المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ نشأة مكة - مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم

[أحمد إبراهيم الشريف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

-

- ‌جغرافية الجزيرة العربية والتشكيل القبلي

- ‌شبه جزيرة العرب

-

- ‌أقسام شبه الجزيرة العربية

- ‌الحجاز

- ‌أودية الحجاز:

- ‌مدن الحجاز:

- ‌مكة:

- ‌الطائف:

- ‌يثرب:

- ‌المناخ:

- ‌القبيلة العربية

- ‌مدخل

- ‌النظام السياسي للقبيلة العربية

- ‌مدخل

- ‌التشكيل الاجتماعي للقبيلة العربية:

- ‌دستور القبيلة

- ‌مستويات العصبية الاجتماعية

- ‌مهمة الدفاع لدى القبائل

- ‌الوضع الاقتصادي

- ‌مدينة مكة

- ‌مدخل:‌‌ مكة قبل الإسلام

- ‌ مكة قبل الإسلام

-

- ‌ نشأة مكة

- ‌قصي بن كلاب وعودة قريش إلى مكة:

- ‌حكومة مكة وسياستها الداخلية

- ‌مدخل

- ‌النزاعات العشائرية ووحدة القبيلة في مكة

- ‌قوة الزعامة في مكة وأثرها

- ‌ قوة قريش الحربية وعلاقتها بالقبائل الخارجية

- ‌علاقات مكة الخارجية

- ‌مدخل

- ‌علاقة مكة بالجنوب:

- ‌علاقة مكة بالشمال:

- ‌علاقة مكة بالفرس والحيرة:

- ‌الحج وأثره

- ‌مدخل

- ‌الكعبة البيت الحرام:

- ‌الحج

-

- ‌طقوس الحج وتقاليده

- ‌ثياب الإحرام:

- ‌الوقوف بعرفة:

- ‌الهدي والقلائد:

- ‌الحلق والتقصير:

- ‌آثار الحج الاقتصادية والاجتماعية:

- ‌الأشهر الحرم وأهميتها

-

- ‌ الحالة الاقتصادية

-

- ‌تجارة قريش الداخلية والخارجية

- ‌الربا:

- ‌النقد:

- ‌الأعداد والحساب:

- ‌المكاييل والموازين والمقاييس:

- ‌النشاط الزراعي والرعوي:

- ‌النشاط الصناعي:

- ‌الحالة الاجتماعية

- ‌مدخل

- ‌ طبقة الصرحاء:

- ‌ طبقة الموالي:

- ‌ طبقة الأرقاء:

-

- ‌الجاليات الأجنبية:

- ‌ النصارى:

- ‌ اليهود:

- ‌استعداد العرب للنقلة

- ‌مدخل

- ‌ظهور المصلح النبي

- ‌المفاهيم الجديدة في الدعوة:

- ‌الدعوة إلى الإسلام ومسايرة التنظيم العربي

- ‌أساليب قريش لمقاومة الدعوة

- ‌الهجرة في سبيل الدعوة:

- ‌مدينة يثرب

- ‌نشأة يثرب

- ‌مدخل

- ‌سكان المدينة

- ‌مدخل

- ‌اليهود

- ‌العرب

- ‌الأوس:

- ‌الخزرج:

- ‌التنظيم الداخلي والعلاقة بين السكان

- ‌مدخل

- ‌ العلاقات بين اليهود

- ‌ العلاقات بين العرب واليهود

- ‌ العلاقات بين الأوس والخزرج

- ‌ قوة يثرب وعلاقاتها الخارجية

-

- ‌ الحالة الاقتصادية

- ‌النشاط الزراعي

-

- ‌النشاط الرعوي

- ‌الصيد:

-

- ‌النشاط التجاري

- ‌التجارة الداخلية:

- ‌التجارة الخارجية:

- ‌المكاييل والموازين:

- ‌العملة:

- ‌النشاط الصناعي

-

- ‌ الهجرة وتأسيس الدولة الإسلامية في يثرب

- ‌تكوين الدولة في يثرب

- ‌الصحيفة

- ‌الصراع بين يثرب وخصومها

- ‌مدخل

-

- ‌ الصراع بين مكة والمدينة

- ‌الحالة الداخلية في يثرب "المدينة

- ‌الحالة الداخلية في مكة

-

- ‌بداية الصراع بين المدينتين

- ‌موقعة بدر سنة 2 ه

- ‌آثار موقعة أحد:

- ‌غزوة الأحزاب أو الخندق:

- ‌نتيجة الصراع

- ‌صلح الحديبية

-

- ‌ الصراع بين المسلمين واليهود

- ‌إجلاء بني قينقاع:

