الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدينة يثرب
نشأة يثرب
مدخل
…
الباب الثالث: مدينة يثرب
الفصل الأول: نشأة يثرب.
الفصل الثاني: التنظيم الداخلي والعلاقة بين السكان.
الفصل الثالث: قوة يثرب وعلاقاتها الخارجية.
الفصل الرابع: الحالة الاقتصادية.
الفصل الخامس: الهجرة وتأسيس الدولة الإسلامية في يثرب
صفحة فارغة
الفصل الأول: نشأة يثرب
على بعد حوالي ثلاثمائة ميل في شمال مكة تقع يثرب، وهي واحة خصيبة التربة غزيرة المياه محصورة بين لابتين بركانيتين تعرفان بالحرتين، حرة واقم في الشرق، وحرة الوبرة في الغرب. وتكتنف الوديان الحرتين من الشرق ومن الغرب، وتحيط بالمدينة من جهاتها الأربع. ويقع جبل عير في الجنوب الغربي من يثرب1. والقادم من مكة إلى يثرب -في زمن الهجرة النبوية- كان يمكنه إذا قام بأعلى جبل عير أن يحدد صورة مكتملة لمنطقة يثرب، فوادي العقيق إلى يساره ممتد غربي المدينة فيما وراء حرة الوبرة إلى ما بعد بئر رومة في شمالها الغربي. والعريض وعوالي المدينة إلى يمينه من شرق حرة واقم. وهناك من أقصى الشمال يقوم جبل أحد ثم جبل سلع، وتقع قرية قباء في جنوب المدينة على ميلين منها2. وبين قباء والمدينة يسير وادي بطحان ووادي رانوناء حيث يتجهان شمالًا فيما بين حرة الوبرة والمدينة. فيتصلان بوادي قناة وهو واد يقع في جنوب أحد وينحدر غربًا بينه وبين جبل سلع حتى يتصل بوادي بطحان، وتلتقي هذه الوديان عند مجتمع الأسيال من رومة، كما يوجد واد مذينب ووادي مهزور في الجنوب الشرقي من المدينة، ويحصران بينهما عوالي المدينة التي كانت زاهرة عامرة، وتبدو أودية المدينة منحدرة من الجنوب إلى الشمال، تسير في انحدارها مياه الأمطار فتجعل منها جنات ذات زرع زاهي الخضرة وبساتين تنبت أشجار الفاكهة والنخيل.
1 ياقوت 41/ 172.
2 نفسه 18/ 82، الإصطخري، 32، البتنوني 256 "يقول البتنون: إن قباء على خمسة كيلو مترات من المدينة".
والمنطقة بين قباء والمدينة من أخصب مناطقها، بل لعلها أخصبها وهي التي تثمر جل فاكهتها وخضرها، ومن ثم كانت منتزه أهل يثرب ومصحتها في مختلف العصور، يخرج إليها الناس للتريض، ويقيم بها الناقهون استعادة النشاط والقوة.
وحرة واقم التي تحد المدينة من الشرق كانت أكثر عمرانًا من الوبرة، وحين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب سنة 622 م كانت حرة واقم مسكونة بأهم قبائل اليهود من بني النضير وقريظة، وعدد من عشائر اليهود الأخرى، كما كانت تسكنها أهم البطون الأوسية: بنو عبد الأشهل، وبنو ظفر، وبنو حارثة، وبنو معاوية، وفي منازل بني عبد الأشهل كان يقوم حصنهم واقم الذي سميت الحرة باسمه. وقد ترك أصحاب هذه المنازل من اليهود والأوس آثارًا في الحرة تدل على حضارة ونظام، وتركوا بها آثار مصانع وصهاريج مياه لم يبق منها إلا أطلال دوارس 1، ولا عجب، فقد كانت هذه الحرة ميدانًا حرب منذ استقر الإسلام بالمدينة؛ فقد حاصر النبي صلى الله عليه وسلم اليهود من بني النضير حتى أجلاهم، ثم حاصر بني قريظة حتى قضى عليهم، وبها وقعت موقعة الحرة في عهد يزيد بن معاوية سنة 63هـ.
