الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكومة مكة وسياستها الداخلية
مدخل
…
الفصل الثاني: حكومة مكة وسياستها الداخلية
تولى قصي حكم مكة طول حياته، وجعل مركز هذا الحكم دار الندوة التي أنشأها، واهتم بعمارة البيت الحرام وجعل وظيفة السدانة من أهم الوظائف، كما نظم سقاية الحاج إلى الكعبة في موسم الحج، وجعلها وظيفة ثابتة عرفت باسم السقاية، وقد بقيت هذه الوظيفة من أجلِّ الوظائف في مكة وذلك لطبيعة البلد وشح المياه بها، ولأن كفالة الماء في هذا البلد القفر الحار مما ييسر مهمة الحج ويجعل الإقبال عليه أمرًا ميسورًا. كما فرض على قريش خرجًا تدفعه له يصنع به طعامًا للحجاج في موسم الحج، وجعل هذا الفرض أمرًا مقررًا، وجعل له وظيفة ثابتة عرفت باسم الرفادة، كما كان له الرياسة العامة وله القيادة واللواء1.
وقد جمع قصي هذه الوظائف كلها في يده، وظل طول حياته محترمًا مطاعًا يرى الناس أمره فيهم كالدين المتبع: ولما مات خلفه بنوه على هذه المناصب وزادوا فيها إرضاء للبطون القرشية حتى وصلت إلى ست عشرة وظيفة 2.
أفكانت هذه المناصب كلها أو بعضها موجودة قبل قصي، أم هو الذي استحدثها؟ لا نستطيع الجري مع الأخباريين العرب في أن قصي هو الذي أنشأ مكة واستحدث لها هذه المناصب كلها. فالواقع أن القرية المكية انتظمت منذ عهد عمرو بن لحي زعيم خزاعة، وقد دخلت في طور النظام الاجتماعي بعد أن مرت بطور
1 ابن هشام 1/ 137، 141- 142، الطبري 2/ 18- 19. ابن كثير 2/ 27- 29.
2 ابن عبد ربه: العقد الفريد 3/ 313- 315. الآلوسي: بلوغ الأرب 1/ 149- 250.
الاضطراب والحروب والرحلات والغزوات والقتال على السيادة1، وكان أساس الحياة في هذا الودي يقوم على قبول الهجرة من القبائل القادمة من الجنوب. وقد استمر النظام الحكومي قبل قصي عدة قرون. وكانت الوظائف الاجتماعية موجودة، ولكنها كانت لا تزال في حالة أولية، وبقي على قصي أن يكمل التشريع الذي بدأه عمرو بن لحي وبنوه، ويخلق الوظائف الحكومية ويشيد دار الندوة، ويميز الحمس والدخيل والضيف واللاجئ. ومنذ كانت خزاعة حاكمة في مكة، كانت قريش في بني كنانة متفرقة2. على أن التنظيم الحكومي في مكة سواء في عهد خزاعة أو في عهد قصي إن هو إلا تنظيم قبلي في جوهره، وإن بدا نظامًا جمهوريًّا من حيث إنه لم يكن الزعيم أو المتنفذ يلقب بالملك، وبالرغم من أن الحكم كان شوريًّا يخضع لرأي الجماعة ورقابتها، فلا ينبغي أن نبالغ مبالغة الأب لامانس Lammens فظن أن مكة كانت جمهورية بالمعنى الكامل للجمهورية3، فالواقع أنه مع نمو العلاقات التجارية والاقتصادية في مكة فإن مجتمعها كان مجتمعًا قبليًّا، فهو لا يعدو أن يكون اتحاد عشائر ارتبط بعضها ببعض لغرض سدانة الكعبة من جهة، والقيام على تجارة القوافل من جهة أخرى، ولا سلطان لعشيرة على أخرى، بل كانت كل عشيرة تتمتع بالحرية التامة ولا طاعة مفروضة عليها لأحد، وكل ما في الأمر أن اشتراكهم جميعًا في مصلحة واحدة خفف غلواء هذه الحرية، ولكنه تخفيف لم يخرج بقريش عن النظام المعروف في الجاهلية، ووجود مجلس الملأ فيها لا ينقض هذه الحقيقة، فإن عمله لم يكن يعدو عمل مجالس القبائل، ولم يكن رأيه ملزمًا إلا حين توافق عليه العشائر كلها، ومع ذلك فإن العشائر كان يمكنها التخلص منه إذا رأت ذلك؛ فمثلًا بنو زهرة تراجعت ولم تشارك في معركة بدر برغم موافقتها وخروجها 4. وكذلك بنو عدي لم تخرج إلى القتال برغم الإجماع عليه5. كذلك كان الفرد يستطيع الخروج على هذه القرارات، ولم تكن هناك عقوبة تفرض على
1 ابن هشام 1/ 123- 129. الطبري 2/ 37- 28 ابن كثير 2/ 185- 190.
