المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة … بسم الله الرحمن الرحيم تقديم الكتاب يتناول هذا الكتاب فترة من أهم - مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم

[أحمد إبراهيم الشريف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

-

- ‌جغرافية الجزيرة العربية والتشكيل القبلي

- ‌شبه جزيرة العرب

-

- ‌أقسام شبه الجزيرة العربية

- ‌الحجاز

- ‌أودية الحجاز:

- ‌مدن الحجاز:

- ‌مكة:

- ‌الطائف:

- ‌يثرب:

- ‌المناخ:

- ‌القبيلة العربية

- ‌مدخل

- ‌النظام السياسي للقبيلة العربية

- ‌مدخل

- ‌التشكيل الاجتماعي للقبيلة العربية:

- ‌دستور القبيلة

- ‌مستويات العصبية الاجتماعية

- ‌مهمة الدفاع لدى القبائل

- ‌الوضع الاقتصادي

- ‌مدينة مكة

- ‌مدخل:‌‌ مكة قبل الإسلام

- ‌ مكة قبل الإسلام

-

- ‌ نشأة مكة

- ‌قصي بن كلاب وعودة قريش إلى مكة:

- ‌حكومة مكة وسياستها الداخلية

- ‌مدخل

- ‌النزاعات العشائرية ووحدة القبيلة في مكة

- ‌قوة الزعامة في مكة وأثرها

- ‌ قوة قريش الحربية وعلاقتها بالقبائل الخارجية

- ‌علاقات مكة الخارجية

- ‌مدخل

- ‌علاقة مكة بالجنوب:

- ‌علاقة مكة بالشمال:

- ‌علاقة مكة بالفرس والحيرة:

- ‌الحج وأثره

- ‌مدخل

- ‌الكعبة البيت الحرام:

- ‌الحج

-

- ‌طقوس الحج وتقاليده

- ‌ثياب الإحرام:

- ‌الوقوف بعرفة:

- ‌الهدي والقلائد:

- ‌الحلق والتقصير:

- ‌آثار الحج الاقتصادية والاجتماعية:

- ‌الأشهر الحرم وأهميتها

-

- ‌ الحالة الاقتصادية

-

- ‌تجارة قريش الداخلية والخارجية

- ‌الربا:

- ‌النقد:

- ‌الأعداد والحساب:

- ‌المكاييل والموازين والمقاييس:

- ‌النشاط الزراعي والرعوي:

- ‌النشاط الصناعي:

- ‌الحالة الاجتماعية

- ‌مدخل

- ‌ طبقة الصرحاء:

- ‌ طبقة الموالي:

- ‌ طبقة الأرقاء:

-

- ‌الجاليات الأجنبية:

- ‌ النصارى:

- ‌ اليهود:

- ‌استعداد العرب للنقلة

- ‌مدخل

- ‌ظهور المصلح النبي

- ‌المفاهيم الجديدة في الدعوة:

- ‌الدعوة إلى الإسلام ومسايرة التنظيم العربي

- ‌أساليب قريش لمقاومة الدعوة

- ‌الهجرة في سبيل الدعوة:

- ‌مدينة يثرب

- ‌نشأة يثرب

- ‌مدخل

- ‌سكان المدينة

- ‌مدخل

- ‌اليهود

- ‌العرب

- ‌الأوس:

- ‌الخزرج:

- ‌التنظيم الداخلي والعلاقة بين السكان

- ‌مدخل

- ‌ العلاقات بين اليهود

- ‌ العلاقات بين العرب واليهود

- ‌ العلاقات بين الأوس والخزرج

- ‌ قوة يثرب وعلاقاتها الخارجية

-

- ‌ الحالة الاقتصادية

- ‌النشاط الزراعي

-

- ‌النشاط الرعوي

- ‌الصيد:

-

- ‌النشاط التجاري

- ‌التجارة الداخلية:

- ‌التجارة الخارجية:

- ‌المكاييل والموازين:

- ‌العملة:

- ‌النشاط الصناعي

-

- ‌ الهجرة وتأسيس الدولة الإسلامية في يثرب

- ‌تكوين الدولة في يثرب

- ‌الصحيفة

- ‌الصراع بين يثرب وخصومها

- ‌مدخل

-

- ‌ الصراع بين مكة والمدينة

- ‌الحالة الداخلية في يثرب "المدينة

- ‌الحالة الداخلية في مكة

-

- ‌بداية الصراع بين المدينتين

- ‌موقعة بدر سنة 2 ه

- ‌آثار موقعة أحد:

- ‌غزوة الأحزاب أو الخندق:

- ‌نتيجة الصراع

- ‌صلح الحديبية

-

- ‌ الصراع بين المسلمين واليهود

- ‌إجلاء بني قينقاع:

- ‌إجلاء بني النضير

- ‌القضاء على بني قريظة:

- ‌فتح خيبر والقضاء على قوة اليهود في جزيرة العرب:

-

- ‌ الصراع بين المدينة والقبائل العربية

- ‌غزوة مؤتة:

-

- ‌الخاتمة:

- ‌فتح مكة وتوحيد الجزيرة العربية

- ‌بيان براءة:

- ‌الخلافة الإسلامية وتثبيت دعائم الوحدة

- ‌مدخل

- ‌مشكلة الخلافة:

- ‌الردة:

- ‌الكشاف

- ‌أولًا: فهرس الأعلام

- ‌ثانيًا: الدول والقبائل والبطون والعشائر

- ‌ثالثًا: المواضع

- ‌رابعًا: الحروب والغزوات والوقائع

- ‌المصادر والمراجع

- ‌أولا: المراجع العربية

- ‌ثانيًا: المصادر والمراجع الأجنبية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ ‌مقدمة … بسم الله الرحمن الرحيم تقديم الكتاب يتناول هذا الكتاب فترة من أهم

‌مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم الكتاب

يتناول هذا الكتاب فترة من أهم فترات تاريخ العرب والإسلام، بل هي -في نظرنا- أهم فترات هذا التاريخ، إذ تمثل القاعدة التي تقوم عليها دراسة التاريخ الإسلامي، وبدون دراستها دراسة علمية صحيحة لا يمكن الإلمام بأحداث التاريخ الإسلامي، وفهم تطوراته في الداخل والخارج فهمًا صحيحًا.

وأحسب أن أحدًا لا يستطيع أن يزعم وصف عصر النبي صلى الله عليه وسلم وتصوير البيئة التي نشأ فيها وقامت فيها النهضة العربية -أمر ليس له من الخطورة العظيمة في تاريخ العرب والإٍسلام ما يستحق الاهتمام الكبير: فبيئة ظهر فيها النبي صلى الله عليه وسلم وقام فيها برسالته، وتوطدت فيها الديانة الإسلامية، بما فيها من قواعد ونظم كان لها أعظم الأثر في حياة العالم. وبيئة قامت فيها النهضة العربية؛ واندفع منها العرب إلى العالم المتمدن، فاستطاعوا أن يقوضوا سلطان أكبر إمبراطوريتين كانتا تتحكمان في عالم يومئذ، وتسيطران على مقدراته. وبيئة خرج منها عباقرة القواد ونوابغ الساسة والإداريين والحكام والقضاة؛ هذه البيئة جديرة بأن تفرد لها البحوث وتخصص لدراستها المتخصصون.

ومع الأهمية العظيمة لهذه الفترة -كقاعدة لدراسة التاريخ الإسلامي- فإنها لم تحظ بالعناية الكافية من المؤرخين القدماء والمحدثين على السواء، وظلت تدرس عل هامش الدراسات الإسلامية.

فالذين كتبوا السيرة النبوية قديمًا لم يهتموا إلا بذكر ما له علاقة بالنبي صلى الله عليه وسلم نفسه-: من نسب وأسرة وقبيلة، وولادة وكفالة، وأسفار وزواج قبل البعثة. وقلما تطرقوا إلى ذكر شيء مما كان عليه عصره وبيئته من حالات اجتماعية واقتصادية وسياسية ودينية، يستطيع المرء أن يقف منها على صورة وافية لما كانت عليه الحياة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وما كانت عليه الأحوال في مدينة مكة التي ولد فيها وقضى أكثر سني بعثته، والتي

ص: 3

كانت بدايتها مركز النواة من النهضة العربية التي أخذت تباشيرها تظهر في أواخر العصر الجاهلي، ثم توَّجها ظهور الإسلام. ومدينة يثرب التي هاجر إليها، وأقام فيها دولة وحَّدت العرب وقادت نهضتهم الكبرى. والتي كانت بذاتها مستعدة لتلقي هذا الحدث الخطير، ثم النهوض بذلك العبء الجليل.

