الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استعداد العرب للنقلة
مدخل
…
الفصل الثامن: استعداد العرب للنقلة
في نهاية القرن السادس الميلادي كانت مكة تتمتع بمركز رياسي في جزيرة العرب لا شك فيه، فقد كانت هي البلد العربي الوحيد الذي حظي بنوع من الاستقرار والتنظيم، والذي كان يتمتع باستقلاله فلم يخضع لحاكم أجنبي قط، في الوقت الذي كانت الممالك العربية الأخرى قد تدهورت ووقعت تحت الاحتلال أو النفوذ الأجنبي؛ فاليمن فقدت استقلالها منذ نهاية الربع الأول من القرن السادس وسقطت تحت حكم الأحباش ثم حكم الفرس1، وعمها الاضطراب الداخلي، وبذلك فقدت منزلتها، كما فقدت قدرتها على التحكم في التجارة بين الشرق والغرب التي كانت في أيديها منذ آماد بعيدة. وكذلك كانت مملكة الحيرة قد فقدت استقلالها بعد أن غيرت فارس سياستها نحوها بعد أن استنفدت كل طاقتها الحيوية، وجعلت منها إمارة فارسية يحكمها أمير فارسي2. ومملكة الغسانسة؛ فقدت قوتها كذلك بعد أن غير الروم سياستهم نحوها فاضطربت أحوالها وذهبت وأصبحت في شبه فوضى3.
وقد وافق هذا الوقت بدء نهضة عربية بين قبائل الشمال التي بدأت تتحرر من نفوذ الجنوب، وبدأت تأخذ بيدها أمام حركة التحرر الجديدة التي بدت تباشيرها بالشعور بالذات والإحساس بالقومية العربية التي عبرت عن نفسها في نهاية القرن السادس حين اشتبك العرب مع الفرس في معركة ذي قار وانتصروا عليهم، وحين تمرد الغساسنة على طغيان الروم، وثار اليمنيون على سلطان الأحباش.
وإذا كان العرب قد تمردوا على السيادة الأجنبية؛ فإنهم قد تطلعوا إلى منطقة عربية مستقلة تتولى زعامة هذه النهضة العربية وتقودها. ولم تكن هذه المنطقة سوى مكة التي كانت تتمتع باستقلالها والتي فشل الغزو الأجنبي أمام أبوابها؛ حين وجهت الحبشة إليها حملتها في سنة 570م. وكانت مكة هي البيئة العربية الخالصة التي
1 الحميمي: سيرة الحبشة ص24. ابن الأثير 1/ 253- 254، 265.
2 جواد علي 4/ 104. سديو: تاريخ العرب العام ص43.
3 جواد علي 4/ 140. سديو: 44- 45.
أتيحت لها فرصة التنظيم والاستقرار والتي كانت بعيدة عن مجال التصارع الدولي في ذلك الوقت، وكانت إلى ذلك بعيدة عن التأثر بالحضارات الأجنبية من غير أن تفقد الاتصال بها، فقد كانت مكة على صلة بدول ذلك الزمان من بيزنطيين وفرس وأحباش، وكانت تعرف من أمورها وحضارتها قدرًا يكفي للتعامل معها والاستفادة منها1، ولكنها كانت أبعد عن التأثر بالحضارات المجاورة من لخم وغسان واليمن، وهذه الميزة هي التي جعلت بيئة مكة عربية خالصة قادرة على خلق نهضة تعبر عن روح العروبة تعبيرًا دقيقًا قادرًا على جمع العرب، ولسنا نشترط في هذه البيئة الخالقة أن تكون مغلقة تمامًا أمام كل تأثير أجنبي، مثل هذا الانغلاق لا يتأتى للدول المجاورة للعالم المتحضر، فمكة كانت على اتصال بالبلاد المجاورة بحكم حياتها الاقتصادية، إلا أنهالم تكن تعرف هذه البلاد المعرفة التي تفقدها شخصيتها أو التي لا تترك لها إلا مجال التقليد، وهذا الاتصال المحدود بالعالم الخارجي ميزة جعلت البيئة الحجازية قادرة على الأصالة والحيوية، الأمر الذي لم يكن موجودًا في غيرها من أرجاء الجزيرة العربية؛ ولذلك كانت أصلح بيئة للنهضة بالعرب، وأصلح وسط يستطيع أن يخرج للناس نهضة جديدة ونظامًا جديدًا.