2 ابن هشام 1/ 130.
3 انظر: Lammens، La republique Marchande de La Mecque
4، 5 ابن هشام 2/ 285. الواقدي: مغازي رسول الله 30/ - 31 الطبري 2/ 143.
الخارجين عليها. وعلى حين كان التضامن القبلي قائمًا، كانت أحيانًا تبرز النزعات الفردية، فبرغم أن الحياة التجارية في مكة كانت تزيد من الترابط في القبيلة؛ فقد وجد من الأشخاص من يفضل مصلحته الذاتية على مصلحة القبيلة. وبرغم أن الأمن كان يتوقف على نظام العشيرة نجد أشخاصًا يعملون ضد مصلحة العشيرة، فأبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم خرج على إجماع العشيرة وانضم إلى باقي بطون قريش حين أجمعت على مقاطعة بني هشام1، والعباس بن عبد المطلب برغم تضامنه مع عشيرته2؛ فإنه ظل على علاقته الودية مع باقي البطون القرشية حرصًا على تجارته وأمواله3 وإلى جانب مجلس الشيوخ -الملأ- كان للعشائر أنديتها التي تجتمع فيها حين تدعو الضرورة لمناقشة الأمور الخاصة بالعشيرة، وكان يمكنها أن تتخذ قرارًا يخالف رأي مجلس القبيلة، ومثال ذلك اجتماع بني هاشم والمطلب للتشاور والاتفاق على حماية محمد صلى الله عليه وسلم ومواجهة قريش4.
وبالرغم من أن مجلس الشيوخ -الملأ- كان وسيلة الحكم في مكة، ينظم شئونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ فإنه لم يخضع لقانون مكتوب، وإنما كان ينظر في هذه الشئون حسب قوانين العرف والعادة، ولكنه لم يقض على حرية الأفراد، فكل فرد كان متمتعًا بحريته مع شعوره بحقوق الجماعة أو حقوق القبيلة، وهذا هو نفس النظام الذي كان سائدًا في القبيلة العربية في كافة أنحاء شبه الجزيرة. فللفرد حريته وللجماعة حقوقها التي لا تتناقص مع هذه الحرية. وعلى ذلك كانت القرارات الحاسمة -في الملأ- هي القرارات الجماعية، ويرجع الفضل الأول في قوة مكة إلى قوة زعمائها وقدرتهم على تكوين رأي عام، وحل المنافسات الداخلية التي تنشأ بين العشائر على أساس المصلحة العامة والمحافظة على وحدة القبيلة التي كانت تتطلبها ظروفها كقبيلة تجارية مستقرة في بلد يعتمد في حياته على التجارة وما تجلبه لأهله من وسائل الرزق، كما يعتمد على قدسية البيت الحرام الذي يقوم فيه ويجلب إليه الحجاج
1 ابن هشام 1/ 282.
2 الطبري 2/ 195.
3 ابن هشام 1/ 337.
4 نفسه 1/ 281.
من كافة أطراف الجزيرة العربية، وما يترتب على ذلك من حصول القبيلة على مركز أدبي ممتاز بين القبائل، ومن تجارة داخلية واسعة تدر على سكان البلد الحرام الرزق والثروة، وكان أي تفكك في داخل المدينة يعرض مركز مكة للانهيار، ولذلك كان لا بد أن يضع له أهله من الأنظمة والقوانين ما ينظم حياته، ويقر الأمن فيه ويحفظ الحقوق، ويضمن حماية مَن يفد إليه من الأذى، لدوام مجيء الحجاج إليه. ولقد نجح ملأ قريش في المحافظة على تماسك القبيلة، فاستطاعوا حل الخلافات الداخلية حلًّا سلميًّا، مثال ذلك الخلاف بين المطيبين والأحلاف الذي أوشك أن يثير حربًا داخلية بين عشائر قريش1، كما استطاعوا أن يرضوا شعور العشائر ويحدوا من تنافسها على السلطة بأن توسعوا في قاعدة الحكم، فأنشئوا الوظائف وأسندوا لكل عشيرة وظيفة خاصة تمارسها في نطاق القبيلة، ومع أن بعض هذه الوظائف لم يكن ذا قيمة إلا أنه أرضى شعور العشائر وأشعرها بمشاركتها وحفظ تماسك القبيلة.