والنتف القليلة التي وردت في هذه الكتب القديمة عما كانت عليه الحالة قبل الإسلام، إنما كانت استطرادية من ناحية، وقد غلبت عليها مسحة التعميم والإطلاق من ناحية أخرى. كما أنه لا يخلو كثير منها من طابع الصنعة والوضع والتلفيق. وحتى أقدم هذه الكتب وأكثرها جدية وأمانة. وأشدها رغبة في التحفظ والتحوط، من أمثال سيرة ابن هشام، وهي أقدم ما حفظ لنا الزمن مما كتب في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتاريخ الطبري وهو مثل ابن شهام قدمًا وجدية وأمانة، وطبقات ابن سعد وهي كذلك من كتب السيرة القديمة المعتبرة، نجد في كثير مما روته من الروايات وسردته من الأخبار -ولاسيما فيما يتعلق بالفترة التي سبقت الإسلام- ذلك الطابع ظاهرًا من الصنعة والوضع والتلفيق، قد دونوها كما وصلت إليهم، أو نقلوها عمن سبقهم، منها ما أشاروا هم إليه، ومنها ما لم يشيروا إليه، ولكنه لا يخفي على نظر الباحث المدقق.

هذا بالإضافة إلى أن كثيرًا مما ورد من روايات وأخبار عن حالة العرب في الجاهلية، يقف منها الباحث موقف التحفظ الشديد؛ إذ يلمس فيها القصد ظاهرًا في التقليل من شأن العصر الذي سبق البعثة النبوية؛ من حيث الحضارة المادية والأدبية والمدارك العقلية. والحقيقة أن المسلمين الأولين أخذوا بالنهضة الإسلامية وفتنوا بما جاء به الإسلام من مُثل، وما حققه للعرب من وحدة وحضارة، فضربوا صفحًا عن كل ما سبقه، وكأنهم حين تخلصوا من الوثنية وعفوا عن آثارها ألحقوا بها كل ما كان من نظم الحياة وشئونها قبل الإسلام، وكأنما الأمة العربية -عندهم- ولدت بظهور الإسلام ميلادًا جديدًا.

وإلى جانب كتب السيرة توجد بعض الكتب والرسائل، وبعض الفصول والبحوث في الكتب العربية الأدبية والتاريخية والفنية عن حياة العرب قبل الإسلام وعاداتهم وتقاليدهم. غير أن هذه كلها قد كتبت بأسلوب عام مطلق، لم يتناول البيئة العربية التي نشأ فيها النبي صلى الله عليه وسلم وقامت فيها رسالته بصورة خاصة من ناحية، وأن ما

ص: 4

ورد فيها من روايات جاءت متفرقة غير مرتبة، وقد اختلط فيها الغث بالسمين، والباطل بالصحيح؛ بحيث لا يسع الباحث إلا أن يقرأها بتحفظ شديد، وإلا أن يتردد كثيرًا في أخذها كحقائق تاريخية؛ أو حتى كروايات موثوق بها، من ناحية أخرى؛ وذلك لأن هذه الروايات ظلت محفوظة في الصدور تتداولها الألسن، ولم تدون إلا في وقت متأخر، كانت الأهواء قد لعبت فيها دورًا كبيرًا؛ بما أصاب الوحدة الإسلامية من تفكك، بظهور الفرق والأحزاب السياسية. وقد استند أصحاب هذه الكتب والرسائل والبحوث إلى هذه الروايات وأخذوها كحقائق تاريخية بنوا عليها أبحاثهم وتقريراتهم دون تمحيص على الأغلب.

وما وصل إلينا من الشعر المنسوب إلى الجاهليين -بغض النظر عن صحة نسبته إليهم أو عدم صحتها- لا يمكن أن نجد فيه مرآة صادقة للحياة العربية قبل الإسلام؛ وذلك لأن هذا الشعر إنما عَني بحياة البادية ولم يمس حياة الحضر إلا مسًّا رفيقًا هينًا، فوق أنه نحا نحوَ تمثيل الجانب المثالي في الخلق العربي من شجاعة وكرم ومروءة، وذلك لما طبعت عليه حياة الفخر والمباهاة من تمدح وتزيد، كما سلك جانب التطرف حين عدد المثالب والمذام. هذا إلى خلوه تقريبًا من تصوير الحياة العامة واقتصاره على الجانب الوجداني من حياة الأفراد.

