الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني:
الصراع بين المسلمين واليهود
لا شك أن اليهود في المدينة كانوا على علم بما تم بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأوس والخزرج من اتفاق في بيعة العقبة الكبرى، ولم يكن في مقدورهم أن يمنعوا هذا الاتفاق أو يقفوا ضده، فإن القوة في المدينة كانت في يد العرب، وكانوا يستطيعون أن يدخلوا في المدينة من شاءوا دون أن يخشوا اعتراض اليهود عليهم، وكانت حالة يثرب الداخلية تتطلب عنصرًا خارجيًّا يستطيع أن يوحد بين عناصرها المختلفة، ويقيم بينها نوعًا من التوازن يعيد إليها السلام الذي حرمته زمنًا طويلًا بتنازع طوائفها المختلفة وكان اليهود يرصدون الأحوال ويراقبون تطور الحوادث، ولم يدُرْ في خلدهم في أول الأمر أنه سيحدث ما يوجه الأمور ضد مصالحهم، بل لعلهم كانوا يعتقدون أن قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب في مصلحتهم؛ فقد ظنوا أن في مقدورهم استمالته إليهم وإدخاله في حلفهم، فإنه يدعو إلى ديانة تتفق في جوهرها مع عقائدهم، ولو أفلحوا في ضمه إليهم لربما استطاعوا أن يعيدوا إلى أنفسهم مركز التفوق في يثرب، وربما استطاعوا به بعد توحيد بطون المدينة وجعلها كتلة واحدة أن يجعلوا منها مدينة قوية، تستطيع أن تسيطر على الحركة الاقتصادية وتنافس مكة وتتغلب عليها، وربما تمكنوا من تأليب جزيرة العرب حتى تقف في وجه النصرانية التي تغلبت على اليهود وأجلتهم عن فلسطين.
لعل هذه الآمال كلها كانت تجول في نفوس اليهود في يثرب حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم إليها؛ ولذلك أحسنوا استقباله وبادر هو إلى رد تحيتهم بمثلها وإلى توثيق صلاته بهم، فتحدث إلى رؤسائهم وتقرب إلى كبرائهم، وربط بينه وبينهم برابطة المودة باعتبارهم أهل كتاب موحدين، وبلغ من ذلك أن كان يصوم يوم صومهم1، وكانت قبلته في الصلاة ما تزال إلى بيت المقدس قبلة أنظارهم ومثابة بني إسرائيل جميعًا2، وقامت علاقة طيبة بين أصحابه من المهاجرين وبين اليهود حتى ليغشون مجالسهم ويذهبون إلى بيوت مدارسهم يتحدثون إليهم، ويسألونهم ويسمعون منهم، ويرون التوارة تصدق القرآن والقرآن يصدق الترواة3. وما كانت الأيام لتزيد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين باليهود أو لتزيد اليهود بهم إلا مودة وقربى، حتى وصل الأمر بينهم إلى عقد معاهدة صداقة
1 الموطأ 147، 148.
2 ابن هشام 2- 37 "هامش الروض".
3 تفسير الطبري 2/ 381، 382.
وتحالف وتقرير لحرية الاعتقاد؛ ولئن لم يشترك في توقيع هذه المعاهدة بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع فإنهم لم يلبثوا أن وقعوا بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم صحفًا مثلها. وبهذه الصحيفة التي قررت حرية العقيدة وحرية الرأي وحرمة المدينة وحرمة الحياة وحرمة المال وتحريم الجريمة، استقرت الأحوال في يثرب وأصبحت حرمًا لأهلها، عليهم أن يدافعوا عنها، وأن يتكافلوا فيما بينهم لاحترام ما قررت هذه الوثيقة من الحقوق، وبدت المدينة وكأنما تسير إلى ما كان ينشده لها أهلها من هدوء وتقدم، وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يمثل فيها روح النظام والاستقرار، وكان هو القدوة في حسن المعاملة والتواضع والعدل، وقد ترك ذلك في النفوس عميق الأثر، حتى لقد أقبل كثيرون على الإسلام، وزاد المسلمون في المدينة شوكة وقوة، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يتجه إلى بناء دولته وضمان الأمن لها في الداخل والخارج، ونجحت السرايا التي أرسلها إلى ما حول المدينة في تأمين ريفها وعقد المحالفات لها مع القبائل الضاربة على جنباتها.