ودار الندوة هي الدار التي بناها قصي بن كلاب، وكانت ملاصقة للمسجد الحرام من ناحية الجهة الشامية من الكعبة، وكانت فسيحة وسيعة، وفيها كانت قريش تقضي شئونها العامة وقد سميت الندوة؛ لأنهم كانوا إذا حزبهم أمر ندوا إليها للتشاور2. والندوة الجماعة، ودار الندوة دار الجماعة3. وأهم خصائص دار الندوة أنها كانت دار مشورة قريش، فيها يجتمع ملؤها للتشاور في أمورها، ولم يكن يدخلها للمشورة من غير بني قصي إلا ابن أربعين سنة، في حين كان يدخلها بنو قصي وحلفاؤهم، على أنه كانت تقضى في دار الندوة أمور أخرى غير المشاروة، ففيها كانت قريش تعقد لواءها إذا خرجت للحرب، ومن دار الندوة كانت ترحل قوافلها للتجارة؛ وفي فنائها تحط هذه القوافل حمولتها إذا رجعت، وإذا بلغ غلام لقريش عذر أي ختن فيها. وإذا بلغت جارية لقريش جاء بها أهلها إلى دار الندوة فشق عليها قيم الدار درعها -أي قميصها- ثم درعها إياه، ثم انقلبت إلى أهلها فحجبوها، والظاهر أن
1 ابن هشام 1/ 142- 144.
2 الأغاني 4/ 384 "الحاشية". ياقوت 19- 279.
3 الآلوسي 1/ 284. ياقوت 8/ 423، 19/ 279.
الغرض من الأمرين الأخيرين مجرد تعريف بالبالغين من قريش الذكور والإناث1. ودار الندوة في مكة تشبه الإكليزيا Ekylesia في أثينا، إلا أن الملأ المكي كان أكثر تعقلًا وشعورًا بالمسئولية من الإكليزيا اليونانية، وأقل تأثيرًا بالانفعالات العاطفية، وذلك لأن الملأ كان يتكون من رؤساء العشائر وأولى الرأي والحكمة فيها، وعلى حين كان الأثينيون يقبلون في الإكليزيا كل رجل أمين مستقيم؛ كان أهل مكة حريصين على أن يكون للشخص مهارته العملية وقدرته على القيادة2. وإنشاء دار الندوة وتخصيصها لهذه الوظيفة يعتبر بداية لمرحلة جديدة تبلورت فيها النظم القبلية القديمة.
أما أهم المناصب الأخرى في مكة بعد دار الندوة، فكانت السدانة، والسقاية، والرفادة، وكلها مناصب متصلة بالكعبة والحج إليها. والسدانة هي رعاية البيت والقيام على إعداده للزائرين، لقد كانت هذه الوظيفة هامة جدًّا نظرًا لمركز الكعبة عند العرب؛ ولأن البيت الحرام هو الذي أعطى مكة قدسيتها ومكانتها وجلب إليها الحجاج من كافة الأنحاء، وعلى الحجاج يقوم جزء كبير من حياة مكة الاقتصادية؛ فإن قريشًا تضرب في مشارق الأرض ومغاربها لتجلب التجارة التي تبيعها للحجاج في مكة وفي الأسواق التي تقوم حولها في موسم الحج وتجني من وراء ذلك ثروة كبيرة. من أجل ذلك اهتمت قريش برعاية البيت الحرام والدعاية له في كافة أنحاء شبه الجزيرة، وجلبت إليه أصنام القبائل فأقامتها حول الكعبة. ولما كانت الكعبة في نظر العرب هي في بيت الله الذي بناه إبراهيم الذي يردون أنسابهم إليه، وهي أول بيت وضع للناس؛ فإن وضع الأصنام به يعتبر تكريمًا للأصنام ومن ثم يعتبر تكريمًا للقبائل التي تتقرب إليها وتعبدها، وفي ذلك إغراء للعرب على الحج إلى الكعبة؛ حيث يطوفون بالبيت ويقربون لأصنامهم في نفس الوقت. ولم يستحدث قصي هذه الوظيفة وإنما هي وظيفة قديمة ترجع إلى بناء الكعبة نفسها، فإنه من الطبيعي أن يكون لكل معبد سادته.
