الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحساب الأخروي، بسبب نسيانهم أهوال ذلك اليوم، وما فيه من حساب دقيق لكل إنسان، وبسبب تركهم العمل لذلك اليوم، ومنه القضاء بالعدل.
والعبرة من هذا الموضوع: الوصية من الله عز وجل لولاه الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق، ولا يحيدوا عنه، فيضلوا عن سبيل الله، وقد توعد الله تعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد الأكيد والحساب الشديد.
روى ابن أبي حاتم أن أبا زرعة دخل على الوليد بن عبد الملك فقال له الوليد: أخبرني، أيحاسب الخليفة؟ فإنك قد قرأت القرآن وفقهت! فقال:
يا أمير المؤمنين أقول؟ قال: قل في أمان الله، قال: يا أمير المؤمنين: أنت أكرم على الله أو داود عليه السلام؟ إن الله تعالى جمع له بين الخلافة والنبوة، ثم توعده في كتابه، فقال:{يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ، وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى، فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ.} . الآية
(1)
.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
1 -
وصف الله تعالى داود عليه السلام بعشر صفات: هي كما تقدم الصبر، والعبودية لله، والقوة في الدين، وكونه أوابا كثير الرجوع إلى الله تعالى، وتسبيح الجبال، والطير مع تسبيحه وترنيمه، وإتيان الطير طائعة له، وتشديد ملكه في الدين والدنيا، وإيتاؤه الحكمة (الفهم والعقل والفطنة والحكم بالصواب) وحسن الفصل في الخصومات.
2 -
بمناسبة تسبيح الجبال معه بالعشي والإشراق، أي في المساء والصباح، ذكر القرطبي أن صلاة الضحى نافلة مستحبة،
جاء في صحيح مسلم عن أبي ذرّ
(1)
تفسير ابن كثير: 32/ 4
عن النبي ص أنه قال: «يصبح على كل سلامي
(1)
من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى».
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ص: «من حافظ على شفعة الضحى، غفر له ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر» .
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر» .
وأقل الضحى كما في هذه الأحاديث وغيرها ركعتان، وأكثره ثنتا عشرة ركعة.
3 -
ذكر الله تعالى لداود بعد قصة المحاكمة عشر صفات منها سؤال المغفرة من ربه فغفر له، ومنها السجود شكرا لله والإنابة، ومنها:{وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ} ومنها {يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} . قال مجاهد عن عبد الله بن عمر: الزلفى: الدنو من الله عز وجل يوم القيامة.
4 -
ليس الحاكم ملزما كل يوم بالاستعداد لفصل القضاء في الخصومات بين الناس، وإنما له تخصيص أيام في الأسبوع لتلك المهمة الخطيرة.
5 -
الفزع ظاهرة إنسانية في المفاجآت، وقد فزع النبي داود عليه السلام من الرجلين اللذين أتياه ليلا في غير وقت دخول الخصوم، أو لدخولهم عليه بغير إذنه، أو لأنهم تسوروا عليه المحراب ولم يأتوه من الباب. وقد شاع بين بني إسرائيل قتل الأنبياء وإيذاؤهم.
(1)
أصل السلامى: عظام الأصابع والأكفّ والأرجل، ثم استعمل هنا في سائر عظام الجسد ومفاصله، وهي كما في حديث آخر ثلاث مائة وستون مفصلا.
6 -
إن القصة التي يرويها بعض المفسرين بما يتعارض مع مبدأ «عصمة الأنبياء» لا أصل لها، ولا مستند عليها، وإنما هي من الإسرائيليات الدخيلة.
7 -
لم يكن خطأ داود عليه السلام في أنه قضى لأحد الخصمين قبل سماع كلام الآخر، فهذا من أصول الحكم التي لا يمكن تجاوزها، قال ابن العربي: وهذا مما لا يجوز عند أحد، ولا في ملة من الملل، ولا يمكن ذلك للبشر، وإنما تقدير الكلام أن أحد الخصمين ادّعى، والآخر سلم في الدعوى، فوقعت بعد ذلك الفتوى
(1)
. و
قد قال النبي ص لعلي رضي الله عنه فيما أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما: «إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض لأحدهما حتى تسمع من الآخر» .
8 -
أجمع العلماء على أن الأنبياء معصومون عن الكبائر، وفي الصغائر اختلاف، الأصح كما قرر ابن العربي وغيره أنهم معصومون عن الصغائر والكبائر.
9 -
استدل العلماء على مشروعية الشركة بأدلة، منها: ما ورد على لسان داود عليه السلام: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ} أي الشركاء في المال كما تقدم.
10 -
الصلحاء في كل زمان قليلون، لقوله تعالى:{وَقَلِيلٌ ما هُمْ} يعني الصالحين. سمع عمر رضي الله عنه رجلا يقول في دعائه: اللهم اجعلني من عبادك القليل، فقال له عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال: أردت قول الله عز وجل:
{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ، وَقَلِيلٌ ما هُمْ} فقال عمر: كل الناس أفقه منك يا عمر.
11 -
اختلف العلماء في سجدة داود، هل هي من عزائم السجود المأمور به في القرآن أو لا؟ أي هل هي سجدة تلاوة؟
(1)
أحكام القرآن لابن العربي: 1625/ 4
فقال المالكية والحنفية: ليست موضع سجود، لما
في البخاري وغيره عن ابن عباس أنه قال: «ص، ليست من عزائم القرآن، وقد رأيت النبي ص يسجد فيها» . وأنكر المالكية أيضا سجدة الشكر.
وقال الشافعية والحنابلة: إنها ليست من عزائم السجود، بل هي سجدة شكر، استدلالا بفعل النبي ص، كما نص الحديث المتقدم،
وروى النسائي أن النبي ص قال: «سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرا» .
12 -
ليس في استغفار داود ما يشعر بارتكاب ذنب أو أمر يستغفر منه، وما زال الاستغفار شعار الأنبياء المشهود لهم بالعصمة.
13 -
الأصل في مشروعية الأقضية أو التقاضي قوله تعالى: {يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ} وقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ} [المائدة 49/ 5] وقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أَراكَ اللهُ} [النساء 105/ 4] وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ} [النساء 135/ 4].
14 -
إن قاعدة الحكم الأساسية الحكم بالعدل والحق: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ} ومن قواعده: أن القاضي لا يحكم في الوقائع إلا بالدعوى ورفع الأمر إليه، فيجب الحكم بالحق، وألا يميل القاضي إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع، أو سبب يقتضي الميل من صحبة أو صداقة أو غيرهما.
15 -
هذه الآية: {يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ.} . تمنع الحاكم من القضاء بعلمه الشخصي في الحوادث، لأن الحكام لو مكّنوا أن يحكموا بعلمهم، لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليّه (صديقه) ويهلك عدوه إلا ادعى علمه فيما حكم به. وبذلك يمنع من هذا القضاء للتهمة، قال أبو بكر رضي الله عنه: لو رأيت رجلا على حدّ من حدود الله، ما أخذته حتى يشهد على ذلك غيري.