الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد مرت مكة قبل استقرار أمرها في يد قبيلة قريش بطور من الاضطراب والحروب، والرحلات والغزوات القبلية، والقتال على السيادة، حتى استقر أمر مكة في آخر الأمر في يد قبيلة قريش في منتصف القرن الخامس الميلادي، وعلى يدها نالت كل هذا التوفيق الذي وصلت إليه.
وتحدث المصادر عن أن قبيلة خزاعة التي سبقت قريشًا على حكم مكة، والتي كانت لا تزال موجودة حول مكة عند ظهور الإسلام؛ كانت قد قامت بنشاط كبير في الدعاية للحج إليه، واهتمت بتيسير الماء والطعام للوافدين، ومعنى هذا أنها اهتمت بخلق مورد اقتصادي لمكة عن طريق قدوم الحجاج إلى البيت. ولا ندري أكانت خزاعة تقيم أسواقًا لنوع من التبادل التجاري بين الوافدين، أم كانت تكتفي بالهدايا والنذور، وما تحصله من ضرائب على القوافل المارة بها، إلى جانب القيام على الرعي وتريبة الإبل في البادية، وإن كان البيع والشراء أمرًا ضروريًّا في مثل هذه الحال، ولا نستطيع أن نحدد متى نشأت الأسواق التجارية حول مكة، وإن كان من المؤكد أنها نشأت بالتدريج في المنطقة الواقعة بين مكة والطائف نتيجة لنمو المدينتين ونمو الحج إلى بيت مكة. والراجح أن ذلك حدث بالتدريج منذ بداية القرن الخامس الميلادي. ويظهر ذكر عكاظ ومجنة وذي المجاز كأسواق تجارية وأدبية بصورة واضحة في القرن السادس، حين بدأ نفوذ الجنوب ينحسر عن هذه المنطقة من الجزيرة العربية، بعد اضطراب الأحوال في اليمن وتعرضها للغزو الأجنبي1، وظهور قبائل الشمال كعنصر فعال مناهض لنفوذ الجنوب، حتى انتقلت زعامة الشمال إلى الشماليين، وأصبح أهل الجنوب تبعًا لهم كلما وفدوا على الشمال. وقد وافق ظهور هذه النهضة الشمالية قيام قبيلة قريش وسيطرتها على شئون مكة، واهتمامها بالبيت الحرام وتنشيط الحج إليه، وكان هذا عاملًا فعالًا في نهوض المدينة المكية ونهوض هذه المنطقة كلها تبعًا لذلك.
1 جواد علي 4/ 191. البتنوني 199 "اتخذ العرب عكاظ سوقًا بعد الفيل بخمس عشرة سنة".
تجارة قريش الداخلية والخارجية
*
…
تجارة قريش:
تاجرت قريش في كل ما تنتجه شبه الجزيرة العربية من عروض، كما كانت تتاجر كذلك في المجلوبات الخارجية من حاصلات الشرق والغرب.
قد انتفعت مكة بموقعها الجغرافي في منتصف طريق التجارة، وبوجود البيت الحرام بها. ولما كانت بلدًا غير ذي زرع فقد اعتمدت على التجارة وما يجلب لها من
الخارج، وقد كانت مكة قبل القرن السادس تقتصر على التجارة الداخلية حيث كان النشاط التجاري الخارجي في يد اليمن. وكان أهل مكة يتاجرون في حاصلات الجزيرة العربية، أو ما يصل إلى أيديهم من عروض التجارة الخارجية على يد تجار اليمن، ولم تكن مكة تجني من وراء ذلك أرباحًا كبيرة تمكن أهلها من إحراز ثروة كبيرة، إنما كانت تسمح لهم بالإعاشة. ولكن في بداية القرن السادس كانت حالة اليمن قد تدهورت نتيجة للصراع الداخلي بسبب الخلاف الديني نتيجة لانتشار اليهودية والمسيحية فيها والتنافس بين الدينين؛ ونتيجة لوقوعها في منطقة التصارع الدولي بين الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية البيزنطية، وقد استخدمت الأخيرة الحبشة حليفتها لإقرار النفوذ الرومي على جنوب بلاد العرب عن طريق غزو اليمن، وتكررت غزوات الحبشة على اليمن حتى سقطت في يدها في النصف الأول من القرن السادس، وقد استمر حكم الحبشة لليمن حتى أخرجهم منها الفرس في حوالي سنة 575م ولم تتحرر اليمن من الاحتلال الأجنبي إلا بعد ظهور الإسلام وانضمامها إلى الدولة العربية الإسلامية.
