الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المغرب الإسلامية، وذلك بالرغم من تندر القرآن بها وتحذيره منها استهدافًا لخلق مجتمع إسلامي أساسه إطار أعم من الأخوة الدينية العامة، والمصلحة المشتركة بين الذين يتألف منهم هذا المجتمع، وولاية المسلمين بعضهم بعضًا بغض النظر عن اختلاف البطون والقبائل والأجناس1.
وإذن، فإن ملاك الكيان القبلي هو قرابة الدم، والإيمان بالقبيلة، وتقديس مصالحها.
1 انظر سورة آل عمران، 103. النساء، 144. المائدة، 55- 57. الأنفال، 62- 64، 71، 72، 75 التوبة، 23، 71. الحجرات، 9. الممتحنة، 1. المجادلة، 12.
مستويات العصبية الاجتماعية
للعصبية مظاهر تبدو ما فيها نستطيع الوصول إليه من قراءة الأخبار التي وردت في أيام العرب، ومن خلال أشعارهم، ومن الآيات القرآنية التي وردت فيها. وهذه المظاهر هي:
1-
عصبية العشيرة وذوى الأرحام:
كان أفراد العائلة الواحدة أو الفخذ أو البطن، أي أفراد الوحدة الاجتماعية الصغرى، الذين تجمع بينهم الأرحام القريبة يتضامنون في الدفاع عن بعضهم، والاستنصار لبعضهم في مختلف المواقف: فهم أفرادًا وجماعة، مطالبون بالتضامن في الدفاع عن سمعة الوحدة وشرفها ومصلحتها المشتركة؛ وحفظها من العدوان عليها في داخل القبيلة أو خارجها، كما أنهم جميعًا مطالبون بجريرتها، حتى ولو كانوا متنافرين في العقيدة والميول، فهي عندهم أقوى من الإيمان الديني، ولقد ظهر هذا النوع من العصبية واضحًا جدًّا في أول ظهور الإسلام، وكان له أثر كبير في الأحداث التي وقعت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فلقد وقف بنو هاشم يحمون النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ضد بقية بطون قريش استجابة لعصبية الرحم والقربى، بالرغم من بقائهم على دين آبائهم:{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَاّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام] 1 حتى لقد قاطعتهم قريش من أجل ذلك وحصرتهم في أحد شِعاب مكة ثلاث سنوات2. وحتى أبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان قد شذ ومالأ قريشًا، فإنه
1 تفسير الطبري 11/ 312- 314.
2 ابن هشام 1/ 371 وما بعدها.
لما مات أبو طالب ذهب إلى محمد يقول له: "يا محمد، امضِ لما أردت وما كنت صانعًا إذا كان أبو طالب حيًّا فاصنعه، ولا واللات لا يوصل إليك حتى أموت"1.
ولقد أبقى الإسلام على رابطة العشيرة والأرحام فلم يمحُها بل جعلها داخل النطاق العام، فقد بقيت على العشائر النفقات التي ليست ذات صبغة خاصة محضة وخصوصًا دفع الدية وفداء الأسرى، كذلك أبقى للعشيرة مسألة الولاء2. كذلك أراد الإسلام الانتفاع بسلطان هذه العصبية العشيرية في تقريب الناس للإسلام بدعوة المخالفين إلى مهادنة المسلمين. {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء] 3 فهو يهتف بهم أن يتقوا الأرحام التي يتساءلون بها ويعز عليهم أمرها ويتأثرون بها في حياتهم المادية والمعنوية، ثم إنه كان يذكر قريشًا بالرحم التي بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم وبأنه لا يحرص على إيمانهم وهداهم إلا استجابة لعاطفة الرحم التي تدعوه إلى الحرص على خيرهم، كما يجب أن تدعوهم لتصديقه واتباعه، فهو غير متهم في مصلحة أهله {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى] كما أنه دائمًا كان يذكي روح المسلمين، ويعير المنافقين والمتخاذلين بأنهم إنما يقطعون أرحامهم بجبنهم عن نصرة إخوانهم {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد] . ومع أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم كانت شاملة عامة، إلا أنه كلف أول ما كلف بأن ينذر عشيرته الأقربين {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِين} [الشعراء] حتى إذا آمنوا انتصروا له فكانوا درعًا يحول دون أذَى الناس له، ولقد جرى الإسلام في هذا على مفهوم الوضع الاجتماعي في المجتمع العربي على أن موقف أقاربه من عدم تصديقه كان له أثر كبير في مقابلة أهل مكة الدعوة بالفتور والاستخفاف، إذ قد جرت العادة أن يتابع الشخص أقرباءه بدافع العصبية فهم ينتصرون له ويتفاخرون به ويفاخرون به غيرهم.
ولقد واجه المسلمون كثيرًا من الحرج والمشاكل نتيجةً لعصبية الأرحام خاصة، فقد كان يحدث أن يكون الابن أو الأخ أو الأب في صفوف المسلمين، والأب أو الأخ
1 ابن سعد: الطبقات: 1/ 195.
2 انظر الصحيفة التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. ابن هشام، 2/ 121- 123.
3 تفسير الطبري 7/ 518- 520.
أو الابن في صفوف المشركين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيحدث الحرج، وتبدو الميول العصبية؛ مما اقتضى نزول القرآن بالزجر الشديد عن متابعة هذه الميول:{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة] . والروايات المتواترة تذكر مواقف لبعض المسلمين دفعتهم إليها عصبية الرحم، فتذكر كيف ظهر القنوط والأسف على وجه أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة حينما رأى مصرع أبيه في معركة بدر1. وكذلك موقف حاطب بن أبي بلتعة حينما كتب لقريش ينبئها باستعداد النبي صلى الله عليه وسلم لغزو مكة مصانعةً لها على أهل له وولد بين قريش2.