وكذلك وجود البيت الحرام في مكة، وقيام قريش على رعايته وتنظيم الحج إليه، وإقامة الأسواق العامة في موسمه وأسواقه كان فرصة لتجمع العرب في بقعة واحدة يزاولون فيها مختلف النشاط الديني والاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وكان فرصة لتبلور الأفكار وحل المشاكل، ومظهرًا من مظاهر الإحساس بالقومية والترابط.
وكذلك أتاحت الظروف الداخلية والخارجية لقريش أن تجمع في يدها التجارة الخارجية، وتقوم على تنظيمها وإعداد القوافل لنقلها بين الجنوب والشمال، مستغلة فرصة التصارع الدولي وانشغال الفرس والروم بذلك الصراع الدموي بينهما، وكذلك مستغلة المركز الأدبي والديني الذي حظيت به بين القبائل العربية؛ الأمر الذي أعانها على القيام على أمر هذه التجارة والنجاح في ذلك، مما أكسب القرشيين ثروة كبيرة، فأصبحوا يتميزون بالثروة إلى جانب الميزة الدينية والأدبية، وبذلك حظيت مكة باحترام عربي عام، وحظيت قريش برياسة عامة بين القبائل العربية، وأصبحت في
1 فجر الإسلام 29 "الطبعة الثانية".
موقف الزعامة والتشريع لهذه القبائل. وهكذا أصبحت أهلًا لأن تكون موضع النواة في قيام نهضة قومية عربية. واطمأنت قريش إلى هذا المركز وعملت على تدعيمه وحرصت على دوامه.
لكن مكة -بالوضع الذي كانت عليه قبل ظهور الإسلام- لم تكن تملك إلا أن تبلور الثقافة العربية الجاهلية وتبرزها، على حين كان الروح العربي يتطلع إلى مثل جديدة تساير نهضته الجديدة وتدعمها غير المثل القديمة التي بدءوا يبرمون بها، والتي بدأ التبرم بها يبدو واضحًا في مكة نفسها.
والدليل على أن الجاهليين كانوا يتطلعون إلى نظام جديد، أنهم كانوا -حسب تفكيرهم- يتحدثون عن علامات ونذر تنبئ عن قرب ظهور نبي منهم1. وقد روى القدماء معجزاتٍ ونذرًا قالوا: إنها وقعت قبل ظهور الإسلام إرهاصًا به ومنبئة بقرب ظهوره، وتلك الروايات -إن صحت- كانت دليلًا على أن الجاهليين تطلعوا إلى الإصلاح وإلى ظهور مصلح من بينهم، وكان الإصلاح قديمًا لا يأتي إلا على أيدي الحكماء والأنبياء؛ وهذا التطلع الطبيعي في كل جماعة إحساس ضروري يسبق كل حركة إصلاحية ويمهد لها. وعلى هذا الأساس يمكن أن نقرر أن العرب في الجاهلية أحسوا بضرورة الإصلاح؛ وهذا الإحساس هو الذي هيأهم للانتقال من حال إلى حال. وكانت البيئة مستعدة لقبول النظام الجديد؛ لأنها بيئة لها وحدتها المتميزة من الناحية اللغوية ومن ناحية الجنس؛ فالجاهليون كانوا يفهمون لغة واحدة وإن اختلفت لهجاتهم، بدليل قصائد الشعراء الجاهليين التي كان يفهمها العرب جميعًا في الشمال والجنوب، وأما وحدة الجنس فظاهرة في حفظ العرب لأنسابهم وردها كلها إلى أصل واحد، فهم شعب يتصل أفراده بصلة الدم والقرابة أوثق ما يربط الناس من رباط، فالعرب برغم انقسامهم إلى مجموعات كبيرة -قحطانية ومضرية وربيعية- فإن شعورهم بالوحدة والقرابةلم يضعف، فهم كأبناء الأب الواحد اختلفت بيوتهم، وعلى هذين الأساسين القويين في كيان الأمم -اللغة والجنس- بنى الإسلام حين جاء الوحدة الجديدة. وقد عملت هذه الأسس شيئًا فشيئًا على أن يتم العرب وحدتهم؛ فأحسوا بأن المثل القديمةلم تعد معبرة عن أنفسهم، فأخذوا ينتقدونها، وأخذوا يتحولون عنها وينشدون مثلًا جديدة في النواحي الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
1 ابن هشام 1/ 221- 242. ابن سعد 1/ 143- 151.