هنالك بدأ اليهود يفكرون من جديد في موقفهم من محمد وأصحابه لقد عقدوا معه عهدًا، وكانوا يطمعون في ضمه إلى صفوفهم ليزدادوا به قوة؛ ولكنه أصبح هو أقوى منهم، وإنه ليتجه بقوته إلى المجال الخارجي، ويعمل على توسيع نطاق دعوته ونفوذه، أفيتركونه يمد سلطانه وينشر دعوته على هذا المدى الواسع، ويكتفون بالأمن في جواره أمنًا يمكِّن لمصالحهم المادية أن تتسع؟ لعلهم كانوا يقنعون بذلك لو أمنوا أن دعوته لا تمتد إلى اليهود ولا تفشو في عامتهم، على حين تقتضيهم تعاليمهم ألا يعترفوا بنبي من غير بني إسرائيل.
لكن رجلًا من علمائهم وأحبارهم هو عبد الله بن سلام القينقاعي1 لم يلبث حين اتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم أن أسلم هو وأهل بيته وجابَهَ اليهود بإسلامه ودعاهم إلى الإسلام2، وهنا أجمع اليهود أمرهم أن يكيدوا لمحمد وينكروا نبوته. وما أسرع أن اجتمع إليهم من بقي على الشرك من الأوس والخزرج، ومن دخل في الإسلام منهم بظاهره جريًا وراء مغنم أو إرضاء بصحبة لم يقوَ على مخالفتها.
وهنا بدأت حروب جدل بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود كانت أكثر لددًا ومكرًا من حرب الجدل التي كانت بمكة بينه وبين قريش؛ فقد حشد اليهود لها ما استطاعوا من أنواع الدسيسة والنفاق، وما كان لديهم من علم بأخبار الأنبياء والمرسلين، يهاجمون بها محمدًا ورسالته وأصحابه من المهاجرين والأنصار. دسُّوا من أحبارهم من أظهر إسلامه وأخذ يجالس المسلمين ويظهر الورع والتقوى، ثم يلقي على النبي صلى الله عليه وسلم من الأسئلة ما يحسبه يثير الشكوك والريب ويزعزع في نفوس المسلمين عقيدتهم به
1 أسد الغابة: 3/ 176.
2 ابن هشام: 3/ 25 "هامش الروض".
وبرسالته، ويتعنتون ويأتون باللبس، ليلبسوا الحق بالباطل وكان القرآن يجيبهم فيما يسألون عنه1. وانضم إليهم جماعة المنافقين من الأوس والخزرج ليسألوا ويشاركوا في الوقيعة بين المسلمين2 وكانوا يحضرون المسجد فيسمعون أحاديث المسلمين ويسخرون منهم ويستهزئون بدينهم، وفطن المسلمون لأمر خصومهم وعرفوا غاية سعيهم؛ فلما رأوا جماعة منهم بالمسجد ذات يوم يتحدثون بينهم خافضي أصواتهم قد لصق بعضهم ببعض، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهم فأخرجوهم من المسجد إخراجًا عنيفًا3؛ لكن هذا لم يثن اليهود عن سعيهم ووقيعتهم بين المسلمين، وغاظهم أن يجتمع أمر الأوس والخزرج على الإسلام وتقوم الألفة بينهم عليه، فأرادوا أن يثيروا الأحقاد القديمة ليوقعوا بينهم العداوة والبغضاء. مر أحدهم -شاس بن قيس- على نفر من الأوس والخزرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم، وقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، وأمر فتى شابًّا من اليهود -كان معه- أن يجلس بينهم وأن ينتهز فرصة يذكر فيها يوم بعاث وما كان من الأوس والخزرج فيه. وتكلم الفتى فذكر القوم ذلك اليوم وتنازعوا وتفاخروا واختصموا، وكاد الشر يقع بينهم لولا أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه، فذكرهم بما ألف الإسلام بين قلوبهم وجعلهم إخوانًا متحابين، ومازال بهم حتى بكى القوم وعلموا أنها من نزغات الشيطان وكيد عدوهم4.