وتظهر شخصية العشيرة في بعض المواقف مثل:
ولاية الدم:
كان من المعروف في التقاليد العربية أن للقتيل وليًّا أو صاحب دم يطالب به. ويكون حقه في هذا الطلب معترفًا به من الجميع من القبيلة أو من غيرها. بحيث يكون له بذلك سلطان. أي حق واجب يجب نصره للحصول عليه {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا} [الإسراء] والولي أو صاحب الدم إنما يكون من عصبة القتيل القريبة، ليس من الضروري أن يكون ابن القتيل أو أباه أو أخاه- وإن كان هؤلاء هم أصحاب الحق الأول- بل يكون رئيس العشيرة باعتباره ممثلًا للعائلة التي يعد القتيل قتيلها والدم دمها. وهذا التقليد هو الذي حدا بمعاوية بن أبي سفيان، دون أبناء عثمان، أن يقوم مطالبًا بدم الخليفة المقتول على اعتبار أنه ولي الدم بصفته رئيسًا للبيت الأموي3.
العقل:
وكما يتضامن ذوو القربى والأرحام في الأخذ بالثأر، كذلك يتضامنون في العقل -والعقل هو توزيع وجمع الدية عن قتيل- إذا تم صلح أو حكم قاضٍ بدفع الدية
1 ابن هشام 2/ 282- 283. ابن الأثير 2/ 90.
2 ابن هشام 4/ 16- 17. ابن الأثير 2/ 163.
3 ابن كثير، البداية والنهاية 7/ 227، 256.
والكف عن الثأر بالدم -فيجمع ذوو القربى والأرحام هذه الدية، التي تدفع كذلك إلى أهل القتيل الذين هم ذوو رحمه وقرباه، والذين تجعلهم تقاليد عصبية الأرحام القريبة أصحاب الحق بدمه، فتوزع الدية عليهم، كما يشير القرآن الكريم إلى ذلك {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء] 1 وهذه الآية تلهم وجود هذا التقليد على الوجه الذي أشرنا إليه، وبخاصة وهي توجب تسليم الدية إلى أهل القتيل. وهو تعبير يمكن أن يكون أوسع نطاقًا من أب أو أم أو أخ أو ابن.
2-
عصبية القبيلة:
كان أفراد القبيلة ببطونها وعشائرها يتضامنون تجاه القبائل الأخرى في الحروب والدماء، والدفاع عن المصالح والتبعات المشتركة، ويتناصرون حسب الشعار القبلي "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا" ويتعاونون على المغارم، فكل فرد في القبيلة يرى أن الاعتداء على فرد منها إنما هو اعتداء واقع عليه، وأن من واجبه أن ينتصر له ويدفع عنه، أو يأخذ بثأره إذا قتل ممن اعتدى عليه أو من أي فرد من أفراد قبيلته، وإذا نشبت حرب يين قبيلتين تضامن أفراد كل قبيلة في الدفاع والهجوم مهما كان الباعث على هذه الحرب، حتى ولو كانت ميولهم وعواطفهم متباينة. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة يمكن أن نستخلص منها ما كان للعصبية القبلية من شأن كبير في المجتمع العربي، ظهر أثره في الصراع بين مكة والمدينة في أيام النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان في المدينة منافقون ومشركون لم يمنعهم أن يشاركوا المسلمين في القتلال أنهم كانوا يخالفونهم في الدين وفي الميول، وذلك بدافع العصبية القبلية. وتشير الآية {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران] إلى أن بعض المسلمين قد ذكر المنافقين بأنه لا يجوز لهم أن يخذلوا قومهم، وأنهم إن لم يقاتلوا في سبيل الله ففي سبيل الدفاع استجابة لداعي العصبية القبلية، وكان
1 أسد الغابة 1/ 99 "حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: إن عمر كان يقول: الدية على العاقلة لا ترث المرأة من دية زوجها، حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها".
جوابهم أنهم لو تأكدوا من وجود القتال لتضامنوا معهم1 كذلك تذكر الروايات أن رجلًا يدعى "قزمان" قاتل يوم أحد قتالًا شديدًا وقتل عددًا من المشركين، حتى إذا خلصت إليه الجراح وسقط حُمل إلى أحد الدور، وعاده بعض المسلمين وقال له أحدهم:"أبشرْ يا قزمان فأجابه: بماذا أبشَّر! فوالله ما قاتلت إلا عن أحساب قومي"2.
وقد كانت بعض بطون من القبائل الضاربة حول المدينة تريد مسالمة المسلمين والدخول في عهدهم، ولكنها كانت يصيبها الحَرج، فتشترط حسن الصلة مع المسلمين على ألا تتضامن مهم ضد قومها أو ضد حلفاء قومها، وإلى هذا تشير الآية القرآنية {إِلَاّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنْ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمْ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء]3.
فالعشيرة كانت تدين بالولاء للقبيلة ولا تخرج عليها لظروف قاهرة، كما أن القبيلة كانت ملتزمةً بتأييد عشائرها، فإذا حدث خلاف فإنه كان من الممكن أن توقع القبيلة جزاءً على العشيرة فتخرجها أو تقاطعها، كما حدث في مقاطعة قريش لبني هاشم، وقد تعلن القبيلة هذا القرار بالنسبة للعشيرة كما كانت تعلن قرار الخلع بالنسبة للأفراد، وقد يحدث أن تكتب بذلك صحيفة. وقد سقنا هذه الأمثلة عن الحالة قُبيل ظهور الإسلام لأن ذلك أوضح وأثبت، مع أنه يمكن الإتيان بأمثلة كثيرة من أيام العرب وما كان يحدث بين بطونها من منافساتٍ وخلافاتٍ تجعل البطن أو العشيرة يخرج من القبيلة أو أن القبيلة تخرجه.