وقد أدت كل هذه الظروف إلى أن تفقد اليمن مركزها التجاري. وقد صحب ذلك ظهور نهضة القبائل المضرية في الشمال، والتي ما لبثت أن تحررت من نفوذ الجنوب، بدأت تقوم بدور إيجابي في الجزيرة العربية. ولما كانت مكة في ذلك الوقت قد حظيت بنوع من الاستقرار والتنظيم على يد قبيلة قريش، التي نظمت الحج ونشطت القدوم إلى هذه البقعة المتوسطة، وأقرت حرمتها وحرمة الأشهر الحرم للقدوم إليها والتجمع في أسواقها؛ فقد أخذت قريش تحتل المكانة التجارية التي كانت تحتلها اليمن، وقد ساعدها على أن تنال هذا المركز النزاع الذي احتدم أواره بين الفرس والبيزنطيين في الشمال، وانشغال كل من هاتين الدولتين الكبيرتين بهذا النزاع الدموي، وكذلك ما لحق الممالك العربية على أطراف العراق والشام من تدهور نتيجة لاشتراك المناذرة -ملوك الحيرة- في هذا الصراع إلى جانب الفرس، واشتراك الغساسنة إلى جانب الروم، ثم تغير سياسة الدولتين الكبيرتين تجاه المملكتين العربيتين1 الأمر
1 حتى 100،95،94.
الذي أدى: أولًا، إلى قفل طريق التجارة المار بالعراق فمدن الشام، وثانيًا، اضمحلال نفوذ هاتين المملكتين على القبائل البدوية، حتى لم تعد الحيرة قادرة على حماية التجارة الفارسية في بلاد العرب، إلا عن طريق إتاوات تدفعها لهذه القبائل1، لتمرير هذه التجارات وحمايتها، وحتى مع دفع هذه الإتاوات فإن القبائل كانت كثيرًا ما تعتدي على التجارة، وقد تجرأت فدخلت في حرب ضد الدولة الفارسية وهزمت جيوشها وجيوش الحيرة معها في موقعة ذي قار2 وهي الموقعة المشهورة عند العرب. كذلك اضطربت الأحوال بين الروم والغساسنة حتى لقد أخذت هذه المملكة تهاجم أطراف الدولة البيزنطية مع القبائل البدوية بعد أن كانت تحمي حدودها.
وقد استفادت مكة من هذه الظروف كلها لتحتل مركز الوسيط المحايد، لنقل التجارة بين الشمال الجنوب، ولبعد موقعها عن نفوذ الدولتين ولحاجة الدول إلى هذه التجارة العالمية وبخاصة الروم؛ فقد قبلت أن يقوم رجال مكة بهذا الدور، فخرجت مكة عن عزلتها إلى المجال الخارجي، وأخذ رجالها عهودًا من الدول للمتاجرة في أراضيها في نهاية القرن الخامس الميلادي3 لتسمح لتجار قريش أن يدخلوا بلادها في سلام، وقد قام بهذا الدور أبناء عبد مناف: هاشم وإخوته الذين كانوا أصحاب النفوذ الأقوى في قبيلة قريش4.
وقد كان هاشم رجلًا حكيمًا نشيطًا، واستطاع أن يقوم على ترتيب القوافل التجارية؛ فجعل لها رحلتين في السنة رحلة في أشهر الصيف إلى الشمال، ورحلة في أشهر الشتاء إلى الجنوب، وقد ذكر القرآن خبر هاتين الرحلتين في معرض تعداد فضل الله على قريش5، وقد عمل على تأمين طرق القوافل بما عقده من محالفات مع
1 ابن الأثير 1/ 378.
2 نفسه 1/ 291.