وبلغ الجدل بين محمد واليهود مبلغًا من الشدة يشهد به ما نزل من القرآن فيه، فقد نزل إحدى وثمانون آية من سورة البقرة، كما نزل قسم كبير من سورة النساء، وكله يذكر هؤلاء اليهود، وإنكارهم ما في كتابهم، ويلعنهم لكفرهم وإنكارهم أشد اللعنة:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ، وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ، وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة]5.
1 ابن هشام 2/ 24، 35.
2 نفسه 27- 29.
3 نفسه 29.
4 ابن هشام 2/ 39، 40.
5 انظر تفسير الطبري 2/ 333، ابن هشام 2/ 190، ابن كثير 1/ 230.
وبلغ الجدل بين المسلمين واليهود حدًّا كان يصل أحيانًا إلى الاعتداء بالأيدي، وحسبك لتقدر هذا أن تعلم أن أبا بكر، على ما عرف عنه من دماثة الخلق ولين الطبع وطول الأناة، تحدث إلى يهودي يدعى: فنحاص، يدعوه إلى الإسلام، فرد فنحاص بقوله:"والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء وما هو عنا بغني، ولو كان غنيًّا عنا ما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه ولو كان غنيًّا ما أعطانا الربا".
وفنحاص يشير هنا إلى قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] ولم يطِق أبوبكر صبرًا على هذا الجواب فغضب وضرب وجه فنحاص ضربًا شديدًا، وقال:"والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت رأسك أي عدو الله". وشكا فنحاص أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر ما قاله لأبي بكر فنزل قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران]1.
ولم يكتف اليهود بالوقيعة بين المهاجرين والأنصار وبين الأوس والخزرج، ولم يكفهم فتنة الناس عن دينهم ومحاولة ردهم إلى الشرك دون تهويدهم، وصدهم من يريد الإسلام من المشركين، بل حاولوا فتنة النبي صلى الله عليه وسلم نفسه؛ ذلك أن أحبارهم وأشرافهم وسادتهم ذهبوا إليه وقالوا:"يا محمد، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وسادتهم وإنا إن اتبعناك اتبعتك يهود ولم يخالفونا وإن بيننا وبين بعض قومنا خصومة؛ أفنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ونصدقك؟ " فأبي ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيهم: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة]2.
ثم أخذوا في أسئلة منكرة، عن الساعة ومتى ميعادها؟ وعن وحدانية الله أهي حقيقة؟ وإذا كان الله قد خلق الخلق فمن خلق الله. ومن هذه الأسئلة التي يقصد بها التشكيك والتضليل بقصد الفتنة والبلبلة3.
1 ابن هشام 2/ 187.
2 ابن هشام 2/ 196، 197. المائدة 49، 50.
3 ابن هشام 2/ 198- 202.
وحين ضاق اليهود ذرعًا بمحمد فكروا في أن يقنعوه بالجلاء عن المدينة كما أجلته قريش عن مكة، فذكروا له أن من سبقه من الرسل ذهبوا إلى بيت المقدس وكان مقامهم به، وأنه إن يكن رسولًا حقًّا فجدير به أن يصنع صنيعهم وأن يعتبر المدينة وسطًا في هجرته بين مكة وبيت المقدس، لكن محمدًا أدرك ما يرمون إليه، وأوحى الله إليه على رأس سبعة عشر شهرًا من مقامه بالمدينة أن يجعل قبلته المسجد الحرام بيت إبراهيم وإسماعيل {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة] .