ووظيفة السقاية لا تقل أهمية، وهي مرتبطة بالكعبة والحج إليها؛ وتأتي أهميتها من أن مكة بلد شحيحة المياه، وأن الحاج إليها يلقى عنتًا شديدًا إذا تيسر له المياه
1 ابن هشام 1/ 137. الطبري 2/ 18. العبادي: العصر العربي 8-9.
2 Watt، Mohmmed at Mecca. p.9
وخصوصًا في موسم الحج، حيث يكثر الوافدون إلى مكة لأداء هذه الفريضة، وقد أصبحت مهمة السقاية بالغة الخطورة خصوصًا بعد أن طمرت بئر زمزم التي يسرت المقام في هذا الوادي القفر. نتيجة لإهمال جرهم لها، أو لأن زعيم جرهم قد طمرها، بعد أن هزم أمام قبيلة خزاعة واضطر للخروج عن مكة1. حتى يضايق خزاعة ويجعل مهمة الحج عسيرة. ومن المؤكد أن الزعماء الخزاعيين اهتموا بتوفير المياه لإرواء الحجاج في موسم الحج، وإن لم يفكروا في إعادة حفر زمزم التي تنوسي أمرها مع الزمن، وجهل الناس موضعها، وإن لم نسمع أنهم جعلوا من هذا الاهتمام وظيفة خاصة. وقد اهتم قصي بهذا الأمر حين ولي مكة اهتمامًا كبيرًا، نتيجة لاهتمامه بتنشيط الحج الذي يبدو أنه فتر في العهد الأخير من حكم خزاعة، وقام بحفر الآبار في وادي مكة، كما حفرت عشائر قريش آبارًا كثيرة بعد قصي2: وإن لم يفكر أحد في إعادة حفر بئر زمزم. حتى كانت أيام عبد المطلب بن هاشم الذي آلت إليه هذه الوظيفة الهامة. وأصبح يجد مشقة كبيرة في توفير المياه للعدد المتزايد من الحجاج نتيجة للاتجاه العام نحو مكة المستقلة، بعدما أصابت الدويلات العربية في الجنوب والشمال من تدهور سياسي وأدبي، وقد ألهمت الحاجة عبد المطلب التفكير في حفر بئر زمزم، بئر إسماعيل، التي لا بد كانت الأخبار لا تزال تروي عنها، والبحث عن مكانها حتى اهتدى إليها وأعاد حفرها3، ومن ثم أصبحت عملية إمداد الحجاج بالماء أقل مشقة. وقد عد المكيون وظيفة السدانة من أعظم الوظائف في مكة، وكانت قريش تفاخر بهما4، وقد تولت هاتين الوظفتين أعظم العشائر القرشية، وحين فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة ألغى كل المناصب بها ولم يبق إلا على هاتين الوظفيتين تقديرًا لأهميتهما5.
والرفادة هي إطعام الحاج في أيام الحج، وقد فرض قصي على قريش خرجًا تخرجه من أموالها وتدفعه إليه؛ فيصنع به طعامًا يقدمه للحجاج في أيام عرفات ومنى،
1 ابن هشام 126.
2 نفسه 1/ 159- 163 "ذكر ابن هشام أسماء أكثر من عشرة آبار حفرتها بطون قريش بمكة".
3 ابن هشام 1/ 154 وما بعدها.
4 انظر سورة التوبة 19.
5 ابن هشام 4/ 32. الطبري 2/ 327.
على اعتبار أن الحجاج هم ضيفان الله وأن أحق الضيف بالكرامة هم ضيف الله، وأن على قريش -وهي تسكن في حمى بيت الله وتقوم عليه- أن تقوم بهذا الواجب السامي1. وكان هذا العمل من قصي ينطوي على حكمة سياسية كبيرة؛ فإن إمداد الحاج بالطعام يدعو إلى الإقبال على القدوم إلى مكة، وخصوصًا إذا قدرنا بعد الشقة وصعوبة حمل المؤن والزاد مع السفر في الصحراء مسافات طويلة2، كما أن البادية كانت فقيرة وكان إطعام الطعام فضيلة من أكبر الفضائل التي يتمدح بها العرب وينال صاحبها عن طريقها الاحترام العام والمنزلة الرفيعة. كما أن المؤاكلة تعد عقد جوار عند العرب، فإذا أطعمت قريش القبائل القادمة إلى مكة في موسم الحج فإنها تنال بذلك احترامًا عامًّا، ومنزلة سامية في نظر هذه القبائل، كما تعتبر أنها تعاقدت معها برابطة الجوار والأمن نتيجة لهذه المؤاكلة، وبذلك يصبح في إمكان قريش أن تسير آمنة في أراضي هذه القبائل؛ ولذلك كانت الرفادة وظيفة سامية في مكة، وكانت توكل إلى العشائر العريقة من قريش. على أن هذه الوظيفة ليست مستحدثة كلية؛ فإن الأخباريين يروون أن عمرو بن لحي زعيم خزاعة كان يطعم الحاج، وقالوا: إنه ربما ذبح أيام الحج عشرة آلاف بدنة وكسا عشرة آلاف حلة في كل سنة، يطعم العرب ويحيس لهم الحيس بالسمن والعسل ويلت لهم السويق3؛ ولكن يبدو أن هذا التقليد لم يصبح وظيفة مقررة إلا في عصر قصي بن كلاب.
