23/ 35] أي ما أنت إلا نذير. و {أَنْ} بمعنى الجحد، وقيل:
إنها بمعنى الشرط، أي إن كنا فاعلين ذلك ولكن لسنا بفاعلين ذلك؛ لاستحالة أن يكون لنا ولد.
{وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ} أي ولكم أيها القائلون: لله ولد، أو أيها