3 حتى 94 جواد علي 4/ 139- 140 "إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ولد في سنة 570 م، ومات جده عبد المطلب بعد ذلك بثماني سنوات وهو في سن الثمانين، فمعنى ذلك أن عبد المطلب ولد في حوالي سنة 498 م، ومات والده هاشم بعد ذلك بقليل، وكان قد أخذ عهدًا منن الروم للمتاجرة في الشام، فمعنى ذلك أن هاشمًا فعل ذلك في نهاية القرن الخامس تقريبًا" انظر ابن هشام 1/ 180 اليعقوبي 1/ 201، 10/ 2/2 الطبري 2/ 12/ 32.
4 الطبري 2/ 12- 13. ابن الأثير 1/ 10 اليعقوبي 1/ 201.
5 انظر سورة قريش، ابن هشام 1/ 147.
رؤساء القبائل الضاربة على جنبات طرق التجارة، فكان يحمل لهم تجاراتهم دون أجر؛ وبذلك ربط هاشم مصالح القبائل الاقتصادية بمصلحة مكة، وكون بذلك شبكة تجارية تربط مكة بما حولها، وبذلك أخذت قريش تسيطر شيئًا فشيئًا على التبادل التجاري بين الشمال والجنوب، وعظمت قوافلها حتى لتبلغ القافلة الواحدة خمسمائة وألفي بعير تحمل عروض التجارة المختلفة. وقد بلغ قيمة ما تحمله قافلة عدد جمالها خمسمائة وألف بعير خمسين ألف دينار1، وهو مبلغ كبير إذا قِسناه بقيمة العملة في تلك الأيام. وكانت القوافل تحمل حاصلات الجنوب؛ فتحمل من حاصلات الهند المنتجات التي ترد إلى مواني الجنوب، وأهمها الذهب والقصدير والحجارة الكريمة والعاج وخشب الصندل والتوابل والأفاوية كالبهار والفلفل ونحوهما، والمنسوجات الحريرية والقطنية والكتانية والأرجوان والميعة والزعفران والآنية من الفضة والصُّفَّر والحديد. كما تحمل من حاصلات أفريقيا الشرقية العطور والأطياب وخشب الأبنوس وريش النعام والجلود والذهب والعاج والرقيق2. كما تحمل من حاصلات اليمن البخور واللبان والمر واللادن والعطور والحجارة الكريمة كاليشب والعقيق والجلود ذات الرائحة الطيبة3. ومن حاصلات جزيرة سقطرة العود والند، ومن البحرين اللؤلؤ.
وتحمل من الشمال القمح والدقيق والزيت والخمر ومصنوعات فينيقيا4. هذا بالإضافة إلى ما تحمله من حاصلات بلاد العرب نفسها من الزيت والبلح والقرظ والصوف والوبر والشعر والجلود والسمن5.
كان تجار مكة يحملون هذه البضائع إلى الشمال والجنوب في رحلات الصيف والشتاء. وكانت البضائع تفرغ في مكة، ثم تخرج منها في القوافل إلى الجهات الأخرى. وقد اعتمد الروم على تجارة مكة إلى حد كبير، وخصوصًا بعد أن احتدم الصراع بينهم وبين الفرس، وأصبح الفرس يسيطرون على التجارة الواردة عن طريق الشمال المار
1 اليعقوبي 1/ 202. بودلي 35- 38.
2 الطبري 2/ 181 جورج فضلو: العرب والملاحة 76.
3 الطبري 2/ 57 الواقدي 65. الأغاني 1/ 64- 65، جورجي زيدان: العرب قبل الإسلام 151.
4 ابن هشام 1/ 147، أنساب الأشراف 1/ 58- 90 جورجي زيدان: نفسه 178- 179.
5 الطبري 2/ 125.
بخليج العرب ثم العراق، ويمنعونها من الوصول إلى أيدي أعدائهم أو يبيعونها لهم بأثمان باهظة، فكانت بيزنطة تعتمد على تجارة مكة وخاصة الحرير، حتى ليستظهر بعض المؤرخين الغربيين أنه كان في مكة بيوت تجارية رومية تزاول التجارة للروم، كما كان فيها أحباش يرعون مصالح قومهم1. وكانت القوافل التي تقصد الشام تتسوق من أسواق عينتها لها الحكومة البيزنطية؛ لتحصل منها على الضرائب ولتراقب الوافدين الأجانب إلى بلادها، فكانت تنزل أيلة -العقبة- ومنها إلى غزة حيث تتصل بتجار البحر المتوسط، ومن غزة يذهب بعض التجار إلى بُصرى وإلى بيت المقدس2.