وأنكر اليهود ما فعل، وأدركوا أن هذا العمل ينطوي على موقف خطير. فإن اتخاذ القبلة إلى بيت الله الحرام بمكة فيه جذب كبير لقلوب العرب، فإن الكعبة محط أنظارهم وموضع تقديسهم وإكبارهم فإذا اتخذها محمد قبلته كان في ذلك إرضاء للروح العربية، وقد يؤدي هذا إلى انجذاب العرب نحو الدين الذي يتخذ قبلتهم قبلته، وفيه كذلك تقرب لمكة التي كانت في عداء مع محمد، وقد يؤدي هذا إلى تقارب وجهة النظر بين قريش والنبي صلى الله عليه وسلم فيلتئم شمل قريش ومن خلفها العرب مع النبي صلى الله عليه وسلم فيضيع اليهود في غمرة هذا الاجتماع؛ لذلك أنكروا هذا وحاولوا فتنة النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى بقولهم: إنهم يتبعونه إن هو رجع إلى قبلته الأولى، فنزل القرآن الكريم:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَاّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة] .
في هذا الوقت الذي اشتد فيه الجدل بين محمد واليهود، وفد على المدينة وفد من نصارى نجران عدتهم ستون راكبًا، فيهم أشرافهم ومن يئول إليه أمرهم، وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه ومولوه وأخدموه وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، ولعل هذا الوفد إنما جاء إلى المدينة في هذا الوقت طمعًا في أن يزيد الخلاف شدة بين النبي صلى الله عليه وسلم واليهود، حتى يبلغ به حد العداوة، فيريح النصرانية المتاخمة في الشام واليمن من دسائس اليهود
وعدوان العرب على السواء، واجتمعت الأديان الثلاثة الكبرى بمجيء هذا الوفد وبجداله النبي صلى الله عليه وسلم وبقيام ملحمة كلامية عنيفة بين اليهودية والمسيحية والإسلام.
فأما اليهود فكانوا ينكرون رسالة عيسى ومحمد إنكارًا فيه عنت وفيه مكابرة، ويزعمون أن عزيرًا ابن الله. وأما النصارى فيقولون بالتثليث وبألوهية عيسى، وأما محمد فيدعو إلى توحيد الله توحيدًا مطلقًا، وأن الرسالات جميعًا تمثل وحدة روحية واحدة من أزل الوجود إلى أبده، وكان اليهود والنصارى يسألونه عمن يؤمن بهم من الرسل فيقول كما نزل القرآن:
{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة] وينكر عليهم أشد الإنكار كل ما يلقي أية شبهة على وحدانية الله، ويذكر لهم أنهم حرفوا الكلم مما في كتبهم عن مواضعه، وأنهم غيروا مبادئ الرسل والنبيين الذين يقرون لهم بالنبوة، وأن ما جاء به موسى وعيسى ومن سبقهم لا يختلف في شيء عما جاء هو به؛ لأن ما جاءوا به جميعًا هو الحقيقة الخالدة التي تتكشف لكل من نزه نفسه عن الخضوع لغير الله، ونظر في الكون نظرة سامية فوق أهواء الدنيا مجردة عن الخضوع الأعمى للأوهام ولما وجد عليه آباءه وأجداده، ثم يلقي عليهم الصيغة التي أنزل الله عليه:
فماذا يمكن لليهود والنصارى أن يقولوا في هذه الدعوة؛ فأما النفس التي كرمت بالعقل، وأما الروح الخالصة الصادقة فلا تستطيع إلا أن تؤمن بهذا دون غيره، لكن للحياة البشرية جانبها المادي الذي يجعل الإنسان يضعف لإغراء المادة فيخضع لها، هذا الجانب المادي المصور في المال والجاه والسلطان وفي كاذب الألقاب هو الذي جعل أبا حارثة أكبر نصارى نجران علمًا ومعرفة يدلي إلى رفيق له بأنه مقتنع بما يقول محمد، فلما سأله رفيقه: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ كان جوابه: "ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى"1.
1 ابن هشام 2/ 205.
دعا النبي صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى إلى هذه الدعوة أو يلاعن النصارى، أما اليهود فقد كان بينه وبينهم عهد الموادعة؛ لكن النصارى خافوا عاقبة الملاعنة ورأوا ألا يلاعنوه، وأن يتركوه على دينه ويرجعوا على دينهم، لكنهم رأوا حرص النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على العدل فطلبوا إليه أن يبعث معهم رجلًا يحكم بينهم في أشياء اختلفوا عليها من أقوالهم، وبعث معهم النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه1.
