الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لرسو السفن وحمايتها وقلة الماء والمؤن على جانبيه؛ فإن الطريق البري عبر تهامة والحجاز أصبح هو الطريق الوحيد المفتوح أمام التجارة، وكان لا بد بعد زوال النشاط اليمني أن يوجد مَن يسد الفراغ ويقوم بدور الوسيط المحادي بين المتنازعين لنقل هذه التجارة1.
وقد وجد هذا الوسيط المحايد ممثلًا في مدينة مكة، التي حظيت بنوع من التنظيم والاستقرار على يد قبيلة قريش منذ منتصف القرن الخامس الميلادي، وقد حظيت بمكانة سامية بين عرب الشمال الذين بدت فيهم نهضة قومية في ذلك الحين، وأخذوا يتطلعون إلى زعامة عربية تتجه إليها عواطفهم، وبخاصة بعد أن وقعت أطراف الجزيرة العربية الجنوبية والشمالية، ممثلة في اليمن والحيرة والغساسنة تحت النفوذ الأجنبي.
وبقيام مكة على نقل التجارة بدأت تطرق المجال الخارجي، وبدأت تتخذ لها علاقات مع الدول المحيطة بالجزيرة العربية والتي أصبحت هي الوسيط في نقل التجارة منها وإليها. وقد عمل رجال قريش على ألا يزجوا بأنفسهم في مجال هذا الصراع الدولي؛ بل حرصوا على الحيدة التامة بين المتنازعين، وقد أعانهم على اتخاذ موقف الحياد رغبة المعسكرين في وجود مثل هذا الوسيط المحايد من ناحية، وبُعد مكة وصعوبة الوصول إليها من ناحية أخرى، ومع ذلك فلم تسلم مكة من محاولة السيطرة عليها محاولات حربية وسياسة باءت بالفشل؛ بفعل عوامل خارجة عن قدرة المكيين مرة، وبإصرار رجال مكة على حيادهم واطمئنانهم إلى موقفهم مرة أخرى2.
1 HUsayyen. Arabia and the Ear East B، 142- 143
2، 3 حتى: نقوش أشار إليها 49، 50، 64جواد علي 1/ 381، 384، 392، 398.
Gerald do Garury Rulers of Mecca P.24
علاقة مكة بالجنوب:
علاقة الحجاز باليمن قديمة جدًّا ترجع إلى أيام الدولة المعينية، ثم السبئية والحميرية 1350 ق م- 525م الذين امتد نفوذهم إلى شمال بلاد الحجاز، حيث أسسوا لهم مستعمرات على طول الطريق التجاري في معان والعلا كما تشهد بذلك النقوش التي وجدت في هذه المناقط1. وفي أيام هذه الدول لم تكن مكة أكثر من
1 حتى: نقوش أشار إليها 49، 50، 64جواد علي 1/ 381، 384، 392، 398.
Gerald do Garury Rulers of Mecca P.24
محطة تمر بها القوافل ويجد معبدها الاحترام وبخاصة من ملوك التبايعة، حيث تذكر الروايات أن التبع تبان أسعد أبا كرب الحميري كان أول من كسا البيت الحرام وعظمه وأوصى بتعظيمه وكسوته1. وقد كانت القبائل الجنوبية هي أول مَن سكن مكة، وكان لقبيلة خزاعة، التي هي فرع من الأزد دور في عمارة مكة، وتنشيط الحج إلى بيتها الحرام.
وفي عهد قريش اتصل أحد رجال مكة وهو المطلب بن عبد مناف بأقيال اليمن الحميريين وعقد معهم اتفاقًا على أن تقوم قريش بالمتاجرة في أرضهم، وقد اتصلت تجارة قريش باليمن منذ ذلك الوقت -حوالي بداية القرن السادس- وسيطرت قوافلها التجارية تمامًا على نقل هذه التجارة. وقد تضاءل شأن تجار اليمن واكتفوا بالتجارة مع قريش، وكان قصاراهم أن يبيعوا بضائعهم لتجار مكة إذا قدموا إلى الشمال.