وحرة الوبرة التي تحد المدينة من الغرب، تبدأ قبالة قباء من الجنوب عند ذي الحليفة ميقات الإحرام لأهل يثرب وأول الطريق إلى مكة. وبأقصى حرة الوبرة من ناحية الشمال بمجتمع أسيال المدينة تقع بئر رومة، وكانت مملوكة لرجل يهودي كان يبيع ماءها للمسلمين فاشتراها منه عثمان بن عفان استجابة لرغبة النبي صلى الله عليه وسلم ودفع ثمنها عشرين ألف درهم2.
وتفصل حرة الوبرة بين المدينة ووادي العقيق، وقد كان لهذا الوادي في أنباء التاريخ من الذكر ما جعله وادي النعمة وخفض العيش والترف، حتى إنه إذا ما ذكر العقيق من أودية المدينة نسي الناس كل واد للعقيق سواه، مع أنه توجد أودية كثيرة بهذا الاسم في جزيرة العرب. ولقد كان هذا الوادي الخصيب الدافق بجداول المياه وبالعيون والآبار خاليًا من البناء لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب، وعلى شفير العقيق
1 هيكل: في منزل الوحي ص 557.
2 أسد الغابة 3/ 280، البتنوني 257، هيكل: نفسه 579.
الغربي تقوم جماوات العقيق، وهي مرتفعات سود كبار دون الجبال وفوق الهضاب. وأقرب هذه الجماوات إلى المدينة جماء تضارع القريبة من بئر عورة، وتجاورها وتكاد تتصل بها من ناحية الشمال جماء أم خالد، وتبعد عن هذه إلى الشمال جماء عاقل.
وفي شمال المدينة جبل أحد، يفصل بينها وبينه وادي قناة. وفي جنوب هذا الوادي إلى الشمال الغربي من المدينة يقع جبل سلع، وبه النتوء الذي يعرف بجبل عين، وعليه كان موقف الرماة من المسلمين يوم أحد1.
وتاريخ يثرب القديم مجهول، فلا توجد مدونات يمكن الرجوع إليها، وكذلك لم تقم بها أبحاث أثرية يمكن الاستفادة منها، وقد أشار صاحب كتاب آثار المدينة المنورة إلى حدوث حفريات -جرت بغير قصد البحث العلمي- كشفت عن بعض أشياء يمكن أن يستدل منها على أن المدينة الحالية قائمة على أنقاض مدينة أخرى2؛ لكن الاهتمام العلمي لم يأخذ طريقه حتى الآن إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ولعله يأخذ طريقه إليها فيشكف لنا شيئًا يمكن الاعتماد عليه في كتابة تاريخها القديم، وكل ما لدينا من أخبار تاريخ يثرب القديم عبارة عن روايات ذكرها الإخباريون لا يمكن الاعتماد عليها اعتمادًا قاطعًا؛ لأنها لا تستند إلى دليل.
ومن المؤكد أن هذه الواحة الخصيبة والتي تقع على طريق التجارة بين اليمن والشام، لا بد أن تكون قد سكنتها القبائل منذ زمن بعيد، إذ لا يعقل أن لا يجذب خصب هذه البقعة وكثرة المياه بها الناس إلى انتجاعها والإقامة فيها، وورود اسم يثرب في الكتابات المعينية يدل على قدمها3، وعلى أن المعنيين استعمروها فقد كانت لهم مستعمرات على طول الطريق التجاري حتى تخوم الشام، فليس من المحتمل أن يكونوا تجاوزوا يثرب دون أن ينتفعوا بموقعها وخصب أرضها وكثرة مياهها في اتخاذها مستعمرة لهم ومحطة لتجارتهم، وبخاصة أن مستعمراتهم متصلة إلى شماله على طول طريق وادي القرى.
1 عن وصف المدينة انظر: ياقوت 17-82- 88 السمهودي: وفاء الوفا 1/ 112- 152، البتنوني 252- 259- هيكل: في منزل الوحي 571- 581.
2 هيكل: في منزل الوحي 512- 514 عبد القدوس الأنصاري: آثار المدينة المنورة 122- 124.
3 جواد علي 3/ 395.