كل هذا يدل على قوة العصبية القبلية وأنها كانت راسخةً قويةً، واحتاج المسلمون للقضاء عليها إلى تحذير شديد من جانب القرآن وإلى تكرار الآيات التي تنتهي عنها، ومع ذلك ظلّت آثارها زمنًا طويلًا أثّرت تأثيرًا خطيرًا في حياة الدولة الإسلامية بعامة، والعنصر العربي فيها بنوع خاص.
3-
عصبية الأحلاف القبلية أو الأحزاب:
كثيرًا ما كانت تقوم بين القبائل مخالفاتٌ ومواثيق لتقف صفًّا واحدًا متساندًا أمام بعض الدواعي، فتنشأ الأحلاف بين القبائل لصيانة المصالح المشتركة أو لضرورة السلم
1 تفسير الطبري 7/ 378- 379.
2 ابن هشام 3/ 37- 38.
3 انظر أسد الغابة 1/ 89.
بين المتجاورين أو عن طريق المعاهدة بين رجالها؛ فتنشأ بذلك عصبية بين هذه القبائل المتحالفة تدفعها إلى التضامن في الحروب والتعاون في تبعات الدماء1.
وكان الحلف بين القبائل قد يستمر جيلًا بعد جيل ولا ينقضي إلا بسبب أحداث جسيمة وعندئذٍ يصبح صلة لاحمة بين القبائل المتحالفة. وقد استمرّ هذا النوع من التحالف وتبعاته إلى ما بعد البعثة النبوية. وقد ورد في القرآن آيات كثيرة تتحدّث عن الأحزاب والمخالفات: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب] . وتعني هذه الآية قريشًا وحلفاءها من القبائل التي تحالفت معها على غزو المدينة في موقعة الخندق. كما أن اليهود في المدينة كانوا متحالفين مع العرب فيها قبل الإسلام، بعضهم حالف الأوس وبعضهم حالف الخزرج ووقف كل فريق مع حليفه في الحرب بالرغم من تعارض هذا مع أحكام التوراة، وقد ندّد القرآن بموقفهم هذا وعيّرهم بمخالفتهم للتوراة في قتالهم بعضهم جريًا وراء مصالحهم الذاتية التي يجلبها الحلف القبلي2 كما أن هذه المحالفات قد ظلّ أثرها بعد الهجرة، حيث ظل الأوس والخزرج متمسكين بحلفهم مع اليهود. وتشير بعض الآيات إلى هذا التمسك3، كما تشير إلى ثبات المنافقين من أهل المدينة في تحالفهم هذا ووعدهم اليهود بالمناصرة إذا قوتلوا وبالتضامن إذا أخرجوا {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ} [الحشر] . ولم يكن هذا مقصورًا على المنافقين بل ظلّ بعض المؤمنين متأثرين به بالرغم من موقف اليهود تجاه الإسلام، ولعل هذا سبب من أسباب صبر النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود بالرغم من لجاجهم معه وظهور العداوة منهم، وذلك لعوامل الحلف التي كانت تربط بينهم وبين الأوس والخزرج، حتى يستقرّ الإسلام في يثرب ويصبح سلطانه على النفوس أقوى من سلطان
1 انظر ابن الأثير 1/ 210 وما بعدها. العقد الفريد 5/ 133 وما بعدها "عن أيام العرب ويه ذكر لمحالفات القبائل" كذلك الأغاني 2/ 242- 243، 316، 3/ 38.
2 انظر سورة البقرة 84-85.
3 انظر سورة آل عمران 119.
الحلف، مما استدعى تشديد النهي عن موالاة اليهود في آيات متعددة1. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عقد كثيرًا من المحالفات بينه وبين القبائل العربية الضاربة حول المدينة وبينهما وبين مكة، كما تحالف مع اليهود. ومما يلفت النظر في المعاهدات التي وقعها النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان بعضها لمدة معينة كما يشير القرآن إلى ذلك في قوله تعالى: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة]2. ولعله لاحظ فيها تطور الدعوة الإسلامية وإمكانياتها المقبلة.
على أن عصبية التحالف القبلي، ليست أصلية، إذ أنها حالة طارئة اقتضتها ظروف المصلحة المشتركة، وذلك على عكس عصبية الأرحام أو العصبية القبلية فإنها عصبية أصلية تستمد وجودها من القرابة والدم، والمصلحة المتحدة الطبيعية بين أبناء القبيلة الواحدة الذين يكونون في الغالب من أرحام وقربى وإن تباعدت في النسب، ثم بين أبناء العشيرة الواحدة الذين تجمعهم صلة الدم والرحم القريبة.
وعلى هذا فالعصبية في قوة التأثر بها والاستجابة إليها من عصبية الأسرة، إلى عصبية العشيرة، إلى عصبية الفخذ، إلى عصبية البطن، إلى عصبية القبلية، إلى العصبية الناشئة عن الحلف3 وهذا التفاوت في قوة العصبية والتأثر بها والاستجابة لها متسق مع طبائع الأشياء، وقد جرى الإسلام حين جاء على هذا الأساس، فقد كلف النبي صلى الله عليه وسلم أن يتدرج في دعوته من عيشيرته الأقربين، وهم أمسّ به رحمًا والمظنون أن يكونوا أقرب استجابةً له، ثم لينذر أمّ القرى "مكة" ومن حولها "العرب" ثم الناس جميعًا.
