الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في أن يرث مولاه إذا مات من غير وارث. وكان يحدث في بعض الأحيان أن يتخذ المعتق مولاه ابنًا أي يتبناه، وفي هذه الحالة كانوا يطبقون ما يطبق بالنسب، بمعنى أنه لا يجوز لمعتق أن يتزوج من زوجة متبناه إذا طلقها أو مات عنها. وهذا هو الباب المفتوح لترقي طبقة العتقاء في السلم الاجتماعي. وقد ظلت هذه الحالة في الجاهلية حتى إذا جاء الإسلام ألغى نظام التبني هذا كله1، فرد المتبنين إلى آبائهم:{ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب] . ولقد كانت هذه العادة شديدة الاستحكام حتى احتاج أمر إبطالها إلى قوة نفسية خاصة مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يقوم بذلك بنفسه ومع نفر من آل بيته، ومع ذلك فقد داخل النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الإشفاق، وداخل زينب بنت جحش -وهي ابنة عمته التي زوجها لمتبناه زيد، ثم طلقها زيد فتزوجها محمد صلى الله عليه وسلم وأهلها كثير من التردد حتى احتاج الأمر إلى نذير من القرآن:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب] وحتى عوتب النبي صلى الله عليه وسلم على إشفاقه: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا} وحتى نزل القرآن ردًّا على الذين تحدثوا في هذا الأمر ونقدوه على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب] .
1 البخاري 5/ 82.
دستور القبيلة
كان للقبائل العربية دستور عرفي عام، يشترك فيه كل أفراد القبيلة، وهذا الدستور ينحصر في كلمة واحدة هي: العصبية. وإذا كان الدستور هو القانون الأساسي؛ فإن قواعده كلها انبنت على العصبية، وهذه الكلمة مذكورة كثيرًا في كتب التاريخ والأدب، فما مدلولها؟
إذا بحثنا عن المعنى اللغوي لهذه الكلمة في معاجم اللغة نجد أن: العَصب هو الطي الشديد، وكل شيء استدار بشيء فقد عَصَبَ به، ويقال: عصب القوم بالرجل عصبًا أي أحاطوا به لقتال أو حماية، وعصب القوم بالنسب أحاطوا به، وعصبة الرجل
بنوه الأقربون1. والعصبية أن يدعو إلى نصرة عصبته والوقوف إلى جانبه ظالمين أو مظلومين. هذا هو المعنى المفهوم من كلمة عصبية. ولقد كان شعار العصبية في الجاهلية: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا؛ فالعصبية تعبر عن غريزة الدفاع الكامنة في كل كائن مادي أو معنوي، بصرف النظر عن العدالة وعدمها.
والعصبية في الفطرة بمنزلة القومية أو الوطنية في العصور الحديثة، وهذه الروح هي روح التضامن الشديد التي يعتز بها المجتمع القبلي، ولقد كانت قوية جدًّا في القبائل العربية على خلاف المعروف في المجتمعات الحضرية.
وإذا بحثنا عن مصدر القوة الوطنية في أمة حية، نجده المصلحة العامة؛ لأنه لو ترك الأمر لكل فرد من أفراد الأمة في أن يعمل كما يرى في المسائل العامة؛ لانهدم النظام وانهارات الأمة، فالمصلحة العامة أساس هذا الروح الذي يجعل كل فرد من الأمة يسهم بنصيب وافر في طريق واحد لغاية واحدة يصبو إليها الجميع. لكننا نلاحظ -حتى في المجتمعات الحديثة- شيئًا آخر غير المصلحة العامة، والحقيقة أن المصلحة مقياس جاف، إذ إن الوطنية تقوم على شيء آخر يُذْكيها إلى جانب المصلحة، ذلك هو عامل الشعور؛ لأن عاطفة الوطنية إذا لم تغذ بالشعور تصبح فاترة. فالوطنية الملتهبة هي التي يذكيها ويحركها الشعور، وللشعراء والكتاب والأدباء نصيب كبير في إذكاء هذا الشعور، إذن فالمصلحة العامة والشعور هما قوام العصبية العربية كما أنهما أساس القومية الحديثة.