وهكذا اشتد النفور بين المسلمين واليهود في المدينة وكثرت بينهم المخاصمات وبدت الكراهية والبغضاء، حتى نزل القرآن ينهى المسلمين عن الاختلاط باليهود واتخاذ بطانة لهم منهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، هَا أَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران]2. ونزل يحذرهم من القعود معهم والدخول في مجالات دينية: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء] . فنجم عن ذلك أزمة بين المسلمين واليهود جعلت تشتد يومًا بعد يوم. ولم يمض أكثر من ثمانية عشر شهرًا من قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب حتى تلبد الجو بالغيوم الكثيفة بين الطرفين، وجعل كل فريق يتواصى بالحذر والنفور من الفريق الآخر. وقد استمرت هذه الأزمة الشديدة إلى يوم موقعة بدر.
رأينا -من قبل- أن الصحيفة التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار على رأس سنة من قدومه إلى يثرب، ووادع فيها اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، قد ذكرت البطون اليهودية الصغيرة التي كانت في ذلك الوقت قد اندرجت في البطون العربية وصارت تعد منها بحسب العرف القبلي، ولذلك ذكرتها الصحيفة لا بأسمائها، ولكن بأسماء البطون العربية التي تتبعها، أما قبائل اليهود الثلاث الكبرى
1 نفسه 215. انظر هيكل: حياة محمد من ص: 218- 235.
2 ابن هشام 2/ 186، 187.
وهي: بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، فلم يجئ لها ذكر في الصحيفة، وإن كان قد وُضِعَ بند عام يسمح بإلحاق هذه القبائل
فيما بعد: "وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم" ثم وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين هذه القبائل عهود أشار إليها المؤرخون وإن لم يذكروا نصها1، ويبدو أن نصوصها لم تكن تختلف عن الجوهر العام لنص الصحيفة، والأرجح أن هذه القبائل اليهودية لم تعاقد النبي صلى الله عليه وسلم في وقت واحد، فقد ذكرت المصادر أن بني قينقاع حين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد بدر كانوا هم أول من نقض العهد؛ ذكر الواقدي وابن سعد أن اليهود بعد مقتل كعب بن الأشرف وإهدار دم اليهود، فزعوا وجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقولون:"لقد طرق صاحبنا الليلة، وهو سيد من سادتنا، قتل غيلة بلا جرم، ولا حدث علمناه" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتيل، ولكنه نالنا بالأذى وهجانا بالشعر، ولا يفعل هذا أحد منكم إلا كان السيف" ودعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يكتب بينهم كتابًا ينتهون إلى ما فيه، فكتبوا بينهم وبينه كتابًا.
وقد كان مقتل كعب بن الأشرف بعد جلاء بني قينقاع، وقبل موقعة أحد، ومن ذلك يتبين أن بني قينقاع كانوا هم أول من تعاقد مع النبي صلى الله عليه وسلم من القبائل اليهودية الكبرى، ولهذا ما يرجحه، فإن بني قينقاع كانوا حلفاء الخزرج، وكانت بطون الخزرج كلها قد دخلت في الإسلام، ثم إنهم كانوا يساكنون المسلمين في داخل المدينة، فكان الوضع لذلك يقتضيهم أن يتعاقدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، أما بنو النضير وبنو قريظة فكانوا يسكنون في منطقة العوالي خارج المدينة وعلى طرف الحرة الشرقية، فكانت مساكنهم لذلك بعيدة، كما كانوا في منعة من حصونهم وآطامهم. ثم إن البطونَ التي كانت قريبة منهم من العرب بطونٌ أوسية، هي التي عرفت بأوس الله، وقد تأخر إسلام هذه البطون إلى ما بعد موقعة الخندق، فلم يكن هناك ما يحمل هؤلاء اليهود على الإسراع في معاقدة النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان حادث كعب بن الأشرف وهو من زعماء بني النضير، وإهدار النبي صلى الله عليه وسلم دم اليهود، وجدوا أنفسهم مهددين من جانب المسلمين
1 ابن هشام 2/ 427، 3/ 226، 227. الواقدي 138، 150، 287، 292. ابن سعد 3/ 67، 73، 99، 109.
2 الواقدي: 150. ابن سعد: 2/ 73.