ونحن إذا نظرنا إلى القبائل من ناحية الترابط المتبادل بينها فإننا نخطئ إذا اتهمنا العرب بالفردية، والمجتمع العربي بالجمود والتشتت، فالواقع أن القبائل كانت متصلةً متداخلةً، وكذلك كانت متحركةً متقلقلةً، لا تكاد تتخذ شكلًا معينًا حتى يعرض لها من ضرورات الصلة والجوار ومؤالفة المجتمع ما يجعلها تندغم في غيرها، أو تدخل معها
1 انظر سورة آل عمران 28. انظر تفسير الطبري6/ 314. وسورة آل عمران 118- 119. وسورة النساء 114. وسورة المائدة 51.
2 وانظر سورة الأنفال 55، 56، 72. التوبة 1/ 74. ابن هشام 2/ 224، 236.
3 انظر ابن خلدون المقدمة، ص144، 145.
في شكل معين من الحلف أو الجوار، فقد كانت هناك حركة نشيطة فيما بين أفراد القبائل، كما كانت حركة نشيطة فيما بين القبائل نفسها؛ تلتقي، وتتباعد، ويؤلف ببينهما الحلف أو الجوار، كما تفرقها العدوات والحروب. على أن تقليد التضامن الاجتماعي والعصبية كان ركنًا من أركان حياتهم الاجتماعية، بل أقوى أركانها. على أن العصبية الاجتماعية سواء منها عصبية الأرحام أو عصبية القبلية أو عصبية التحالف، حاجة طبيعية في حياة الأمة التي تعيش في طور البداوة بوجه عام؛ لأنه لا يمكن حفظ التوازن والحقوق والدماء في هذا الطور بدونها. ولقد أخذت عصبية التحالف في الازدياد قبيل البعثة النبوية أي في أواخر العصر الجاهلي، فقد أخذت القبائل تتكتل في مجاميعَ كبيرةٍ، وكان هذا إحساسًا من القبيلة العربية بأنها لا تستطيع أن تعيش في مجالها الضيق، وأنها بحاجة إلى غيرها من القبائل التي تؤاخيها وتربط مصيرها بمصيرها، وكان هذا الميل إلى التحالف والتجمع مسايرًا للنهضة العربية التي بدت تباشيرها في القرن الأول قبل البعثة وشملت الحالة السياسية والدينية والفكرية عند العرب، والتي مهدت لظهور النهضة الكبرى التي جاء بها الإسلام بعد ذلك.
عصبية التقاليد:
كان العرب يتعصبون لتقاليدهم وموروث عاداتهم تعصبًا شديدًا، يرون في ذلك فضيلة لا معدى عنها، وجزءًا لا ينفصل من حياة المجتمع، ولو أدّى إلى الحرب وإراقة الدماء والمواقف المهلكة، وقد بلغ من قوة العصبية للتقاليد، أن أصبحت عندهم دِينًا يرون الأخذ من أمر الله {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف] 1 {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة]2.
1 تفسير الطبري 12/ 379.
2 وانظر سورة لقمان 21. تفسير الطبري 3/ 317، 11/ 137.
وكانوا يعتبرون ماهم عليه من تقاليد دينية واجتماعية متنوعة هي من مشيئة الله ورضاه؛ ولذلك فهي الأهدى والأصلح، وقد توارثوها أبًا عن جد، ولم لم تكن كذلك لمنعهم الله عنها1. وهذا يفسر لنا الموقف الشديد الذي اتخذه أهل مكة ضد الدعوة الإسلامية وضد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فإن قوة العصبية للتقاليد التي كانت من العوامل المؤثرة في ذلك من غير شك، كما أنها حالت دون كثير من ذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم والدخول في الإسلام استجابةً لعصبية التقاليد، في الوقت الذي كانوا ينصرونه فيه ويقفون إلى جانبه ويحمونه استجابةً لعصبية الرحم، وعلى رأس هؤلاء عمّه أبو طالب الذي غلبته عصبية التقاليد على أمره2 بالرغم من معرفته لصدق النبي صلى الله عليه وسلم وبالرغم من إعجابه وإعجاب بني هاشم به، وما كان لهم من الفخر بظهور نبيّ ورجل عظيم منهم؛ إلا أن سلطان عصبية التقاليد كان شديدًا لدرجة أنه تغلّب على سلطان عصبية الرحم في نفَس واحد من بين هاشم، هو أبو لهب الذي شذّ على عشيرته وانضم إلى مناوئيهم استجابةً لعصبيةِ التقاليد الموروثة.
وهناك حالة تثبت قوّة عصبية التقاليد، وهي زواج النبي صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش مطلقة متبنّاه زيد بن حارثة، وقد كان مثل هذا الزواج محرمًا في الجاهلية، إذ كان المتبنى يعامل كالابن بالنسب- وكان إلغاؤه من الأمور الجسيمة التي تحتاج إلى قوّة نفسية كبيرة حتى ليتولّى كسر هذا التقليد النبي صلى الله عليه وسلم نفسه ومع ناس من أهل بيته أولًا، والنبي صلى الله عليه وسلم نقسه قد تحرّج من هذا الأمر وأشفق من الرأي العام حتى عوتب في القرآن، كذلك أشفقت زينب- وهي ابنة عمة النبي صلى الله عليه وسلم وأشفق أخوها، واحتاج الأمر إلى شيء من الإنذار للمؤمنين بأن يخضعوا لأمر الله3. وكذلك اشتبه في وقوع قتال في الشهر الحرام في إحدى السرايا التي أرسلها النبي -صلى الله عيه وسلم- في آخر رجب من السنة الثانية من الهجرة إلى بطن نخلة بين الطائف ومكة لتتعرف أخبار قريش، فالتقت بعير لقريش فقتلت أحد حرّاسها واستولت عليها، وانتهزت قريش هذه الفرصة فشنّت حربًا من الدعاية ضد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين لتثير الرأي العام العربي لحرمة التقاليد، وقد
1 انظر سورة النحل 35. وسورة الأنعام 148. وتفسير الطبري 12/ 208.