فأما من الناحية الدينية، فإن العرب كانوا وثنيين، فلما اتصلوا بالأمم ذات الأديان الراقية اكتشفوا ما في الوثنية من عجز عن إشباع الغريزة الدينية في الإنسان. والأديان السماوية قد دخلت جزيرة العرب منذ وقت مبكر، فكانت النصرانية منتشرة في شمال شبه الجزيرة وشمالها الشرقي1، وكذلك كانت منتشرة في اليمن، وكان لها مركز هام في نجران2 وقد اتسع نطاقها بعد الفتح الحبشي3. وكانت اليهودية معروفة في القسم الشمالي من الجزيرة؛ فيثرب وخيبر وفدك وتيماء ووادي القرى كانت يهودية، وكانت معروفة كذلك في اليمن، وكانت تصارع المسيحية هناك حتى الفتح الحبشي، وعند ظهور الإسلام كانت توجد في اليمن جالية يهودية كبيرة. وكان من المتوقع لو لم يظهر الإسلام أن يدخل العرب في أحد الدينين، لولا أنهم بدءوا نهضة قومية وكانوا ينظرون في الوثنية نظرة خاصة ويعتبرونها رمزًا لقوميتهم -وقد كان من عادة الأمم في تلك العصور أن تعتبر ملتها أو نحلتها موضع كبريائها ورمزًا لشخصيتها وعنوانًا على ثقافتها- وهم لذلك يريدون ديانة تعبر عن روح العروبة وتكون عنوانًا لها، ومن أجل ذلك بحث عقلاؤهم عن الحنيفية دين إبراهيم الذي كانوا يعدونه أبًا لهم4. هذا إلى ما لحق الديانات الأخرى من تفرق واختلاف بين طوائفها، ولا بد أن العرب كانوا على صلة بأهل هذه الديانات وعلى معرفة بالخلاف بين طوائفها؛ الأمر الذي جعلهم يتندرون بأصحابها وينعون عليهم اختلافهم، ويتطلعون إلى ظهور نبي منهم، ويقسمون أنهم لو جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم5.
وقد ظهرت حركة التحنف قبل الإسلام مباشرة6، فكانت رمزًا إلى أن الروح العربي كان يتلمس يومئذٍ دينًا آخر غير الوثنية، والإسلام حين جاء كان معبرًا عن شعور
1 جواد علي:6/ 57-60.
2 انظر سورة البروج 4- 8، ابن هشام 1/ 35.
3 نفسه 1/ 43.
4 ابن هشام 1/ 242-250، أسد الغابة 2/ 236، المحبر 160، 170، الروض الأنف 1/ 146.
5 انظر سورة فاطر 42.
6 ابن هشام 1/ 242.
العرب بالوحدة، ومعبرًا عن ميلهم الروحي. وكان دليلًا على نضوج ديني فلسفي استعد له العرب في القرون المتطاولة السابقة.