هذه الوظائف الثلاث -السدانة والسقاية والرفادة- لم تكن وظائف قبلية؛ وإنما هي وظائف استلزمها وجود الكعبة بمكة وقيام الحج إليها والرغبة في تيسيره؛ حتى تجني مكة من وراء ذلك الفوائد المادية والأدبية التي كانت ضرورية لحياتها كبلد يعتمد على التجارة وعلى الاتصال بالقبائل من حوله. ولم تكن هذه المناصب تشكل إدارة محلية، وإنما كانت مزايا تعطي فرصًا للكسب المادي، والمنزلة الأدبية.
1 نفسه 1/ 141- 142.
2 البخاري 2/ 134 "وكان أهل اليمن يحجون، ولا يتزودون، ويقولون: نحن المتوكلون، فإذا قدموا مكة سألوا الناس".
3 ابن كثير 2/ 187.
والوظيفتان الرئيستان بعد ذلك في عهد قصي هما اللواء والقيادة، والأولى هي الراية تعقد فيجتمع إليها المحاربون، يسلمها قصي لمن يتولى القيادة العامة. والقيادة هي قيادة الجيش عند الحرب وقد يتولاها بنفسه أو ينيب عنه من يتولاها. وهاتان الوظيفتان كانتا موجودتين في تنظيم القبيلة العربية؛ فشيخ القبيلة هو الذي يعلن الحرب على القبائل الأخرى ويدعو المحاربين إلى الاجتماع، كما أنه يقود القبيلة في حروبها أو ينيب عنه من يقودها. وكل ما استحدثته قريش في هذه الناحية أنها وكلت أمر هذه الوظائف إلى عشائر معينة تتوارثها؛ وذلك لأنه لم يصبح لقريش بعد موت قصي زعيم عام ترجع إليه القبيلة؛ وإنما أصبح يحكمها الملأ وهم رؤساء العشائر الذين اعتبروا أنفهسم متساوين من حيث المبدأ، واقتسموا المناصب فيما بينهم.
هذه هي المناصب الرئيسة الستة التي برزت في عهد قصي، والتي اقتسمها بعد ذلك أبناء عبد الدار، وأبناء عبد مناف ابني قصي. ولكن تطلع البطون القرشية إلى التقدم والمشاركة في شئون مكة، وحرص الملأ على وحدة القبيلة وإرضاء العشائر؛ أدى إلى أن يستحدثوا عشر وظائف أخرى هي: العمارة: وهي مراعاة الأدب والوقار في البيت الحرام، فلا يتكلم فيه بهجر ولا رفث ولا ترفع فيه الأصوات. والحجابة: وهي قفل البيت وفتحه للزائرين. والمشورة: وهي أنهم لا يجتمعون على أمر حتى يعرضوه على صاحبها. والأشناق: وهي جمع الأموال الخاصة بالديات والمغارم والقيام على أدائها. والقبة: وهي خيمة تجمع فيها أسلحة الجيش. والأعنة: وهي قيادة الخيل. والسفارة: وهي الاتصال بالقبائل الأخرى في المنافرات والمفاوضات. والأيسار: وهي الأزلام التي يضرب بها عند هبل كبير الأصنام في جوف الكعبة. والحكومة: وهي الفصل في المنافرات والخصومات. والأموال المحجرة: وهي الأموال المسماة للآلهة1.
وحين ظهر الإسلام كان الشرف في قريش قد انتهى إلى عشرة رهط من عشرة أبطن وهم:
1-
العباس من بطن هاشم، وإليه كانت السقاية وبقي له ذلك في الإسلام.
2-
أبو سفيان من بطن أمية، وعنده العقاب راية قريش؛ فإذا اجتمعوا على أحد سلمها له وإلا فهو صاحبها، وهذه الوظيفة هي وظيفة القيادة.
1 العقد الفريد 2/ 313- 315.