2 انظر ابن هشام 2/ 27.
3 انظر سورة الأحزاب 36- 40.
أثّرت هذه الضحية التي أحدثتها قريش في المسلمين أنفسهم في المدينة، حتى احتاج الأمر إلى بيان من القرآن الكريم، يوضّح الموقف ويردّ على دعاية قريش1.
ومن قوة التعصّب للتقاليد نستطيع أن ندرك الحكمة في الإبقاء على كثير من التقاليد التي كان عليها العرب قبل البعثة. وسواء ما كانت منها متصلًا بحياة الناس الاجتماعية والعائلية أو ما كان له صبغة دينية؛ فقد كانت التقاليد راسخة بحيث كان الناس يعتبرونها جزءًا من كيانهم الاجتماعي الديني. وكان إلغاؤها يمكن أن يحدث كثيرًا من العقبات في سبيل انتشار الدعوة الإسلامية، لذلك تدرّج التشريع الإسلامي فألغى ما لا بد من إلغائه مما يتعارض مع جوهر الدعوة وأهدافها، أو كان فيه فحش ينبو عن الذوق الحسن، أو كان متنافيًا مع المصلحة العامة كالزواج من زوجة الأب والجمع بين الأختين والزنا والتخادن والمسافحة، والطواف العاري بالكعبة والذبح للأنصاب، وحرمة صيد البحر عند الإحرام، واكتفى بتهذيب الباقي تهذيبًا يجعله مفيدًا ومنسجمًا مع أسس الدعوة الإسلامية وأهدافها، أو غير متناقص معها، وكذلك تدرّج في التحريم -مثل تحريم الخمر- حتى لا يصطدم التشريع بتقاليد الناس وراسخ عاداتهم اصطدامًا شديدًا، كذلك وضع من الأسس ما يسمح بالتصرف بما يكون هو الأصلح كالاكتفاء بزوجة واحدة لعدم استطاعة العدل بين الزوجات المتعددات. كذلك يجعل أمر الأسرى للسلطان يَمن عليهم أو يفاديهم، حتى يقضي على الرق في المستقبل.
فنحن إذن أمام بيئة محافظة تحرص على التمسّك بعرفها القديم وتدافع عن وتستميت في هذا الدفاع حفاظًا على كيانها.
أثر العصبية في المجتمع العربي من الناحية السياسية
إذا كانت العصبية ذات أثر شديد من الناحية الاجتماعية في حفظ التوازن بين الجماعات القبلية التي يتألف منها المجتمع العربي وفي إقامة الروابط بينها، وفي دفع
1 انظر سورة البقرة 217- 218، وتفسير الطبري 4/ 199- 216. وابن هشام 2/ 240-242.
الناس بعضهم ببعض، وصيانة حقوقهم وكرامتهم بل وحياتهم، فإن هذه العصبية الضيقة قد حالت دون تكوين مجتمع واحد كبير تصهر فيه جميع الوحدات القبلية، بل إنها على العكس من ذلك أوجدت مجتمعات صغيرة لكل منها كيانه السياسي الخاص؛ فغاية ما فكّر فيه العصبي الجاهلي من الناحية السياسية أنه إنسان ينتمي إلى قحطان أو عدنان، وذلك إذا تساهلنا وقلنا: إن مصطلحي "قحطاان وعدنان" ظهرا قبل الإسلام. بل حتى في صدر الإسلام كانت هذه النظرة الجاهلية الضيقة التي حاربها الإسلام لا تزال مستحوذةً على عقلية أكثر الناس، وقد عمل بها حتّى رجال الدولة الذين كان من واجبهم محاربتها ومقاومتها. وذلك لأغراض سياسية، وكان من نتائجها إضعاف القومية العربية واستغلال قحطان وعدنان لإسقاطهما على السواء. أما الأحلاف القبلية فلم تكن غايتهما قومية بعيدة وإنما كانت لمنافع ومصالح ذات أهداف ضيقة.
وكذلك ساعدت العصبية الضيقة على عدم الاستقرار؛ لكثرة الأطراف وحتمية التنازع بينها نظرًا لظروف البيئة العربية من الناحية الطبيعية والاقتصادية، وقد أدى التنافس والخلافات بين القبائل إلى الانزلاق في كثير من الأحيان إلى مستوى المنافسات التافهة، الأمر الذ ي أدّى إلى الشعور بعدم الرضا، وأوجد الرغبة لدى العقلاء وأصحاب الرأي إلى ضرورة توجيه العصبية توجيهًا قوميًّا ودينيًّا. وقد أحسّ المجتمع العربيّ بهذه الضرورة إحساسًا واضحًا قبيل ظهور الإسلام، وما إقرار هدنة الأشهر الحرام ومنع القتال فيها وإقرار الأمن، وكذلك الاتجاه نحو كثرة المحالفات وقيام الكتل الكبرى، ومحاولة رد العرب أنسابهم إلى أصل واحد أو أصلين كبيرين، إلا ظاهرة من ظواهر هذا الإحساس الذي أحس به المجتمع العربي كضرورة اجتماعية وسياسية، وكان ظهور الإسلام آخر الأمر متوِّجًا لهذا الإحساس العربي.
النسب
إذا كانت القبيلة قد اتخذت العصبية دستور حياتها، فإن هذه العصبية إنما هي ثمرة للنسب، فالعصبية آتية من فكرة القرابة وصلة النسب الحقيقي أو ما يجر مجراه من حلف أو ولاء أو جوار. وهذا المعنى هو الذي نعقد لإبرازه هذا العنوان. وقد كتب ابن خلدون فصولًا إضافية عن العصبية واتخذ النسب وصلة الدم أو ما يقوم مقامه أساسًا لها. وقد أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تعلموا من أنسابكم ما تصلون به
أرحامكم" بمعنى أن النسب إنما فائدته هذا الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة والنعرة، وما فوق ذلك مستغنى عنه1.