- ‌إجلاء بني النضير

- ‌القضاء على بني قريظة:

- ‌فتح خيبر والقضاء على قوة اليهود في جزيرة العرب:

-

- ‌ الصراع بين المدينة والقبائل العربية

- ‌غزوة مؤتة:

-

- ‌الخاتمة:

- ‌فتح مكة وتوحيد الجزيرة العربية

- ‌بيان براءة:

- ‌الخلافة الإسلامية وتثبيت دعائم الوحدة

- ‌مدخل

- ‌مشكلة الخلافة:

- ‌الردة:

- ‌الكشاف

- ‌أولًا: فهرس الأعلام

- ‌ثانيًا: الدول والقبائل والبطون والعشائر

- ‌ثالثًا: المواضع

- ‌رابعًا: الحروب والغزوات والوقائع

- ‌المصادر والمراجع

- ‌أولا: المراجع العربية

- ‌ثانيًا: المصادر والمراجع الأجنبية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ نشأة مكة

الفصل الأول:‌

‌ نشأة مكة

قصي بن كلاب وعودة قريش إلى مكة

في منتصف الطريق المعبّد للقوافل بين اليمن والشام، تقوم مكة: في وادٍ منبسطٍ من أودية جبال السراة، تحيط به الجبال الجرداء من كل جانب1. وتكاد تحجبه إلا من ثلاثة منافذ، يصله أحدها بطريق اليمن، ويصله الثاني بطريق قريب من البحر الأحمر عند مرفأ جدّة، ويصله الثالث بالطّريق المؤدِّي إلى فلسطين2. ومكة مدينة قديمة ورد اسمها في المصادر اليونانية والرومانية القديمة، فذكرها بطليموس الإسكندري باسم "ماكورابا Macoraba 3" ولكنها لا بد أن تكون أقدم عهدًا من هذا الجغرافيّ الذي عاش في القرن الثاني بعد الميلاد4. فقد أشار المؤرّخون الكلاسيكيون إلى وجود مواضع عدة في القسم الغربيّ من الجزيرة العربية التي كانت ذات حرمة وقداسية في ِأنظار العرب. وكانوا يقصدونها من أماكنَ بعيدةٍ للتبرك بها؛ ومع أن هؤلاء الكتاب لم يذكروا أسماء هذه الأماكن؛ فإنه لا يستبعد أن تكون مكة في جملة هذه الأماكن التي قصدوها. وقد ذهب "أوغست ميلر Auguat Muller " إلى أن المعبد الذي قال عنه ديودور الصقلي إنه معبد مشهور بين العرب، وهو مكة5. ولما لم يعثر حتى الآن على كتابات جاهلية تفصح عن اسم هذه المدينة القديمة ولا عن تاريخها البعيد

1 ياقوت، معجم البلدان 18/ 187.

2 هيكل، حياة محمد 83.

3 ياقوت 18/ 181. بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية 1/ 33.

Ptolemy، Georgra ph. Vi 7. 32. Gerald de Gauy، rlers of Mecca. p. 24

4 جواد على، تاريخ العرب قبل الإسلام 4/ 188.

5 عن جواد علي 4/ 504.

Amuller. Du Islsm I.5.30 هيكل 91

ص: 87

فإنه من العسير معرفةُ تاريخ قيامها وتحديد الزمن الذي أصبح فيه هذا المكان بلدًا، وأكثر الظنّ أنه يرجع إلى ألوف من السنين مضت، وإذا كان بدء سكنى هذا الوادي يرجع إلى أيام إبراهيم وإسماعيل، فإن ذلك يعني القرن التاسع عشر قبل الميلاد1.

والثابت أن واديها اتّخذ من قبل أن تبنى موئلًا لراحة رجال القوافل القادمة من الشمال والجنوب، بسبب ما كان به من العيون، فعلى طول الطرق التجارية عبر الصحراء وجدت بضعة أماكن مبعثرة اتخذتها التجار المسافرون موئلًا لراحتهم، وبالتدريج أصبحت منازل الراحة هذه مستودعات للتجارة، وصار بعضها مقامًا للهياكل والمحاريب يتابع التاجر في حمايتها تجارته، ويلجأ الحاج إليها لالتماس العون منها، ووادي مكة إحدى هذه المحطات التي جعل منها رجال القوافل مضارب لخيامهم سواء منهم القادمون من اليمن إلى فلسطين أو القادمون من فلسطين إلى اليمن2.

وإذا كان من الثابت -كما ورد في القرآن الكريم- أن إبراهيم وإسماعيل قد أقاما البيت الحرام في واديها، فإنه من الراجح أن إسماعيل هو أول من اتخذها مقامًا وسكنا، بعد أن كانت مجرد محلة للقوافل وسوقًا لتبادل التجارة بين الآتين من الشمال والآتين من الجنوب.