كما كان لمكة صلات قوية بالحبشة عن طريق البحر الأحمر، ولا بد أن أهل مكة كانوا يستعملون البحر في نقل متاجرهم إلى الحبشة عن طريق ميناء الشعيبة - وكانت الشعيبة ميناء مكة، إليها ترد السفن قبل جدة، ثم أخذت جدة موضعها في أيام الخليفة عثمان بن عفان3- أو بعض مواني اليمن القريبة، ويظهر من روايات الأخباريين أن أهل مكة كانوا يستعملون هذا المرفأ والمرافئ القريبة منهم؛ للاتصال بالحبشة والمواني الأفريقية المقابلة لهم، فلا يدفعون ضرائب المرور من أرضين تقع في اليمن وهي منافسة لهم، ولا يحتاجون إلى وضع حماية قوية على القوافل لمرورها بين قبائل عديدة إذا استعملوا مواني اليمن، فتكلفهم أسعارًا مرتفعة. ثم إن اليمن بعد زوال الأحباش عنها كانت في حكم حاكم فارسي، ولا بد أن تتأثر تجارة اليمن بالحبشة بهذا التغير في الحكم، ولا بد أن يؤثر ذلك في المواني اليمنية وهي أبواب التجارة مع أفريقيا4.
أما أهل مكة فكانوا تجارًا محايدين علاقتهم حسنة مع الروم ومع الفرس، وكان من مصلحتهم الوقوف على الحياد، ولهذا كان من مصلحتهم الاستفادة من المواني القريبة منهم في التجارة مع الحبشة، ولا يستبعد استخدام أهل اليمن هذه المواني.
1 Olear ، op. cit. pp 184 فجر الإسلام 15.
2 البخاري 1/ 4 ابن الأثير 2/ 10 فجر الإسلام 15.
3 ياقوت 11/ 351 الطبري 2/ 69، جواد علي 4/ 203، جورج فضلو: العرب والملاحة ص4.
4 جواد علي 4/ 204.
كذلك لحيادها ولبعدها عن النزاع السياسي الذي كان بين الفرس وبين الحبشة وحلفائهم الروم. ولذلك لا تحدثنا الروايات كثيرًا عن قوافل الجنوب، بينما كانت قوافل قريش متصلة دائمًا نحو الشمال، كما تحدثنا عن رحلات بحرية إلى الحبشة التي كانت لقريش متجرًا ووجهًا1. ولعل من مؤيدات اتساع هذا الأفق التجاري البحري الهجرة التي قام بها المسملون إلى الحبشة2 وليس من المعقول أن يهاجر المكيون إلى بلدلم يكونوا يعرفونه، وهذه المعرفة تدل على أن هذه البلاد التي اتصل بها المكيون في أسفارهم التجارية3.
وفي القرآن ذكر كثير لمصر ونهرها وما يتفرع منه من أنهار. وما يقوم فيها من أهرامات وقصور، وأرض زراعية وعمران4، وآيات القرآن تلهم أن أهل مكة كانت لهم صلاة بمصر. وأن أسفارهم التجارية قد وصلت إليها وأنها قد رأوها وشاهدوا نيلها وأرضها وآثارها، على أن صلة العرب بمصر قديمة؛ فإنهم كانوا يتاجرون فيها وينقلون إليها حاصلات الجنوب من البخور والمر الذي كان لازمًا لمعابدها، وقد عثر على نقش على تابوت في الجيزة مكتوب بالخط العربي الجنوبي وباللهجة المعينية، وهو مؤرخ بالسنة الثانية من حكم بطليموس بن بطليموس أي سنة 261 ق. م، ويدل النقش على أن معينيًّا كان يسمى زيد -إل بن زيد، كان يشتغل بالكهانة في أحد المعابد المصرية، كان يستورد المر والزرير -قصب الطيب- Calamus من بلاده للمعبد ويصدر إليها على السفينة التجارية التي يملكها أثوابًا جميلة من البز المصري5.
ولا بد أن هذه التجارة في حاصلات الجنوب التي كانت لازمة لمصر كانت مستمرة بعد ذلك، وأنه بعد انتقال التجارة إلى يد قريش، كان تجار قريش يقومون بنقل قسط من هذه التجارة، وأن منهم من وصل إلى مصر وتاجر فيها، وقد عرف المكيون الأقشمة المصنوعة في مصر، وكانوا يسمونها القباطي.