وكما حظيت مكة وبيتها الحرام بنفوذ كبير بين عرب الشمال، كذلك أصبح لها مكانة عظيمة في نفوس عرب الجنوب الذين فقدوا استقلالهم، وتطلعوا بدافع القومية إلى هذا البلد العربي المستقل، حتى لقد غضبوا حين جهز أبرهة حاكم اليمن الحبشي حملة لغزو مكة. وتصدت له بعض القبائل اليمنية وقاتلته، وقد قامت علاقات صداقة ومودة بين زعماء مكة ورجالات اليمن؛ فتحدثنا الروايات عن صداقات عبد الملطب بن هاشم وبعض أقيال اليمن ووفاداته عليهم2. وقد قدم وفد مكة لتهنئة سيف بن ذي يزن بعد انتصاره على الأحباش. وربما كان قدوم هذا الوفد تعبيرًا عن الابتهاج بهزيمة الحبشة التي كانت قد غزت مكة من قبل، ولكنه كان على كل حال تعبيرًا عن الغبطة بانتصار رجل عربي على أعدائه، ودليلًا على حسن الصلة والمودة. وقد أكرم سيف الوفد وحباه، وحظي عبد المطلب زعيمه بعظيم عطفه وكرمه3.
أما علاقة مكة بالحبشة فإنها بدأت منذ خرجت مكة بتجارتها إلى المجال الخارجي، فإنه في الوقت الذي اتصل فيه المطلب بن عبد مناف بأقيال اليمن، اتصل
1 ابن هشام 1/ 19- 21.
2 ابن كثير 171- 172 "كان عبد المطلب صديقًا لذي نفر الحميري، وهو الذي تصدى لحملة أبرهة عند خروجها متجهة إلى مكة وقاتلها، ولكنه هزم، وكان ذو نفر من أشراف أهل اليمن وملوكهم".
3 ابن كثير 2/ 329.
أخوه عبد شمس بالنجاشي، وأبرم معه اتفاقًا مماثلًا، ومنذ ذلك الوقت أصبحت الحبشة لقريش وجهًا ومتجرًا1.
وكانت الحبشة مصدرًا هامًّا من مصادر التجارة الشرقية، فقد كانت تنتج البخور واللادن والأطياب وريش النعام والعاج والجلود والتوابل. كم كانت منطقتها المصدر الأول لتجارة الرقيق الأسود، وكانت قريش إذ تحصل منها على هذه السلع الهامة تحمل إليها ما تحتاج إليه من حاصلات الشام ومصنوعاته، ومن حاصلات الجزيرة العربية نفسها.
ولما استولت الحبشة على اليمن، لم تستطع أن تقوم بدور كبير في التجارة التي أصبحت نقلها يتم على أيدي التجار المكيين، الذين أصبحوا الوسطاء المسيطرين على قوافل التجارة الخارجية، كما كفل قيام البيت الحرام وإقرار هدنة الأشهر الحرم، وقيام الأسواق في منطقة مكة -السيطرة على تجارة شبه الجزيرة العربية الداخلية. وقد فكر حاكم اليمن الحبشي أبرهة أن ينافس مكة في هذه المكانة؛ لعله ينتزع منها التجارة الداخلية، فأقام كنيسة في صنعاء، حرص على أن تكون غاية في الفخامة والروعة؛ ليجلب إليها العرب للحج والمتاجرة2، ولكن عمله هذا لم يأت بنتيجة؛ وذلك لأن الكتلة العظمى للقبائل العربية كانت وثنية، وقد كانت مكة مأوى أصنام العرب، ثم إن البيت الحرام كان محل تعظيم العرب جميعًا؛ لأنه البيت الذين بناه إبراهيم وإسماعيل اللذان يرد العرب أنسابهم إليهما، فكان اتجاههم إلى مكة يرضي عاطفتهم الدينية والقومية على السواء. وقد دعا الفشل واحتقار العرب للكنسية التي أقامها أبرهه إلى قيامه بحملة ضد مكة لتدمير بيتها الحرام فتسقط بذلك مكانتها الدينية، ومن ثم تذهب مكانتها بين العرب من ناحية، وليسيطر على هذه المحطة التجارية من ناحية أخرى؛ ليتم اتصال الحبشة عبر الطريق البري بحليفتها بيزنطة التي كانت تسيطر على بلاد الشام، والتي ربما كانت من وراء هذا الغزو الحبشي؛ ليصبح هذا الطريق الهام في يدها ويد حلفائها، وإن كانت لم تظهر على مسرح الحوادث في هذا الموضوع3. وقد فشلت
1 الأغاني 8/ 52.
2 حتى 76.
3 لا يستبعد أوليري oLEARY أن بعض التجار الروم في مكة كانوا يقومون بأعمال التجسس لحساب بلادهم.