الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على أنه مهما تكن المنازعات العشائرية قد وجدت في قريش؛ فإن رجال قريش استطاعوا أن يحافظوا على وحدة القبيلة وتماسكها، ولم يقبلوا إطلاقًا أن يحدث تفكك في صفوفها، أو ينشب خلاف يؤدي إلى تعارك العشائر وهذه الرغبة في تماسك القبيلة هي التي جعلت قريشًا تنظر إلى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم هذه النظرة القاسية، وتعامل المسلمين وبني هاشم تلك المعاملة الشديدة، كما أنها هي نفسها التي منعت وقوع الحوادث الدموية في الدور المكي من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وصانت القبيلة من التفكك والحرب الداخلية.
قوة الزعامة في مكة وأثرها
يرجع الفضل الأكبر في تقدم مكة وتفوقها في عهد قريش إلى قوة زعمائها وقدرتهم على حل المنافسات التي تنشأ بين الأفراد والعشائر للمصلحة العامة. وفي بلد تجاري مثل مكة كانت قوة العشيرة ونفوذها مرتبطةً إلى حد كبير بثروتها المادية. كما كانت أهمية الفرد في هذه البيئة تتوقف على ثروته وعلى نفوذ عشيرته وقوتها؛ لكن هذا لم يكن أمرًا مطلقًا، فالثروة والنفوذ العشائري لم يكن إلا بداية لظهور الفرد، فإن الثروة في بلد تجاري كانت عرضًا يمكن أن يزول بين عشية وضحاها في إحدى المضاربات التي كان يزاولها أهل مكة، ومن ثمَّ كان الأفراد -كما كانت العشائر- تتردد ما بين الغنى والفقر. أما العامل الرئيسي الذي يتوقف عليه تفوق الفرد ونفوذه فهو المواهب الشخصية والمزايا الذاتية، فذكاؤه التجاري والمالي ومهارته في معاملة العشائر والقبائل الأخرى، وقدرته على أن يحمل الآخرين في عشيرته وفي خارجها على أن يتقبلوا زعامته، كان المؤهل الحقيقي للزعامة في مكة.
وأول زعيم في قريش هو قصي بن كلاب الذي جمع قريشًا وأقامها في مكة وثبت وظائف مكة في يدها، ولعمله الجليل الذي قام به كان موضع الإجلال والتقدير طوال حياته وبعد مماته، فكان شريف أهل مكة لا ينازع فيها، وكانت داره هي دار الندوة وفيها كان يبرم أمر مكة كله، وكانت قريش تتيمن برأيه وتتبع أمره كالدين المتبع لا يعمل بغيره في حياته ولا بعد موته. وفي يده تجمعت كل مناصب مكة وحكمها،
وفي عهده نمت مكة واتسع عمرانها واستقلت بها بطون قريش، فكان يعشر من دخل مكة سوى أهلها1، كما عمل على تنشيط الحج إليها فاتسعت تجارتها الداخلية مع القبائل العربية الوافدة إليها وبدأت تعظم ثروتها.
وحين أسن قصي عهد بالمناصب كلها إلى ابنه عبد الدار ولم تتحدث المصادر عن نشاط عبد الدار ولا عن أثره في مكة، ولا بد أنه سار على نهج أبيه، ولكن يبدو أنه لم يكن على جانب كبير من المقدرة لا هو ولا أحد من بنيه؛ الأمر الذي جعل بني عمهم عبد مناف ينازعونهم زعامة مكة ويرون أنهم أحق بها منهم لشرفهم وفضلهم2.
وقد أدى هذا التنازع إلى قيام حلفي المطيبين والأحلاف وكادت الحرب تقع بين بطون قريش -كما أشرنا إلى ذلك من قبل- ثم اقتسمت المناصب؛ فآل لبني عبد مناف الرفادة والسقاية، وهما أهم وظيفتين في مكة لارتباطهما بالحج ووفود الحجاج إلى مكة من قبائل العرب المختلفة. الأمر الذي كانت مكة تعتمد عليه في حياتها الاقتصادية. وقد وكل أمر هاتين الوظيفتين إلى هاشم بن عبد مناف الذي يبدو أنه كان واسع الثروة جم النشاط3؛ فقد نالت مكة على يديه هو وإخوته تقدمًا كبيرًا، وبعد أن كانت تجارتها مقصورة على التجارة الداخلية مرتبطة بالحرم4؛ فتح لها هاشم وإخوته مجال التجارة الخارجية؛ فقد رحلوا إلى الشام وإلى اليمن وإلى الحبشة وإلى العراق، وقاموا باتصالات قوية مع حكام هذه المناطق أدت إلى عقد معاهدات تجارية، فقد أخذ من الروم عهدًا بالسماح لتجار قريش أن يدخلوا الشام وبلاد الدولة الرومية في سلام، وكذلك أخذ إخوته المطلب وعبد شمس ونوفل عهودًا مماثلة من الأكاسرة والنجاشي والحميريين. وبذلك بدأت قريش تسيطر شيئًا فشيئًا على التبادل التجاري بين الشمال والجنوب. وقد قام هاشم بتنظيم رحلات القوافل إلى الجنوب شتاء وإلى الشمال صيفًا. وقد عرف هذا النظام برحلتي الشتاء والصيف5، وإلى هاتين الرحلتين وأثرهما يشير القرآن الكريم: {لإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ
1 ابن سعد 1/ 50.