وتجرى رواية الأخباريين إلى أن إبراهيم حمل زوجه هاجر وابنهما إسماعيل نحو الجنوب حتى وصل إلى هذا الوادي الذي كان مضرب خيام القوافل، ثم تركهما فيه وعاد من حيث أتى، بعد أن ترك لهما ما يتبلغان به من التمر والماء، واتخذت هاجر لها عريشا إلى جوار ربوة حمراء بهذا الوادي- لعلها كانت مقدسة يتبرك بها رجال القوافل3- آوت إليه هي وابنها، فلما نفد الماء وكادا يهلكان عطشًا ذهبت تبحث عنه، وفي خلال هذا البحث انفجرت عين زمزم، فأقامت عليها وابنها. ترد عليهما القوافل في رحلاتها فينالان من العيش ما يكفيهما. على أن زمزم التي تفجر ماؤها قد استهوت بعض القبائل للمقام على مقربة منها. وتجري بعض الروايات بأن قبيلة جرهم

1 جورجي زيدان، العرب قبل الإسلام 188.

2 هيكل، حياة محمد 84.

3 الأزرقي 1/ 6 اليعقوبي 3/ 16 ابن كثير 1/ 155. الطبري 1/ 178.

ص: 88

اليمنة هي أولى القبائل التي أقامت، وأنها أقامت بعد أن تفجرت زمزم1. بينما تجري رواية أخرى بأنها كانت موجودة قبل ذلك وكان معها حول مكة قوم من العماليق2. ثم شبّ إسماعيل وتزوّج فتاةً جرهمية ولدت له أولاده. وفي هذا المكان أقام إبراهيم وابنه إسماعيل القواعدَ من البيت الحرام وجعله محجًّا للناس. وفي هذا المكان قامت مكة حول البيت ومنه أخذت اسمها. وقد فسّر المؤرخون واللغويون العربُ اسم مكة تفسيراتٍ كثيرةً لغويةً وغيرَ لغويةٍ استنبطوها من مكانة الكعبة وقدسيتها في نفوس العرب3 وهذه التفسيرات متأخرة بطبيعة الحال؛ واسم مكة سابق على هذه المفهومات. ولما كان قبائل الجنوب هي أول من استعمر هذا الوادي فالأرجح أن اسمها أخذ من لغة الجنوب4 مستندًا إلى البيت الحرام، فمكّة أو "مكرب" كما ذكرها بطليموس كلمة يمنية مكوّنة من مك ورب، ومك بمعنى بيت فتكون مكرب بمعنى "بيت الرب" أو بيت الإله، ومن هذه الكلمات أخذت مكة أو بكة بقلب الميم باء على عادة أهل الجنوب.

ويقول المؤرخ بروكلمان: إنها مأخوذة من كلمة مقرب العربية الجنوبية ومعناها الهيكل، وفي التعليق على هذا الكلمة يقول صاحب الحاشية:"لقد سمّى القرآن مكة وبكة، وبكة هي الوادي ومكة لغة أخرى، ومنة "بعلبك" بمعنى وادي البعل، وهذا أدل على مركز مكة؛ لأن مكة في وادٍ غير ذي زرع. ثم إن "ما كورابا" -أو على الأصح "ماكارابا"- حسب اللهجة الآرامية

الشرقية لا السريانية الغربية. يصحّ أن تعني الوادي العظيم أو وادي الربّ، ولعل بطليموس أخذ الاسم من طريق "الآراميين"5 ويرتاب سير وليم موير Sir W. muir في قصة ذهاب إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز ويرى أنها من صنع اليهود ابتدعوها

قبل الإسلام بأجيال ليربطوا بينهم وبين العرب برابطة قرابة، توجب على العرب حسن معاملة اليهود النازلين بينهم، وتيسر

1 ابن هشام 1/ 123- 124.

2 الطبري 1/ 179- 2/ 37.

3 ابن هشام 1/ 125- 126. الروض الأنف 1/ 81- 82.

4 Gerald de Gaury، ol. cit. p. 24

5 بروكلمان 1/ 33.

ص: 89

لتجّار اليهود في شبه الجزيرة1 ويستند إلى أنّه لا صلةَ بين أوضاع العبادة في العرب وبين دين إبراهيم؛ لأنها وثنيةٌ مغرقةٌ في الوثنية وقد كان إبراهيمُ حنيفًا مسلمًا. وهو إذا ينفي قصّة ذهاب إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز يقول بإمكان انتقال جماعة من أبنائهما بعد ذلك من فلسطين إلى بلاد العرب واتصالهم وإياهم بصلة النسب2.