1 الطبري 2/ 32، 69، 295 الأغاني 8/ 52.
2 انظر سورة النحل 41، 110، الطبري 2/ 68- 69.
3 أنساب الأشراف 1/ 380، حتى 128.
4 انظر كلًّا من سورة الفجر 10- 11 الزخرف 51 الحج 45 - 46 الروم 9.
5 العرب والملاحة البحرية ص 6.
والآيات القرآنية التي تشير إلى البحر وعواصفه وما يجري فوقه وما يستخرج من جوفه1، والتي يمتاز بوضوحها وجلائها الرائع، ليست إلا صدى للنشاط التجاري والاتصالات البحرية بين الحجاز والحبشة وغيرهما. ومع ما في هذه الآيات من تعدد لنعم الله، إلا أنها بما تحمل من طابع الخطاب القريب تدل على أن الكلام موجه إلى المخاطبين القريبين وهم أهل احجاز وأهل مكة بنوع خاص، وتدل على ما كان لهؤلاء من صلة بالأعمال البحرية المتنوعة، وما كان يقوم في ثغور الحجاز وسواحله من حركة وملاحة، وصيد وغوص، وما كان لأهل الحجاز وبخاصة مدنه وتجاره من منافع عظيمة، وكثرة الآيات وتكرار التعداد وتنوع الأساليب، وهذه الحفاوة القرآنية في الإشارة إلى البحار وما فيها وما يجري فوقها وما يعود منها من المنافع العظيمة يمكن أن تدل على أن حركة الملاحة والصيد والغوص لم تكن ضعيفة2، وأنها كانت مما يعول عليه أهل الحجاز في معاشهم وحياتهم التجارية والاقتصادية تعويلًا غير يسير، وأنهم كانوا يعرفون البحر وركوبه ويستخدمونه في أغراضهم المختلفة.
ولم تكن قريش حين سيطرت على التجارة تملك سفنًا في البحر الأحمر، ولكنها من غير شك كانت تنقل تجارتها من الحبشة وإليها عبر هذا البحر، ولا بد أن أهل مكة كانوا يستخدمون سفنًا تعمل لحسابهم3.
أما صلات قرييش بالفرس فلم تكن على قدر كبير؛ لأن التجارة مع فارس كانت في يد عرب الحيرة الذين كانوا يدبرون أمر وصول هذه التجارة إلى أسواق العرب، وكانوا يحملون لهم من هذه الأسواق ما هم في حاجة إليه من حاصلات الجزيرة العربية، ومع ذلك فقد كانت تجارة قريش تدخل بلاد فارس عن طريق قوافل تخرج من مكة إليها، عبر الطريق الصحراوي المار بشرقي يثرب4 إلى العراق، وتحدثنا الروايات عن أشخاص من رجال مكة ماتوا في طريق عودتهم من العراق5.
1 انظر كلًّا من سورة الأنعام 97، التوبة 96، يونس 22، النحل 14، الإسراء 66، النور 43، فاطر 12، الشورى 31- 32، الرحمن 19 -24.
2 الأغاني 3/ 118.
3 الجاحظ، البيان والتبيين 1/ 207.
4 الطبري 2/ 181.
5 ابن الأثير 2/ 10، ياقوت 10/ 249.
وكانت التجارة التي تحمل من الجنوب أو من الشمال أو من الشرق تفرغ في مكة، حيث تستهلك البيئة المحلية منها ما تحتاج إليه؛ ثم يحمل الباقي إلى الأماكن المحتاجة إليه، فتحمل حاصلات الجنوب إلى الشمال، كما تحمل حاصلات الشمال إلى الجنوب، فوق ما يحمل معها من حاصلات البادية العربية، مما تجمعه قريش من تجارة أهل البادية والمدن الحجازية، مما يحمل إلى مكة أو إلى الأسواق القريبة منها في عكاظ ومجنة وذي المجاز في موسم الحج. وقد كانت صلات مكة التجارية كبيرة بالطائف التي كانت تنتج مقادير كبيرة من الزبيب والنبيذ الذي كانت تستهلك مكة منه كثيرًا، ومن الجلود المدبوغة، وكان المكيون يشركون أهل الطائف أحيانًا في قوافلهم التجارية1 كما كانت صلات مكة التجارية كبيرة بيثرب، حيث يمتار أهل مكة من تمرها ويشترون كثيرًا مما تنتجه من الحلي والسلاح التي كان اليهود يقومون على صناعتها2.