ولقد كان أفراد القبيلة يعتقدون أنهم أفراد أسرة توالدت من أب واحد، بل ردّوا أصول القبائل كلها إلى أبٍ واحد وعنه نشأت هذه المجاميع الهائلة. ولكن بعض المؤرخين يشك كثيرًا في نسب القبائل؛ فإنه ليس من السهل معرفة الجد الأول لأسرة تتوالد منذ مئات السنين، وهم لم يخرجوا بعد عن عهد الفطرة، بل ذهب بعض المؤرخين إلى أكثر من ذلك، وتساءلوا هل ترجع العصبية حقيقيةً إلى أسرة أم إلى شيء آخر؟
وقد تناول هذا الموضوع المؤرخ الإنجليزي "روبرتسون سميث Robertson smith في كتابه: Kinship and Marriage in early Arabia" الذي يعد نموذجًا للبحث العلمي بالطريقة المستقصاة. وتتلخص نظريته في أن القبيلة ليست أسرةً، بل إنها خليط من الناس ككل الجماعات الأخرى، لا يربطها رابطة النسب، بل رابطة الصلة والتضامن، ثم رابطة الديانة الفطرية التي تسمى طوطمية Totemism وهذه الديانة عبارة عن مرحلة من مراحل الاعتقادات الفطرية توجد في المجتمعات الأولية "Primitive societies" ولا تزال موجودة عند القبائل التي لم تتحضر في أفريقيا وآسيا وأمريكا. وقد وجدت عند الأمم القديمة كاليونان والرومان واليهود وربما عند المصريين2.
وكان هذا الطوطم "Totem" حيوانًا أو نباتًا أو جمادًا، تعبده القبيلة تعتقد أنها تناسلت منه بشكل خفيّ غامض، وأن دمه يجري في
عروقها، ويقول هذا المؤرخ سميث: إن هناك ثلاثة شروط أساسية لوجود الطوطمية Totemism:3
1-
أن توجد قبائل ذات أسماء حيوانية أونباتية أو جمادية.
2-
أن تعتقد هذه القبائل تناسلها من هذه الكائنات.
3-
أن تعبد هذه الكائنات.
1 عن العصبية والنسب. انظر مقدمة ابن خلدون من 145- 152.
2 "انظر": Smith، P. 217- 251
3 Op. Cit.P.219
ويقول: إن هذه الأدلة متوافرة في المجتمع العربي القديم: فبنو كلب وبنو نمر وبنو أسد أسماء حيوانية، وبنو حنظلة اسم نباتي، وبنو صخر وبنو جندل اسمان جماديان. أما الشرط الثاني الذي يدل على التناسل فهو الكنية الموجودة في اسم القبيلة "بني"؛ فقبيلة كلب وقبيلة أسد مثلًا تقول: إنهم بنو كلب وبنو أسد، وهذا راجع لاعتقادهم أن القبيلة من أصل واحد1. وأما الشرط الثالث فإنه وجد في المجتمع لاعتقادهم القديم قبائل كانت تقدس حيوانات أو نباتات، ومعنى التقديس هنا هو أن يحرموا ذبح ذلك الحيوان أو النبات ويمنعوا أكله، وإذا مات الحيوان؛ فإنّهم يحتفلون بدفنه عند موته. ومن معبودات العرب القدماء يغوث وكان على صورة أسد2 ونسر كان على صورة نسر3، كذلك كانوا يعتقدون في العزّى تحلّ في ثلاث شجرات، فلما ظهر الإسلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدم معبد العزى وبقطع الشجرات.
كذلك كانت القبيلة العربية تعتقد أن دمها مقدّس يجب المحافظة عليه، مما يدل على اعتقادها بأنها متناسلة من معبودها؛ ولذلك فإن أي قتل من القبيلة يعتبر اعتداء على القرابة الروحية التي تربط القبيلة بعضها ببعض، ومن هنا تتضح قوة الثأر عند العرب القدماء، كذلك كان لا يدخل في القبيلة أجنبي إلا بعد إجراءات وطقوس للعمل على امتزاج دم هذا الأجنبي بالقبيلة نفسها.
وإذا ناقشنا نظرية سميث رأينا أنها لم تطبق تطبيقًا صحيحًا على المجتمع العربي؛ فإنه حقيقة توجد قبائل لها أسماء حيوان أو نبات أو جماد، لكن هذه الأسماء أسماء أشخاص وليست أسماء رموز أو طواطم، فإن القبائل التي تسمّت بهذه الأسماء لم تعتقد بانحدارها عن حيوان أو نبات أو جماد فبنو أسد مثلًا يعتقدون أنهم من نسل رجل يسمى "أسد" وليس من نسل الأسد الحيوان الرمز الإلهي "الطوطم" فقد ردّوا "أسد" نفسه إلى أب وإلى جد أعلى، ولم يعتبروه جدًا إلا لهذه القبيلة التي هي فرع من أصل كبير مردود إلى أب أعلى معروف بإنسانيته. وكذلك الحال في بني
1 op. cit. p. 223- 224
2، 3 ليس عند ابن الكلبي ما يشير إلى أن يغوث كان على صورة أسد أو أن نسرًا كان على صورة النسر، وودًا وسواعًا ويعوق، كانوا على صورة الناس "الأصنام 51" وأن يغوث كانت تعبده مذحج، ونسرًا كانت تعبده حمير "نفسه 25".