والمؤرخون المحدثون الذين تناولوا كِتابة السيرة النبوية أو تاريخ الصدر الأول للإسلام، وتطرقوا إلى وصف مظاهر الحياة العربية في الجاهلية؛ لم يصوروا ذلك العصر وتلك البيئة تصويرًا يمكن أن يقال إن فيه غناء؛ على الرغم مما امتازت به بعض كتبهم من سلامة المنهج وقوة البحث؛ وذلك لأن بعضهم تناول موضوعًا واسعًا، وبعضهم قصد إلى معالجة جانب خاص أو تناول تاريخ الرسالة النبوية وحدها دون العناية بالحياة العربية قبلها، مع أن دراسة تاريخ الرسالة النبوية لا يمكن أن يكون واضحًا ومفهومًا إلا بدراسة العصر نفسه. ولم يتناول أحد -بصورة علمية منهجية- دراسة تاريخ المدينتين الحجازيتين -مكة والمدينة- في بحث متخصص، على اعتبار أنهما حاضرتا الحجاز، وقاعدة البيئة العربية التي قامت فيها النهضة في الجاهلية والإسلام.

وقد كتب كثير من المستشرقين عن ذلك العصر في سياق ما كتبوا عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم وظهور الإسلام. غير أن للمستشرقين طرائق في البحث والاستنباط قد تجعل

ص: 5

الكثيرين منهم يتحكمون تحكمًا في الآراء والنتائج، ويقعون في أوهام وأغلاط خطيرة، إما بسبب تعظيم خبر أو رواية قد لا تكون صحيحة في أصلها، أو تكون قد فهمت على غير وجهها الصحيح، أو رجحت دون مبرر صحيح للترجيح. وإما بسبب عدم القدرة على فهم روح اللغة العربية وأسرارها البلاغية. كما أن بعضهم في كثير من الأحيان يفترضون افتراضات تجعلهم يقيسون مع الفارق، ويسوغون ما لا يمكن تسويغه،؛ بسب عدم قدرتهم على فهم البيئة العربية فهمًا صحيحًا. فوق أنهم استندوا أصلًا إلى المصادر العربية القديمة وفيها من المآخذ ما أشرنا إليه، ولم تكن لهم القدرة اللغوية على تمحيص ما بها تمحيصًا صحيحًا. كما أن بعضهم قد كتب في تاريخ الإسلام لغرض معين، فكتب ما كتب بدافع الهوى، وأحيانًا بدافع الحقد. فلجئوا إلى كل شاردة من الروايات مهما كانت ضعيفة أو تافهة في سبيل تثبيت نظرية خاصة يريدون الإدلاء بها؛ فتورطوا في بحوثهم، وخرجوا بها عن جادة العلم والبحث والأمانة.

لكل ما سبق كان أمرًا ضروريًّا أن يقوم أحد الباحثين بدراسة علمية لهذه الفترة، وبخاصة تاريخ المدينتين الحجازيتين -مكة والمدينة- في العصر الجاهلي وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تسد هذه الثغرة الظاهرة في الدراسات العربية والإسلامية.

وإذا كنا نريد أن ندرس الحياة الجاهلية دراسة موثقة صحيحة؛ فعلينا أن ندرسها في نص لا سبيل إلى الشك في صحته، على أن يكون مرآة صادقة لهذا العصر، وليس هناك مصدر ثابت لا سبيل إلى الشك فيه غير القرآن الكريم، فضلًا عن أنه أصدق مرآة للعصر الجاهلي ولحياة الرسول صلى الله عليه وسلم والدعوة الإسلامية نفسها.

وحين نقول: إن القرآن مرآة الحياة الجاهلية فإنما ذلك لأنه ليس من اليسير أن نفهم أن القرآن نزل ليتلى على ناس لا يفهمونه ولا يقفون على أسراره ودقائقه؛ فإن الذين تليت عليهم آياته أعجبوا به أشد الإعجاب، ولا يكون ذلك إلا أن تكون بينهم وبينه صلة، هي هذه الصلة بين الأثر الفني البديع وبين الذين يعجبون به حين يسمعونه أو ينظرون إليه. كذلك فإن العرب قد آمن بعضهم بالقرآن وناهضه بعضهم الآخر، وجادل النبي صلى الله عليه وسلم فيه وقاومه، ولا يكون ذلك إلا لأن الناس فهموا القرآن ووقفوا على أسراره، وإلا لما آمن به مَن آمن وجادل فيه وناهضه من جادل وقاوم، وليس من الممكن أن نصدق أن القرآن كان جديدًا كله على العرب، وإلا لما فهموه ولا وعوه، ولا آمن به بعضهم وناهضه وجادل فيه آخرون. إنما كان القرآن جديدًا حقًّا في أسلوبه، وفيما يدعو إليه، وفيما شرع للناس من دين وقانون.