وكانت في مكة سوق دائمة للتبادل التجاري وبخاصة مع القبائل القريبة منها، حيث تشتري مكة حيوانات الجزيرة ومنتجاتها من جمال وخيل وحمير وسمن وقرظ وجلود، وتبيعه لمن يحتاج إليه من الأعراب3، كما تبيعهم ما يحتاجون إليه من المجلوبات الخارجية، وكانت تجارة الملابس والأطعمة والشراب رائجة في مكة، وبخاصة في موسم الحج. وصارت مكة تعج بالتجار من كل ناحية وبخاصة من أهل الشام والروم والفرس، فساكنوا المكيين وتحالفوا مع أثريائهم، وقد اتخذوا فيها مستودعات لخزن بضائعهم وتصريفها، وكان تجار الشام خاصة يجلبون القمح والزيوت والخمر الجيدة إلى تجار مكة4، وقد ورد في كتب السيرة والرجال أسماء بعض هؤلاء ممن كانوا من بلاد الشام في الأصل، ثم سكنوا مكة ودخلوا في الإسلام من أمثال تميم الداري 5 وكيسان 6.
1 ابن كثير 3/ 221.
2 البخاري 3/ 60.
3 ابن الأثير 1/ 344، ابن كثير 3/ 45.
4 أسد الغابة 4/ 158.
5 نفسه 5/ 145.
6 نفسه 4/ 258.
وقد ذكر المستشرق أوليري oleary أن مكة أصبحت مركزًا للصيرفة يمكن أن يدفع فيها التجار أثمان السلع التي ترسل إلى بلاد بعيدة، كما كانت عملية الشحن والتفريغ لهذه التجارة الدولية تتم هناك، وكذلك كان يتم التأمين على المتاجر وهي تجتاز الطرق المحففوة بالمخاطر1، وقد كان يساعد قريشًا على تأمين تجارتها ما كانت تتمتع به من حرمة عند العرب، وما كان لها من ارتباطات مع القبائل الضاربة على طول طرق التجارة.
ولم تكن قوافل مكة تجارة أفراد؛ وإنما كانت تجارة مدينة، وكانت قريش كلها تشارك فيها، وكان كبار التجار يقومون على هذه القوافل التي تضم أموالًا لأفراد متعددين، منهم من يسافر على تجارته، ومنهم من يستأجر آخرين، ومنهم من يقرض ماله للمتاجرة على النصف، وأحيانًا كانت القافلة تحمل أموالًا لأهل مكة جميعًا2.
ولم تكن التجارة خاصة بالرجال دون النساء، فكان منهن ثريات اشتغلن بالأعمال التجارية، مثل خديجة بنت خويلد التي كانت تتجر بمكة، وكانت تستأجر الرجال للسفر بتجارتها إلى الشام3، ومثل الحنظلية أم أبي جهل التي كانت تتاجر في العطور تجلب لها من اليمن 4، وقد أشار القرآن إلى ذلك حيث قال:{وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء] وكانت المرأة لا تنكح إلا ولها مال5. وعلى ذلك فتجارة مكة الخارجية ليست تجارة أفراد، وإنما هي تجارة جماعية.
وقد أدى نشاط بعض أسر مكة في التجارة إلى حصولها على ثروات طائلة، وقد أسهم رجل واحد من أهل مكة هو أبو أحيحة بن سعيد بن العاص بن أمية بثلاثين ألف دينار في القافلة التي كان يقودها أبو سفيان، وكانت السبب في موقعة بدر سنة 2هـ 6، ومبلغ مثل هذا ليس بالشيء القليل بالنسبة للوضع المالي في تلك الأيام. كذلك كان
1 O،lery، Arabia Befofore Mohammad، P. 182
2 الواقدي، المغازي 18.
3 أسد الغابة 1/ 16، ابن كثير 2/ 294- 295.
4 الأغاني 1/ 64- 65.
5 سير أعلام النبلاء 1/ 231.
6 الواقدي، المغازي 18.