2 ابن هشام 1/ 211.
3 ابن هشام 1/ 146-147. اليعقوبي 1/ 201- 202.
4 اليعقوبي 1/ 201.
5 ابن هشام 1/ 137.
118
فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش] ، كما وضع هاشم نظامًا لتأمين مرور القوافل بين القبائل العربية، وذلك بإشراك زعماء القبائل في قوافله؛ فيحمل لهم بضائعهم دون أن يتحملوا في نقلها شيئًا1، وبذلك اتسعت تجارة قريش وعظمت ثروتها وأصبح هاشم بن عبد مناف زعيمًا لمكة كلها، وإن لم تجتمع له كل المناصب كما كان الحال عند جده قصي. لكن موته المبكر2 حرم مكة من جهود هذا الزعيم المفكر النشيط، وقام إخوته من بعده على تدعيم تجارة مكة الخارجية؛ لكنه لم يكن لأحدهم من المكانة ما كان لهاشم.
وبدأت تظهر شخصيات أخرى في البطون القرشية لم تبلغ منزلة أحدهم مكانة الزعامة المطلقة، وترتب على ذلك أن برزت قوة الملأ في قريش، وهو مجلس القبيلة المكون من زعماء العشائر وأتيحت الفرصة لظهور رجال متعددين كانت تقوم العلاقة بينهم على أساس التكافؤ، وكانوا يشاركون جميعًا في إدارة شئون مكة.
وكان أبرز هؤلاء الزعماء في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي هو عبد المطلب بن هاشم. ولم يكن عبد المطلب في منزلة أبيه؛ وإنما كان أحد هؤلاء الرجال النظراء الأكفاء الذين حفل بهم ملأ مكة في هذه الفترة، وكان أكبر عمل أظهر شخصية عبد المطلب هو إعادته حفر بئر زمزم التي كانت قد غاضت مياهها وطمست في أواخر أيام جرهم3، وقد يسر حفر زمزم مهمة السقاية التي كان يقوم عليها عبد المطلب، كما رفع من مكانته الأدبية لما يحيط بزمزم من تعظيم على أنها بئر إسماعيل المبارك الذي فجره الله له، وفي أيام عبد المطلب وقع الغزو الحبشي على مكة، وقد حاول عبد المطلب أن يرد الغزاة عن مكة عن طريق المفاوضة ولم يفلح 4، كما لم يفلح في تعبئة قريش لقتال الأحباش5؛ لأن قوة جيشهم وما أتوا به من عدة وسلاح وما كان معهم من الفيلة التي لا عهد للعرب بقتالها أفظعتهم فهبطت همتهم وبخاصة بعد ما علموا بما أصاب القبائل التي تصدت لهم من هزيمة6. وتقول الروايات: إن
1 ابن سعد 1/ 58. اليعقوبي 1/ 202. ودلي: الرسول ص 35- 38.
2 ابن الأثير 2/ 10.
3 ابن هشام 1/ 154- 158. اليعقوبي 127.
4 ابن هشام 1/ 51.
5 اليعقوبي 1/ 209-210.
6 ابن هشام 1/ 49.
عبد المطلب لم يفارق الكعبة حين تفرقت قريش في شعاب مكة وجبالها خوف الغزاة، بل أخذ يستعد لمقاومة الغزو بمن أطاعه من قومه، وهو مع ذلك يدعو ربه ليرد كيد المغير عن بيته الحرام1. ولما تفشى المرض في جيش أبرهة وارتد عن مكة؛ علت مكانة عبد المطلب الأدبية والدينية بين قومه، حتى كانت قريش تقول: عبد المطلب إبراهيم الثاني 2، كما علت منزلة قريش كلها بين القبائل العربية وقال العرب عنهم: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مئونة عدوهم3، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الحادث: {أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل] .
وكانت لعبد المطلب وفادات على الجنوب، فكان ينزل على عظماء اليمن، وقد وفد على سيف بن ذي يزن مع وفد مكة لتهنئته بعد انتصاره على الأحباش، ففضله على من معه وآثره4.
وأبرز شخصية من رجال الملأ ظهرت بعد عبد المطلب بن هاشم هو أبو سفيان بن حرب بن أمية، ولم يكن لبني أمية من مناصب مكة إلا منصب واحد هو العقاب وهو راية قريش، ولا يمكن تحديد الوقت والمناسبة التي أسندت إليها فيه هذه الوظيفة ولكن يبدو أنها أسندت إلى بني أمية في فترة متأخرة، ومن الراجح أن يكون ذلك بُعَيد ظهور الإسلام في مكة. ولم يكن أبو سفيان من رجال قريش المشهورين بالجود والكرم، إنما كان يغلب على طبيعته الشح5، وكل ما اشتهر به أنه كان تاجرًا قاد بعض قوافل قريش التجارية نحو الجنوب والشرق والشمال6. وقد تعرضت إحدى
1 نفسه 1/ 51. اليعقوبي 2/ 7. الطبري 1/ 551- 557.