ولقد كان من مصلحة القبيلة أن تكون يدًا واحدة في كل الأحوال؛ لأنها إذا انقسمت على نفسها في أمر ما تلاشت، فالمصلحة كانت -ومازالت- تقتضي وجود التضامن الشديد، إذ إن القبيلة محاطة بالأعداء، فانقسامها معناه ضعفها وتلاشيها. أما عن عامل الشعور فكان كل فرد في القبيلة يحس بأنه مدين في كل شيء عنده إلى قبيلته؛ فهي التي حمته وترعرع بين ظهرانيها حتى صار رجلًا، فكان لزامًا عليه أن يخلص لها ويتفانى في الدفاع عن شرفها، ومن يطالع الشعر الجاهلي يجد الشاعر قد أذاب شخصيته -أو كاد- في شخصية القبيلة، ففضائلها ومحامدها العامة هي فضائله
1 لسان العرب، مادة ع ص ب. المصباح المنير 564- 565.
ومحامده الذاتية1. وكان الشعور بالاندماج في القبيلة أقوى من مثيله في المجتمعات الحديثة، وذلك يرجع إلى تصورهم الخاص للقبيلة. فنحن إذا ذكرنا دولة من الدول فإنما نعني جمعًا من الناس ينزلون أرضًا واحدة، ويستظلون سماء واحدة ينتفعون بخيرات مشتركة، وقد يكون من هؤلاء المتجنسين بجنسية هذه الدولة المتمتعين بحقوق المواطنة فيها مَن هم في أنفسهم مِن أجناس أخرى ومنابت أخرى. بينما نجد الحال على عكس ذلك في المجتمع العربي، فقد كانت القبيلة صورة تامة بالمعنى الحرفي لكلمة أسرة. فإذا قيل بنو أسد مثلًا كان معنى ذلك أن رجلًا اسمه أسد عاش في الزمن القديم، وتوالدت عنه هذه الأسرة التي أصبحت قبيلة اتخذت اسم رئيسها الأول كنية لها، فكل هذه القبيلة إخوة بالمعنى الصحيح يتغلغل في عروقهم دم واحد هو دم أبيهم القديم. حقيقة كان في القبيلة من ينتمي إليها من غير أبنائها عن طريق الولاء، إلا أن صلب القبيلة كان من أبنائها الذين يردون نسبهم إلى أصلها، ثم إنه كان من ناحية أخرى النسب العربي العام الذي يرد العرب أنفسهم جميعًا إليه، فهؤلاء الموالي يجتمعون مع القبيلة في النسب العام وتربطهم بها المصلحة المشتركة. والحق أن الإنسان إذا شعر بأنه من أسرة فإن شعوره نحوها يكون أشد من شعوره إذا كان فردًا من أمة؛ لأن المسألة حينئذ تكون أبوة أو أخوة أو عمومة، ويكون موقفه هنا غير موقفه هناك2. فإذن مصدر قوة العصبية عند العرب هو شعورهم بأنهم أفراد أسرة واحدة.
والعصبية كانت قوية شديدة الأثر في حفظ التوازن بين الجماعات القبلية التي يتألف منها المجتمع العربي، وفي دفع الناس بعضهم ببعض وصيانة حقوقهم وكرامتهم، بل وحياتهم.
وبالرغم من أن الإسلام جاء بالقضاء على العصبية القبلية، وجعل المسلمين كلهم إخوة بغض النظر عن قبائلهم، فإن سلطان العصبية وشدة رسوخها ظل قويًّا، وكان لها أثر فعال في كثير من أحداث التاريخ الإسلامي وسيره وتطوره حتى القرن الثالث الهجري، أي حتى ضعف العنصر العربي، وإن ظل أثرها باقيًّا بعد ذلك في أقاليم
1 انظر معلقة عمرو بن كثلوم حيث لم يتحدث الشاعر عن نفسه إطلاقًا، وإنما اندمج في حديث عن قبيلته ومحامدها العامة، وهو بذلك كأنما يتحدث عن نفسه ويفخر بمحامده الشخصية، وهذه المعلقة تعبير صادق عن روح التفاني في الجماعة القبلية. "جمهرة أشعار العرب ص157 وما بعدها: الطبعة الأولى. مصر 133".
2 انظر: ابن خلدون، المقدمة 143- 144.