ص: 6

وقد عرض القرآن للحياة العربية من جوانبها المختلفة: الدينية والعقلية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.

فأما من الناحية الدينية، فقد رد القرآن على الوثنيين، ورد على اليهود، ورد على النصارى، وعلى الصابئة، والمجوس. وهو لم يرد على يهود فلسطين، ولا نصارى الروم، ولا مجوس الفرس، ولا صابئة الجزيرة وحدهم، وإنما رد على فرق من عرب الجزيرة العربية كانت تمثلهم وتدين بهذه الديانات والنحل كلها؛ فهو يبطل منها ما يبطل، ويؤيد منها ما يؤيد، وهو يلقى من المعارضة والتأييد بمقدار ما لهذه النحل والديانات من سلطان على نفوس الناس، وبمقدار ما لأصحابها من قيمة وخطر في الحياة السياسية والاجتماعية في بلاد العرب. ولا نجد هذا واضحًا في مصدر من مصادر البحث يمكن أن نرجع إليه غير القرآن الكريم. فالقرآن إذن أصدق تمثيلًا لحياة العرب الدينية من كل مصدر آخر، وهو إذ يصور لنا هذا الجانب من حياتهم إنما يصورهم أصحاب دين يجادلون عنه ويقاتلون في سبيله.

والقرآن لا يمثل الحياة الدينية وحدها؛ وإنما يمثل حياة عقلية قوية عند العرب، فهو يمثلهم ذوي قدرة على الجدل والخصام، ويشهد لهم في هذا بقوة الجدل والقدرة على الخصام والشدة في المحاورة، وهم لم يكونوا يجادلون في أمور بسيطة هينة من أمر الدين، وإنما كانوا يجادلون في مسائل عويصة معضلة أنفق الفلاسفة وينفقون فيها حياتهم دون أن يوفقوا لحلها: كانوا يجادلون في الخلق، والبعث والحساب، وفي إمكان اتصال الله تعالى بالناس، وفي الوحي والمعجزة وما إلى ذلك. والقرآن يصورهم أذكياء علماء، ولا يصفهم جهلاء ولا أغبياء، ولا يصفهم بالغلظة والخشونة كما يصفهم الواصفون.

ولا نقول هذا على العرب على الإطلاق، وإنما كان العرب كغيرهم من الأمم القديمة، منقسمين إلى طبقتين: طبقة المستنيرين الذين يمتازون بالجاه والمال والذكاء والعلم. وطبقة الذين لا يكادون يملكون حظًّا من هذا كله؛ وإنما كانوا تبعًا لسادتهم يسيرون حيث ساروا. وكذلك مثل القرآن العرب؛ فتحدث عن كبرائهم وما هم عليه من نعمة وما هم عليه من معرفة، كما تحدث عن جهالهم، وصور جفاء أعرابهم وغلظة أكبادهم وموت العاطفة عندهم.

ص: 7

والقرآن لا يمثل العرب أمة مدنية مستنيرة فحسب؛ بل ويمثلها أمة غير معتزلة لغيرها من الأمم، فهي ليست قابعة في صحاريها لا تعرف العالم ولا يعرفها العالم، وإنما كانت على صلة وثيقة بجيرانها من الأمم الأخرى، تشارك في نشاط العالم السياسي، وتهتم بسياسات الأمم الكبرى في ذلك الوقت من فرس وروم وأحباش، ولها مع هذه الأمم نشاط اقتصادي كبير؛ تحمل التجارة العالمية عبر صحرائها بين الشرق والغرب في رحلتي الشتاء والصيف. بل ويصورها القرآن عارفة بالبحر تتخذه طريقًا وتحصل منه على منافع كثيرة من الصيد والغوص، واحتفاء القرآن بالبحر وما يجري عليه من منشآت في البحر كالأعلام، ومَنُّهُ على العرب بالنعم التي يحصلون عليها من البحر كبير، يقطع بأن عرب الجزيرة العربية لم يكونوا يجهلون البحر، بل ولهم فيه نشاط ملحوظ وفائدة منه عظيمة.

