الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم بيّن تعالى أضداد المذكورين قائلا:
{أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النّارِ} أي أأنت مالك أمر الناس، فمن وجب عليه العذاب لإعراضه وعناده، فأنت تخلصه من النار؟ والمعنى: إنك لا تقدر على هدايته، فتنقذه من عذاب النار. والآية تسلية لرسول الله ص، لأنه كان حريصا على إيمان قومه، فأعلمه الله أن من كان من أهل الضلالة والهلاك، لا تستطيع هدايته.
ثم أعاد الله تعالى الإخبار عن جزاء المتقين السعداء للحض على التقوى، فقال:
{لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ} أي لكن أولئك الذين اتقوا عذاب ربهم بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، لهم في الجنة غرف مبنية محكمة البناء، وهي القصور الشاهقة ذات الطبقات المزخرفات العالية، لأن الجنة درجات بعضها فوق بعض، والنار دركات بعضها تحت بعض، والجنة تجري فيها من تحت تلك الغرف أنهار عذبة الماء، وفي ذلك كمال بهجتها وزيادة رونقها، ثم أكد تعالى حسن هذا الجزاء، فأخبر أنه وعد من الله وعده للمتقين المؤمنين، ووعد الله حق ثابت، لا ينقض ولا يخلف.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
1 -
أمر الله المؤمنين بأن يضموا إلى الإيمان التقوى: وهي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، مما يدل على أن الإيمان وحده لا يكفي، كما يدل على أن الإيمان يبقى مع المعصية.
2 -
للتقوى فوائد جلّى، فللمتقين حسنة في الدنيا من صحة وعافية ونصر
وسلطان وجاه وغنى، وحسنة في الآخرة بالثواب الجزيل والعطاء الكثير الدائم.
3 -
لا عذر للمقصرين في الإحسان والطاعة، فمن صد عن طاعة الله في بلد، فعليه المهاجرة إلى بلد آخر يتمكن فيه من الاشتغال بالطاعات والعبادات، اقتداء بالأنبياء والصالحين في هجرتهم إلى غير بلادهم، ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم.
والمقصود من الآية {وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ} الترغيب في الهجرة من مكة حيث كانت واجبة في صدر الإسلام، والصبر على مفارقة الأوطان.
4 -
الصبر: هو الرضا بمفارقة الأوطان والأهل، واحتمال البلايا وفجائع الدنيا في طاعة الله تعالى. وثواب الصبر مفتوح غير مقيد بحدود، فكل من رضي بما أصابه، وترك ما نهي عنه، فلا مقدار لأجره. وهذا يشابه ثواب الصوم،
لقوله ص عن ربه فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: «الصوم لي وأنا أجزي به» .
عن الحسين رضي الله عنهما قال: سمعت جدي رسول الله ص يقول: «أدّ الفرائض تكن من أعبد الناس، وعليك بالقنوع تكن من أغنى الناس، يا بني إن في الجنة شجرة يقال لها: شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان، ولا ينشر لهم ديوان، يصبّ عليهم الأجر صبّا» ثم تلا النبي ص:
{إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} .
قال النحاس: لفظ صابر يمدح به، وإنما هو لمن صبر عن المعاصي، وإذا أردت أنه صبر على المصيبة قلت: صابر على كذا.
ثم إن الأجر على الصبر إنما هو بحسب الوعد من الله، لا بحسب الاستحقاق.
5 -
أمر الله تعالى رسوله ص مرتين في هذه الآيات للتأكيد بإخلاص
العبادة والطاعة لله وحده لا شريك له، دون أن تكون مشوبة بشائبة الشرك أو الرياء أو غير ذلك. وأمة الرسول ص من بعده مأمورة بذلك، لأن أمر الرسول ص أمر للأمة، والبدء به تعليم وإرشاد وجعله قدوة لأمته.
كذلك أمر الله تعالى رسوله ص بأن يكون أول المسلمين من هذه الأمة، وكان ذلك فعلا، فإنه كان أول من خالف دين آبائه، وخلع الأصنام وحطمها، وأسلم لله وآمن به، ودعا إلى ذلك.
وأمر الرسول ص أيضا بأن يخاف عذاب يوم القيامة.
وكل هذه الأوامر تعريض بالمشركين وتعليم وإرشاد للمؤمنين.
6 -
قوله تعالى: {فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} ليس إباحة ولا إذنا وإقرارا لعبادتهم الأصنام، وإنما هو أمر تهديد ووعيد وتقريع، كقوله تعالى:{اِعْمَلُوا ما شِئْتُمْ} [فصلت 40/ 41] وقوله: {اِعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ} [الأنعام 135/ 6].
7 -
إن الخسارة الكبرى التي لا تعوض للمشركين والكافرين هي خسارة النفس والأهل يوم القيامة بسبب الضلال عن الدين الحق، والإضلال للأتباع عن دين الله. قال ابن عباس: ليس من أحد إلا وخلق الله له زوجة في الجنة، فإذا دخل النار خسر نفسه وأهله. ومن عمل بطاعة الله، كان له ذلك المنزل والأهل إلا ما كان له قبل ذلك، وهو قوله تعالى:{أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ} [المؤمنون 10/ 23].
8 -
للكفار عذاب يحيط بهم من كل جانب في نار جهنم يوم القيامة. وهو عذاب شديد، لذا خوّف الله به عباده المؤمنين وأولياءه المتقين، فيا أولياء الله، اتقوا الله ربّكم من هذا العذاب، بإخلاص التوحيد والطاعة. وهذا وعيد شديد لعبدة الأصنام.
9 -
وعد الله بالجنة المؤمنين الذين اجتنبوا عبادة الأوثان والشياطين الذي زين لهم تلك العبادة، والذين أنابوا إلى الله، أي رجعوا بالكلية إلى عبادته وطاعته.
وهؤلاء فعلا هم الذين انتفعوا بعقولهم، وهم الذين ميّزوا بين الحق والباطل، وبين الحسن والقبيح، ففهموا أوامر الله، واتبعوا كتاب الله وسنة رسوله ص.
10 -
الهداية بيد الله تعالى وحده، لذا خاطب الله رسوله ص مسليا له:
أفأنت تنقذ من النار من حقت عليه كلمة العذاب؟ ويلاحظ أن الهداية والضلال من خلق الله تعالى وإيجاده، كخلق جميع أعمال الإنسان، أما تحصيلهما واكتسابهما واختيارهما فمن العبد، قال تعالى:{مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً} [الكهف 17/ 18].
11 -
لما بيّن الله تعالى أن للكفار ظللا من النار من فوقهم ومن تحتهم، بيّن أن للمتقين غرفا فوقها غرف، أي علالي مرتفعة فوقها علالي مبنية كبناء منازل الأرض، لأن الجنة درجات يعلو بعضها بعضا، وللنار دركات بعضها أسفل من بعض.
والجنة مزدانة بأبهى أنواع الجمال، فهي تجري من تحت غرفها الأنهار، أي هي جامعة لأسباب النزهة، وقد وعد الله بها عباده الأتقياء وعدا محققا كائنا لا شك فيه، كما أوعد الكافرين بالنار، وإن الله لا يخلف الميعاد الذي وعد به الفريقين.