وأما من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، فإننا نجد الحجاز قبيل الإسلام يقوم بالتجارة التي كانت تقوم بها اليمن قديمًا، وأصبح الطريق المار بالحجاز هو الطريق البري الهام المأمون في ذلك الوقت. وقامت قريش على تنظيم القوافل بين الشمال والجنوب، واستطاع رجالها أن يكونوا شبكة تجارية تربط جميع قبائل الحجاز بهذه التجارة فجعلوا من الحجاز -بذلك- وحدة اقتصادية متماسكة، وحققوا من وراء ذلك ثروة لا بأس بها، والغنى شرط من شروط النهضات؛ لأن الجماعة لا تنهض إلا إذا كانت قوية سليمة، ومن مقومات السلامة الناحية الاقتصادية، فهذا الثراء كان طرفًا مناسبًا للنهضة العربية.
غير أن الثروةلم تكن موزعة توزيعًا عادلًا، فقد كانت الهوة بين الأغنياء والفقراء كبيرة من الناحية الاقتصادية، إذ كان يوجد من يملك الألوف المؤلفة من الدنانير، أو الألوف من الإبل، ومن لا يملك شيئًا على الإطلاق، وبينما يعيش الأغنياء في ترف، كان الفقراء لا يجدون ما يسد حاجتهم الضرورية للحياة، ولم يخفف من هذه الحدة ما كان يفيضه الأغنياء من كرم وسخاء، فإن المروءة وحدها لا تكفي لإيجاد التكافل الاجتماعي وإن كانت تعين عليه، بل قد يزيد ذلك من شدة الشعور بالغبن في مثل هذه البيئة التي كان التعطش فيها شديدًا إلى بعد الصيت والنفور من الضعة، ثم إن التجارة وما كان يصحبها في ذلك الوقت من ضروب الغش والمضاربة والاستغلال والربا، كانت في حاجة إلى تنظيم يحد من جشع التجار، ويقرب بين الطبقات ويوجد التكافل الاجتماعي.
ولقد كان التفاوت الطبقي موجودًا، على الرغم من الإحساس بالقرابة ووجود علاقات الحلف والولاء، وعلى الرغم من الإحساس النفسي العام بعدم المساواة، متمثلًا في الفروق الواضحة بين طبقة الصرحاء وطبقة الموالي، ومتمثلًا فيما كانت تكفله الثروة وشرف البيت لصاحبها من تأهيل للدخول في مراكز القيادة والزعامة، ولسنا نعني في هذه الناحية وجود نظام مقرر لتقسيم الطبقات من حيث الثروة كما كان
الحال عند الرومان 1؛ وإنما نعني أنه كان هناك شيء معترف به ومؤثر تقليدي من تمايز الناس بعضهم عن بضع، ووجود طبقات عليا وطبقات سفلى، وطبقات أشراف وطبقات سوقة وعوام. والآيتان من سورة الزخرف 31- 32 اللتان نزلتا في صدد استنكار نزول القرآن على محمد الذي كان فقيرًا على الرغم من علو مركزه من ناحية النسب وعدم نزوله على رجل آخر عظيم:{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّّا} [الزخرف] تساعدان على هذا الفهم، كما أن الآيات الأخرى تسنده وتؤيده2. وآية سورة الحجرات:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات] إنما نزلت لتعلن للناس أنهم سواء في أصل الخلق وفي حق الحياة والاستمتاع بالحرية فيها، وأن أكرم الناس المتقون الذين يؤدون واجباتهم الدينية والدنيوية مستشعرين عظمة الله؛ وليسوا هم الكبراء والعظماء وأبناء البيوت الشريفة وأصحاب الثروات الطائلة، بسبب هذا التقليد الطبقي الذي درجوا عليه والذي جاءت الآية لهدمه، وإقرار المساواة بين الناس. وطبيعي أنه لا يمكن أن يقال: إنها استهدفت هدم التفاوت العام الذي كان ولا يزال من سنن الاجتماع البشري، والذي يتمثل في فقر فريق وغنى فريق، وقوة فريق وضعف آخر.