فالعرب إذن لم يكونوا على غير دين، ولم يكونوا جهالًا ولا غلاظًا، ولم يكونوا في عزلة سياسية أو اقتصادية بالقياس إلى غيرهم من الأمم.

وكما عرض القرآن لحياة العرب الاقتصادية الخارجية، كذلك عرَض لحياتهم الداخلية. وقسمهم في هذه الناحية كذلك إلى: أغنياء مستأثرين بالثروة مسرفين في الربا، وفقراء معدمين ليس لهم من المال ما يقاومون به هؤلاء الأغنياء المرابين. وكما وقف القرآن يأخذ بيد الجهال ينير عقولهم ويرفع من كرامتهم، كذلك أخذ جانب الفقراء المستضعفين في صراحة وقوة وناضل عنهم وعن حقوقهم، وحارب المسرفين في ظلمهم. وسلك في ذلك مسالك مختلفة: من القوة والعنف حين حرم الربا وحمل على المرابين وأنذرهم بالحرب من الله ورسوله. ومن اللين والرفق حين أمر بالبر وحبب في الصداقة. ومن المزاوجة بين اللين والشدة حين فرض الزكاة وجعل للفقراء حقًّا في مال الأغنياء. كما أن القرآن عرض لتنظيم المعاملات ليحفظ الحقوق وليقيم العدالة بين المتعاملين.

وبالجملة فقد عرض القرآن لكل الحياة العربية من كافة نواحيها، لذلك كان مرآة صادقة للحياة العربية في الجاهلية.1.

1 انظر طه حسين: في الأدب الجاهلي "القرآن مرآة الحياة الجاهلية" ص 70-80 طبع المعارف.

ص: 8

وإذا كان القرآن مرآة للحياة الجاهلية، فهو مرآة أشد صفاء لحياة النبي صلى الله عليه وسلم وأطوار الرسالة الإسلامية والأحداث التي مرت بها، ولا يمكن أن يكون كتاب أوفى من القرآن وأوضح في تصويره في هذه الفترة.

والمصدر الثاني الذي يجب أن نعتمد عليه بعد القرآن هو الحديث الشريف، فإن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بما فيه من أوامر ونواه، قد تناولت الحياة التي كانت جارية في ذلك الوقت، وعرضت لكل ما كان قائمًا من نظم الحياة الدينية والفكرية والاجتماعية والسايسية والاقتصادية، فأقرت ما رأته صالحًا، وعدلت ما يستقيم بالتعديل، ونهت عما رأته ضارًّا أو فاحشًا من حياة الناس؛ فالحديث الشريف لذلك هو المصدر الذي يلي القرآن في الأهمية، على أن يرجع إليه في كتب الحديث الصحاح، وعلى أن يلم الباحث بما وضع علماء الحديث من قوانين التعديل والجرح لمعرفة أوثق الأحاديث.

وإذا كنا قد أخذنا القرآن والحديث مصدرين أساسيين لبحث هذه الفترة من حياة الأمة العربية، فليس معنى هذا أننا نهمل المصادرالأخرى من شعر وتاريخ وتراجم وأنساب، وكل ما عرض له القدماء من ذكر للحياة العربية. بل نأخذ من كل منها ما يعطي من طاقة؛ لتكون الصورة التي نرسمها واضحة تامة، بشرط ألا يناقض ما نأخذ منها ما له ذكر في المصدرين الأساسيين.

وأحسب أنني حين التزمت بالقيام بهذا البحث -الذي أقدمه للقراء في هذا الكتاب- قد بذلت ما في وسعي من طاقة، وأعطيته ما يتناسب مع أهمية الموضوع من جهد ووقت. وكل أملي أن أكون قد فتحت به بابًا لدراسة هذه الفترة العظيمة الأهمية من حياة العرب والإسلام. وحسبي هذا جزاء مكافئًا، والله وحده هو الذي يتولى الجزاء. ومنه الهدى وهو ولي التوفيق..

القاهرة في أول نوفمبر 1965

الدكتور

أحمد إبراهيم الشريف

ص: 9