فهد وبني حنظل وبني صخر وغيرهم. وهذه الأسماء مشهورة متعددة عند العرب وليست أسماء آلهة، كما أن هذه القبائل التي لم تعبد آلهة بهذه الأسماء بل لا يوجد من الأصنام العربية من هو بهذه الأسماء، وإذا كان "سميث" قد أشار إلى يغوث على أنه كان على صورة الأسد أو إلى نسر على أنه كان على صورة النسر، فإن ابن الكلبي لا يصفها بهذه الصفات؛ وإنما وصفها بأنها على صورة الآدميين، كما أن بني أسد لم يعبدوا "يغوث" ولم يوجد من يسمى بنو نسر. هذا إلى أن تقديس العرب لبعض الأشجار أو الأصنام لم يستتبعه انتسابهم لها، كما أن عبادة الحيوان أو الطير لم تكن موجودة في بلاد العرب، ولم يقدس العرب حيوانًا أو طيرًا فيحمونه ويحتفلون بدفنه كما هو الحال عند غيرهم. أما رابطة العصبية؛ فقد دعت إليها ظروف المجتمع القبلي وحاجة الناس فيه إلى التضامن الشديد حفظًا لدمائهم وأموالهم، في مجتمع لا توجد فيه حكومة مركزية تقيم القانون وتحمي الحقوق. وغاية ما في الأمر أنه وجدت آثار تشبه ما لهذا النظام الطوطمي في بلاد العرب، وليس ببعيد أن يكون هذا النظام قد مرّ في طور من أطوار بعض القبائل، إلا أنه لم يرتبط بأنساب العرب إطلاقًا.
وهناك مسألة أخرى تتصل بهذا الموضوع، وهي أنه كان في القبائل العربية ما يعرف بالخئولة والعمومة، والأولى هي القرابة من ناحية الأم، والثانية هي القرابة من ناحية الأب. ولقد كان للخئولة شأن جليل في العصر الجاهلي بخلاف ما كان لها في الإسلام. ومسألة الخئولة رابطة يردها "سميث" إلى الطوطمية فيقول: إن نظرية الطوطمية في المجتمعات العربية القديمة تحرم الزواج من داخل القبيلة نفسها، أي أن الإنسان لا يتزوج من قبيلته، بل يتزوج من خارجها. ولقد كانت المرأة تمكث في قبيلتها ولذلك نجد أن الطفل ينشأ فيجد نفسه بين أخواله ومن هنا كانت القبيلة تتعصب لزوج المرأة، والأولاد يتصعب لهم أخوالهم، ولما انتقلت الزوجة إلى قبيلة زوجها أصبح الأولاد يفخرون بأخوالهم عند اللزوم. ومع تقدم المجتمع انتقلت المرأة إلى قبيلة زوجها، وتخلفت عن ذلك ذكريات هي الأصل في الفخر بالخئولة والتعصب لها؛ إنما أخذت تظهر قوة العمومة نتيجة لوجود الزوجة بقبيلة زوجها. ولقد أدى ذلك إلى أنه بعد أن كان الزوج ضعيفًا بالنسبة لزوجته أصبح سيدًا عليها، وارتفع شأن العمومة لدى الأولاد الناشئين1.
1 Geralp de gaury، Rulers of Mecca، p. 25. smith، p. 92.
ولكن نظرة إلى أنساب العرب تنقض هذا القول فإن العرب ذكروا نسب المرء لأمّه كما ذكروه لأبيه، ونجد زواجًا كثيرًا وقع بين الأقارب والقريبات من بنات العم، وليس هذا في الجاهلية القريبة فحسب، وإنما هو موجود في الجاهلية البعيدة؛ الأمر الذي ينقض نظرية الطوطمية في هذا الموضوع. ثم إن العرب لم يكونوا يتجافون عن زواج القريبات تحت تأثير الفكرة الطوطمية وإنما كان ذلك تحت تأثير فكرة الوراثة التي تقول أن التزاوج بين الأقارب يورث الأولاد أضعف صفات النوع.
قال الشاعر العربي:
تجاوزت بنت العم وهي حبيبة
…
مخافة أن تُضْوِي على وليدي
على أن التصنيف المعروف للقبائل العربية هو حاصل عرف جرى عليه النسابون. ونحن لا نعرف تدوينًا للأنساب عند أهل الجاهلية، وإن عرفنا أناسًا اشتهروا بمعرفة النسب في الجاهلية وفي أول الإسلام من أمثال أبي بكر الصديق وغيره؛ وإنما نعرف أن أول تدوين رسمي هو التدوين الذي تم في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حين وضع ديوان الجيش، وظهرت الحاجة إلى تسجيل القبائل فسجلت، ولم تصل إلينا -ويا للأسف- سجلات هذا الديوان، ولم يصرح أحد من النسابين أنه أخذ مادة أنسابه من تلك السجلات. وإنما الذي بين أيدينا هو خلاصة وجهة نظر النسابين في أنساب القبائل، وعلى
هذا التقسيم اعتمد المعنيون بهذا الموضوع.