2 اليعقوبي 2/ 7.
3 ابن هشام 1/ 59.
4 اليعقوبي 2/ 8. ابن سعد 1/ 67.
5 البخاري 3/ 79. أسد الغابة 5/ 562.
6 نفسه 1/ 4، 5، 4/ 36، 45. ابن الأثير 2/ 318- 319، الآلوسي 1/ 320.
القوافل الكبرى التي كان يقودها إلى الشام لتصدي المسلمين لها بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب بسنتين؛ فاستطاع أبو سفيان بمهارته وحذره أن يتجنب الخطر وأن يعود بالقافلة سليمة إلى مكة، لكن هذا التصدي أدى إلى وقوع معركة بدر التي قتل فيها معظم زعماء قريش البارزين، ولم يبق إلا الزعماء الثانويون، وكان أبرزهم جميعًا أبا سفيان، الذي أبدى كثيرًا من ضروب المهارة في نجاة القافلة، وفي جمع شمل القبيلة بعد هذه المعركة، وتعبئة كل قوتها للأخذ بثأرها من المسلمين، ومن ثم كتبت له الزعامة العامة في قريش وأخذ على عاتقه تنظيم القبيلة، وقيادة جيوش مكة في حروبها ضد يثرب ست سنوات بعد ذلك انتهت بفتح مكة وتغيير الأوضاع كلها.
على أن هؤلاء الرجال الأفذاذ، سواء منهم من نالوا زعامة عامة في القبيلة كلها أو من كانوا زعماء في عشائرهم، قد حرصوا دائمًا على مصلحة القبيلة وحفظوا على مكة وحدتها، وجنبوها ما كان يقع في القبائل والمدن الأخرى من حروب عشائرية؛ ووقفوا ضد كل طيش ونزق، وحرصوا -حتى في أحرج الظروف- على صيانة الدماء؛ فلم تقع أية ثارات بين بيوتاتها المختلفة، وحتى وقت ظهور الإسلام حرصوا طيلة ثلاث عشرة سنة قضاها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة على ألا تسفك دماء القرشيين وألا تقع حرب بين بطون قريش بسبب دخول من دخلوا في الإسلام بالرغم من الموقف الشديد الذي وقفته القبيلة تجاه الدعوة الإسلامية ومن دخل فيها، ومحاولة فتنة المسلمين من قريش عن دينهم بكافة أنواع المقاومة دون القتل، وحتى حين أجمع الملأ من قريش على التخلص من محمد صلى الله عليه وسلم بالقتل، حرصوا على أن يكون تنفيذ القرار جماعيًّا حتى لا تحدث حرب أهلية في مكة. وقد عدوا النبي صلى الله عليه وسلم مفرقًا لجماعة قريش مهددًا لمركز الكعبة الذي يتوقف عليه مركز مكة إلى حد كبير، وقد حاولوا إثناءه عن موقفه بكافة أنواع الترغيب والوعيد. كما حاولوا أن يرجعوه عن دعوته باللجوء إلى عشيرته؛ فقد أصر بنو هاشم على الوقوف إلى جانب محمد صلى الله عليه وسلم وحمايته، فأوقعوا عليه وعليهم عقوبات اقتصادية شديدة، ولكنها على كل حال دون القتل والقتال. ولم يتورطوا في أحلاف تجر إلى الحرب، كما لم يتورطوا في خوض الحرب إلا مرتين، مرة إلى جانب حلفائهم من بني بكر ضد هوازن وقيس فيما عرف بحرب الفجار. وقد جروا إلى هذه الحرب جرًّا دون أن تكون لهم يد في إشعالها. ومع ذلك فقد كانوا هم الداعون للصلح.
فيها، وقدموا من أجل السلام كافة التسهيلات، حتى قدموا أربعين رجلًا رهنًا لتوفية دية القتلى. والمرة الثانية هي الحرب التي دخلوها ضد المسلمين في يثرب، وقد بدءوها حرصًا على مكانة مكة وصيانة مصالحها.
وكما حفظوا على مكة وحدتها الداخلية؛ كذلك حافظوا على حسن الصلة بينها وبين القبائل الأخرى في أنحاء الجزيرة العربية، وبخاصة القبائل الضاربة حول مكة، وتلك التي تنتشر على جوانب طرق القوافل، الأمر الذي مكَّن قريشًا من القيام على تنظيم القوافل التجارية وتسييرها آمنةً بين هذه القبائل.
كما حافظوا على خطة الحياد التي انتهجوها بالنسبة للصراع الدولي الذي قام بين الفرس والبيزنطيين، ودخل في دائرته أجزاء كثيرة من الجزيرة العربية كاليمن في الجنوب والمناذرة على أطراف العراق، والغساسنة على أطراف الشام. واستطاعوا بمهارة أن يسالموا الدول المتصارعة، وأن يفيدوا من هذا الموقف الحيادي في السيطرة على نقل التجارة بين الشرق والغرب. وجنوا من وراء ذلك ثروة كبيرة ومركزًا ممتازًا.