الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن قريشًا قد تلاومت على ترك الفرصة تفلت من يديها بعد أن أوقعت الهزيمة بالمسلمين فأجمعت على الرجعة، وقالوا: أصبنا حد أصحابه -محمد- وأشرافهم وقادتهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم؟ لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم1.
وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوهن نفوس المكيين ويضعف عزيمتهم، فأوحى إلى رجل من خزاعة -وكانت خزاعة مسلمها ومشركها هواها مع النبي صلى الله عليه وسلم، تناصحه وتود نصره- أن يخذِّلها عنه ويلقي إليها أن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين قد خرجوا لقتالها وقد رجع إليهم من تخلف عن القتال، واستعدوا استعدادًا كبيرًا وفعل الخزاعي ما كلف به، فخارت عزيمة أبي سفيان وأجمع على الرجوع إلى مكة؛ ولكنه كلف نفرًا من العرب كانوا يريدون المدينة أن يخذلوا المسلمين عن مطاردته، ثم رحل عائدًا إلى مكة. وبقي النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام يوقد النيران ليعلم قريشًا أنه ينتظرها، وليشعر القبائل بقوته وعزمه، ثم عاد إلى المدينة2 وقد استرد كثيرًا من مكانة المسلمين وأعاد إلى نفوسهم كثيرًا من شجاعتها واطمئنانها.
1 نفسه 3/ 54.
2 ابن هشام 3/ 54- 56، إمتاع 1/ 167- 170.
آثار موقعة أحد:
حين عاد المسلمون من حمراء الأسد إلى المدينة، وجدوها قد تنكر كثير من أمرها، وإن بقى سلطان النبي صلى الله عليه وسلم فيها السلطان الأعلى، فلقد رفع كثير من اليهود والمنافقين رءوسهم ضاحكين شامتين بالمسلمين، ثم تجرءوا فأخذوا يدبرون المكائد ويحيكون المؤمرات، حتى لقد تطور الأمر إلى حَبك مؤامرة لقتل النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وكان من نتيجتها أن حاصر النبي صلى الله عليه وسلم إحدى قبائل اليهود وهم بنو النضير وأخرجهم من المدينة.
كذلك بدأت القبائل العربية تتحرش بالمسلمين وتكيد لهم، وتجرأت فاستدرجت بعض رجالهم وقتلتهم أو باعتهم لقريش. وأخذت بعض القبائل تتجمع للإغارة على المدينة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان دائم الحذر يحرص دائمًا على أن يعرف من أخبار القبائل ما يمكنه من تدبير أمره، لإقرار هيبة الدولة في نفوس هؤلاء البدو، وكان لا يترك فرصة لهم للتجمع لغزوه ومهاجمته، بل كان يقظًا سريع الحركة، ما يكاد يسمع بتجمع أعدائه حتى يفجأهم قبل أن يستكملوا أمرهم، فيشتت شملهم ويلقي الرعب في قلوبهم،
فالهجوم عنده أقوى وسائل الدفاع، وتحطم قوة العدو قبل أن تكتمل أفضل من تركها تتجمع ثم الصمود لها. ولقد سار المسلمون على هذه السياسة التي رسمها النبي صلى الله عليه وسلم من بعده، فلم يجعلوا أرض الإسلام ميدان قتالٍ أبدًا. بل كانوا دائمًا ينقلون خطوط القتال إلى أرض العدو نفسه حتى يشغلوه في نفسه عنهم، ولم تصبهم الهزائم إلا بعد أن تخلوا عن خطة اليقظة والنشاط واستكانوا للدعة والتواكل والانتظار.
وقد أتاحت هذه الظروف للدولة اليثربية فرصة الاستقرار، كما أن إخراج بني النضير، واستيلاء المسلمين على أراضيهم ونخيلهم، أدى إلى تحسن حالة المسلمين الاقتصادية في يثرب؛ فقد وزعت الأراضي على المهاجرين فاستقلوا بأمر معاشهم واستغنوا عن معونة الأنصار فتحسنت حالة الطرفين جميعًا، كما ضعف أمر النفاق، وخفت قوة المعارضة الداخلية في المدينة، وكانت الفترة التي تلت خروج بني النضير فترة سكينة وطمأنينة استراح إليها المسلمون. واستطاعوا بعد أن استدار العام أن يخرجوا إلى بدر استجابة لوعد أبي سفيان يوم أحد، لكن قريشًا لم تكن في حالة من القوة تمكنها من الوفاء بوعدها، فلم تذهب إلى بدر واكتفت بأن تتظاهر بالخروج، وترسل تهدد المسلمين. وفي بدر استفاد المسلمون من تجارة الموسم فربحوا، كما جدد النبي صلى الله عليه وسلم عهوده مع القبائل التي وادعته من قبل، وكان من نتيجة تخلف قريش وخروج المسلمين أن انمحت آثار أحد واستقر سلطان المسلمين في هذه المنطقة وتدعمت هيبتهم، وامتد نفوذهم نحو الشمال حتى دومة الجندل التي كانت المسافة بينها وبين دمشق حوالي مائة ميل1.
وآن لمحمد بعد كل ذلك أن يستقر بالمدينة عدة أشهر متتابعة وجد فيها فسحة ليقوم بإتمام التنظيم الاجتماعي لهذه الدولة الإسلامية الناشئة في دقة وحسن سياسة، ويوحي إليه ربه منه ما يوحي، ويقر هو ما يتفق وتعاليم الوحي وأمره، ويضع من تفاصيل ذلك ما كان موضع التقديس من أصحابه، وما أشربته نفوسهم لتحمله بعد ذلك للدنيا. فيكون منارها وهاديها عدة قرون متتالية تستقر به حضارة لم يعرفها العالم من قبل.
ترى أكان أعداء محمد تاركيه آمنًا في جماعته يضع لها هذا التنظيم دون أن يدخلوا معه في جولة فاصلة يحشدون لها كل قوتهم وما يستطيع أن يصل إليه مكرهم وكيدهم، ليقروا مصيره ومصيرهم بعد هذا الصراع الدامي الذي أوشك أن يدمر كل
1 ابن هشام 160- 236.