1 انقسم الشعب الروماني في عصر الجمهورية إلى خمس طبقات، وفقًا للنظام الذي يعرف بالتيموقراطية Timocrcy وهو النظام الذي تتحد فيه مكانة الفرد السياسية، من حيث حقوقه وواجباته، على أساس ما يملك من الثروة، وقد قامت إحدى الجمعيات الشعبية الرومانية وهي الجمعية المئينية Comitia Centuriata التي غدت أهم المجامع الدستورية الرومانية في عصر الجمهورية المتأخرة، على هذا الأساس التيموقراطي، حيث كان لكل طبقة عدد بعينه من المئينات وكان لكل مئن من هذه المئينات صوت في هذه الجمعية. وقد كان الانتماء إلى إحدى الطبقات يكفل للفرد حقوقًا سياسية لا تكون لأفراد الطبقة الأقل، وكان من نتيجة ذلك أن نالت طبقة الأشراف حقوقًالم يحصل عليها العامة، إلا بعد كفاح مرير متصل: انظر:
M.Cary، History of rome "new your 1960" pp. 110-111
2 انظر سورة البقرة 166، والأحزاب 67، وسبأ 33، وغافر 48.
وكان العرب يتطلعون إلى مثل جديدة في الأخلاق والاجتماع تساير الطبع العربي بما يحمل في طياته من نواة العدالة الاجتماعية، بما فيه من مروءة وكرم، وإحساس المساواة للفرد وللجماعة، وكانت المثل الجاهلية بما صارت إليه من عصبية ضيقة ومن حمية غير قادرة على إخراج هذه المثل الجديدة التي يتطلعون إليها. وكانوا يتطلبون من القبيلة صاحبة السيادة في ذلك الوقت أن تقودهم إلى هذه المثل الجديدة؛ لكن قريشًا -مع اكتمال الوضع لها- حولت اهتمامها إلى مصالحها الذاتية سواء في ناحية التشريع للحج، وهو المظهر الديني للعرب في ذلك الوقت أو في التشريع الاجتماعي والاقتصادي الذي كانت تقوم عليه. ومن ثم كانت هي في ذاتها في حاجة إلى إصلاح داخلي حتى يمكن أن تقود حركة الإصلاح التي يتطلبها المجتمع العربي في ذلك الوقت.
أما من الناحية السياسية؛ فإن العرب برغم انقسامهم إلى مضريين وربعيين ويمانيين، كانوا يحسون أنهم شعب واحد وأنهم يرتفعون جميعًا إلى أب واحد، وهم لم يعودوا يتمسكون باستقلالهم القبلي تمسكًا مطلقًا، فالربعيون يتعصب بعضهم لبعض، وكذلك المضريون واليمنيون، وقد يتحالف فريق منهم مع فريق آخر، وهذا التحالف الذي اشتدت حركته في النصف الثاني من القرن السادس بين القبائل نوع من التعبير عن إحساس القبيلة بأنها لا تستطيع أن تعيش في مجالها الضيق، وأنها محتاجة إلى غيرها من القبائل تتحالف معها وتؤاخيها وتربط مصيرها بمصيرها. وكذلك سئم العرب الحروب القبلية فسنوا الأشهر الحرم ومنعوا فيها القتال، وجعلوا الكعبة ملجأ للخائف والعائذ. كل هذا يدل على أن العرب كانوا يحسون بأن انقسامهم السياسي والاجتماعي لا يتناسب مع حالهم الجديد ولا مع طريقة تفكيرهم وكذلك كانوا يحسون بأن عدم وجود دولة تجمعهم أمر فيه ذلة وعار على الشعب العربي، فكانوا لذلك يجدون أنفسهم ضئالًا إلى جانب دولتي الفرس والروم الذين أطلقوا عليهما اسم الأسدين.
في هذه الظروف المواتية من الناحية الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ظهرت النهضة العربية، وكانت دينية، والدين كان عاملًا هامًّا من عوامل التطوير والتقدم في العصور القديمة، ولم يتنازل الدين بعض الشيء عن هذه الناحية إلا بانتشار العلوم ووجود العوامل التي تنافس في القيام بهذا الدور في العصر الحديث.