وإذا كان اسم يثرب قد ورد في الكتابات المعينة القديمة فلا بد أنها كانت من الموضع التي سكنتها جاليات من معين، ثم صارت إلى السبئيين بعد زوال مملكة معين، وقد ذكرها بطليموس في جغرافيته باسم Lathriph Lathrippc1 وهي أيضًا Lathrippa polis التي ذكرها اصطيفانوس البيزنطي2 وعرفت كذلك باسم المدينة من كلمة مدينتا Medinta التي تعني الحمى أي مدينة على رأي المستشرقين الذين يرون أن اليهود المتأثرين بالثقافة الآرمية أو بعض المتهودة من بني إرم الذين نزلوا إلى يثرب هم الذين دعوها مدينتا، ومنها جاءت المدينة. أما كلمة مدينة على أنها اختصار من مدينة الرسول فيرون أنه رأي متأخر قال به العلماء 3.
ويسوق صاحب الرحلة الحجازية رأيًا آخر يعتمد فيه على الرواايت التي تقول بأن موسى حين خرج ببني إسرائيل من مصر، أرسل فرقة من جيشه لقتال العماليق وأن هؤلاء الجنود أقاموا بيثرب بعد أن قضوا على أعدائهم، وأنهم أطلقوا اسم يثرب على المدينة تحريفًا لها من الكلمة المصرية أوسربيس، كما أن اسم طيبة الذي استعمل اسمها للمدينة مأخوذ عن طيبة المصرية4. وللأخباريين -كعاداتهم- آراء في الاسم: قالوا إنها سميت بيثرب نسبة إلى يثرب بن قاين بن مهلائيل بن إرم بن عبيل بن عوص بن إزم بن سام بن نوح، وكان أول من نزلها فسميت باسمه 5.
وقالوا: بل قيل لها يثرب من التثريب. وزعموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما نزلها كره أن يدعوها يثرب كراهية للتثريب، فدعاها طيبة وطابة 6 وذكروا لها تسعة وعشرين اسمًا 7. غير أن هذه الأسماء التي أطلقوها على المدينة صفات أطلقها المتأخرون عليها بعد الهجرة النبوية، وبعد أن أصبحت عاصمة للدولة الإسلامية العربية.
1 F.Olemy، Vi731.
2 جواد علي 3/ 395، 4/ 281.
3 Oloary، P. 137 جواد علي 14/ 181.
4 البتنوني 25- 253.
5 المسعودي: مروج الذهب 2/ 148، ابن خلدون 2/ 286، السمهودي1/ 109- 110.
6 السهيلي 2/ 16.
7 ياقوت 17/ 82.
والاسم الذي كان متداولًا قبل الهجرة هو اسم يثرب وقد ورد في القرآن الكريم1، وعلى أنه كان هناك حي من أحياء المدينة يسمى يثرب يقع في الجنوب الغربي من أحد بين سلع ووادي قناة، ويقال: إن هذه المنطقة هي التي كانت عامرة بالناس قبل مجيء اليهود إلى الدينة، ولعل اسم يثرب أخذ من اسم المنطقة من المدينة كما يطلق اسم القاهرة الآن على كل مدينة القاهرة مع أن القاهرة القديمة لا تشمل كل المدينة كما ورد اسم المدينة كذلك في مناسبات عدة في القرآن توحي بأن اسم المدينة هو التسمية الإسلامية لها بعد الهجرة2. وقد طغت التسمية على الأسماء كلها، وأصبحت يثرب تدعى مدينة الرسول أو المدينة المنورة وهذا الاسم الأخير هو المستعمل اليوم.
وتاريخ المدينة الذي يمكن الاعتماد عليه هو تاريخها منذ القرن الذي سبق الهجرة النبوية أي منذ بداية القرن السادس الميلادي، إذ إن هذه الفترة ليست بعيدة بحوادثها وآثارها عن هذه الهجرة وما ترتب عليها من أحداث كبيرة غيرت مجرى التاريخ العربي، بل مجرى التاريخ العام.
1 {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُم} [الأحزاب] .
2 المنافقون: 8، السهيلي، 2/ 16.