على أن أمر تقدير النسب في حد ذاته أمر بالغ غاية الصعوبة، وذلك لما يعرض له من التداخل، نتيجة للظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت تحياها القبائل العربية. فلم يكن المجتمع العربي من التحاجز والتباعد بحيث تعيش كل قبيلة منفصلة عن غيرها في إطارها الخاص وفي جوها المتميز، ولا يكاد يكون بينها وبين غيرها إلا الغارات أو الحذر من الغارات؛ وإنما كان هناك حركة دائمة تسوق هذه القبائل وتقارب بينها، فإن القبائل كانت متصلة متداخلة وكانت كذلك متحركة متقلقلة لا تكاد تتخذ شكلًا معينًا حتى يعرض لها من ضرورات الصلة ومصالح الجوار ومؤالفة المجتمع ما يضطرها إلى أن تنصهر أو تندغم في قالب جديد، فكثيرًا ما كانت بطون من القبائل تضطرها الظروف الاجتماعية أو الاقتصادية إلى أن تفارق قبائلها وتتصل بقبائل
أخرى عن طريق الحلف أو الجوار، ثم لا تلبث أن تندمج فيها وتنتسب إليها، ثم قد يطرأ لها ما يجعلها تخرج عنها إلى أخرى فتعدل نسبها إليها1، كذلك كان يحدث أن تهاجر بعض البطون من قبائل متعددة ثم تلتقي في مكان واحد فيجمعها الجوار وتربط بينها المصلحة المشتركة، وقد يكون بعضها من الشمال وبعضها من الجنوب، ثم يقع بينها الحلف فتصبح قبيلة واحدة، قد تتخذ اسمها من المكان أو الإقامة أو التجمع، كما تكونت قبيلة تنّوخ على أطراف العراق2. وقد يختلط الأمر على النسابين حين تتشابه أسماء القبائل وتتعدد هجراتها فينسبون إلى الشمال قبائل من الجنوب وينسبون إلى الجنوب قبائل من الشمال، ويقع لذلك بينهم كثير من الخلاف3.
وكما كانت الحركة نشيطة بين القبائل كانت كذلك أشدّ نشاطًا بين الأفراد4، فلم تكن تبعية الأفراد للقبائل، في مثل الصرامة التي استقرت في الأذهان ولم تكن نسبة الفرد إلى قبيلته هذه النسبة الحادة التي لا تعرف التحول ولا تستطيع الإفلات؛ وإنما يبدو أنه كانت هناك حرية واسعة يستطيع معها الأفراد من قبيلة أن يغادورها إلى قبيلة أخرى، فينزلون عليها وينتمون إليها ويبنون بنساء منها وتكون لهم هذه القبيلة مجتمعًا جديدًا، ويختلط بنوهم بنسبها، وأكبر مَثَلٌ لذلك شأن قبيلة بجيلة حين ولّى عليهم الخليفة عمر "عرفجة بن هرثمة" فسألوه الإعفاء منه، وقالوا: هو فينا لصيق، أي دخيل، وطلبوا أن يولي عليهم جرير بن عبد الله5، فسأل عمر عن ذلك فقال عرفجة:"صدقوا يا أمير المؤمنين، أنا رجل من الأزد أصبت أدمًا في قومي ولحقت بهم" فانظر كيف اختلط عرفجة ببجيلة ولبس جلدتهم ودعي بنسبهم حتى رشح للرياسة عليهم لولا علم بعضهم بوشائجه، ولو غفلوا عن ذلك وامتد الزمن لتنوسي، وعدّ منهم بكل وجه ومذهب6، وكذلك الحال في أمر قيس بن مكشوح
1 الأغاني 4/ 367- 368.
2 بروكلمان، تاريخ الأدب العربي ص 124.
3 ابن هشام 1/ 5-12، الأغاني 4/ 303- 307. القلقشندي نهاية الأرب عن بجيلة ص 171 وعن خثعم ص 243. صبح الأعشى 1/ 329- 330. الروض الأنف 1/ 60.
4 ابن الأثير 1/ 339- 343.
5-
الطبري 2/ 646.
6 ابن خلدون، المقدمة 147.
المرادي، إنما هو حليف لمراد1 وكان الحطيئة الشاعر إذا غضب على بني عبس يقول: أنا من ذهل، وإذا غضب على ذهل قال: أنا من بني عبس2. ولقد كانت المرأة تطلَّق من زوجها، وهي حامل، أو يموت عنها فتتزوّج رجلًا آخر فتلد مولودها في بيته فيسمى به، وكثير من قبائل العرب انتسبوا إلى حاضنهم وإلى رابهم "زوج أمهم"3 وكان من تبنى رجلًا في الجاهلية دعاه الناس إليه، وورث ميراثه، حتى جاء الإسلام وأنزل الله تعالى قوله: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ} [الأحزاب] 4.
وهكذا كان أمر تقرير الأنسباب وبخاصّة الأنساب البعيدة، أمرًا بالغ الصعوبة. على أن سلامة النسب وصراحته إنما تكون في القبائل المتبدية أكثر منها في القبائل التي تعيش في مناطق الحضارة وتجاور الأمم الأخرى، وذلك لبعد القبائل المتبدية عن الاختلاط والتصاهر والانصهار. واعتبر ذلك من مضر في قريش وكنانة وثقيف وأسد وهذيل ومن جاورهم من خزاعة؛ لما كانوا أهل شظف ومواطن غير ذات زرع، فكانت أنسابهم صريحة محفوظة ولم يدخلها اختلاط ولا عرف فيهم شوب5. وهكذا يقرر ابن خلدون. وإن كان الاختلاط موجودًا في مثل هذه الحالات بنسبة ضئيلة.
على أنه مهما في الأنساب من الشك - فإنه إذا وجدت ثمرات النسب فكأنه وجد؛ لأنه لا معنى لكون الفرد من هؤلاء أو من هؤلاء؛ إلا جريان أحكامهم وأحوالهم عليه وكأنه التحم بهم6. وسواء أصحت الأنساب أم لم تصح فقد اعتنقها العرب، ولا سيما متأخروهم، وبنوا عليها عصبيتهم. وقد جاء الإسلام وكان قد تم اعتقاد العرب أنهم في أنسابهم يرجعون إلى أصول ثلاثة: مضر، وربيعة، واليمن7.
1 الروض الأنف 1/ 39.
2 الأغاني 2/ 158.
3 نفسه 5/ 2-4.
4 الروض الأنف 1/ 13، 16، البخاري 5/ 82.
5-
المقدمة 145.
6 المقدمة 146.
7 فجر الإسلام ص 80.