ويردّ الدكتور محمد حسين هيكل رحمه الله على رأي موير بأن ما يسوقه من دليلٍ لا يكفي لنفي واقعة تاريخية، وأن وثنية العرب بعد موت إبراهيم وإسماعيل بقرونٍ كثيرةٍ لا تدل على أنهم كانوا كذلك حين جاء إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز حين اشتراكا في بناء الكعبة؛ على أنه لو وجدت وثنية يومئذٍ لما أيد ذلك رأي سير وليم موير، فقد كان قوم إبراهيم وثنيين ولم ينجح في تحويلهم، فإذا لم ينجحْ في تحويل العرب فلا بدع ولا عجب.

ويرى هيكل: أن المنطق يؤيد رواية التاريخ، فإبراهيم الذي خرج من العراق فارًّا بأهله إلى فلسطين ومصر، رجل قد ألف الارتحال واجتياز الصحاري، والطريق ما بين فلسطين ومكة كان مطروقًا من القوافل منذ أقدم العصور، فلا محلّ إذن للريبة في واقعة انعقد الإجماع على جملتها. وإذا جاز انتقال بعض أبناء إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز؛ فكيف لا يكون جائزًا في شأن الرجلين بالذات، بل كيف لا يكون ثابتًا جازمًا ورواية التاريخ تؤكِّده، وقد ذكر ذلك القرآن الكريم وتحدّثت به بعض الكتب السماوية3.

على أن إبراهيم الذي خرج من العراق فارًّا بدينه ضاربًا في الأرض إلى فلسطين ومصر، ولم يجد استجابةً بين كل الأقوام الذين ارتحل إلى أرضهم- لا بد أنّه كان يعلم أمر هذا الطريق التجاري المطروق وأمر المحطّات التي تقوم عليه، ولا بد أن راودته فكرة التبشير بدينه بين القبائل الضاربة على جنبات هذا الطريق، بعيدًا عن مجال الحكومات القائمة وديانات شعوبها ومعابدها الوثنية العريقة، ولا بد أنه علم بأمر هذه المحطة التجارية المتوسطة والتي تلتقي عندها الطرق وتغشاها القوافل، ولا شك أن الآية القرآنية:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج] تشير في ثناياها إلى

1 W. Muir، I. life of Mahomet and History of Islam. V. I،p Cxci

2 Muir، Ol. CIt، p. Cx، ocit

3 هيكل 89- 90.

ص: 90

هذا التفكير من إبراهيم، وإلى إلهامه فكرة بناء البيت في هذا المكان الذي من المحتمل أن يلقى فيه استجابة من المقيمين والغادين الرائحين. {وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج] .

على أن إبراهيم لم يكن ليحمل زوجه وابنه إلى مكان قفر لا زرع فيه إلا لسبب واضح لديه محدد عنده، وهو القيام بأمر العبادة عند هذا البيت الذي ينوي أن يقيمه لله، والتبشير بهذا الدين الذي بعث به. وتشير الآية القرآنية:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم] إلى ذلك في صراحة واضحة، كما تشير إلى ما يرتجيه إبراهيم لهذه المحلة التجارية من نمو وازدهار على مرِّ الأيام؛ نظرًا لموقعها المتوسط ولحصانتها بالنسبة للنازل والمقيم وإبراهيم الرّحّالة الخبير. لا شكّ كان عالمًا بقيمة المواقع وأهميتها لطول ما تمرّس به من الرحلات والأسفار. ولقد كرّر زيارته -كما تجري الروايات- إلى زوجة وولده في المكان، للاطمئنان على سلامة تقديره، وليرقب نموّ هذه النواة التي وضعها للإقامة في هذا الوادي الحصين، فلما اطمأنّ إلى أنها نبتت وامتدّت جذورها، تعاون هو وابنه على بناء البيت الحرام {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة] . ولما شهد إبراهيم قيام البلد الذي كان يرجو قيامَه حول البيت، واطمأنّ إلى أن عمله قد آتى ثماره، دعا ربه {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم] وهكذا يمكن أن نتصوّر قيام مكةَ في هذه البقعة على ما يمكن أن نستنتج من آيات القرآن وكما تجري به الروايات.

ص: 91

استمرت جرهم تلي أمر البيت فترة من الزمن، وأبناء إسماعيل مع أخوالهم لا يرون أن ينازعوهم أمر البيت لخئولتهم وقرابتهم1، إلى أن قدمت قبيلة يمنية أخرى هاجرت من الجنوب في الهجرة التي تفرقت بها قبائل الأزد مهاجرة نحو الشمال، بعد اضمحلال حالة اليمن وتهدّم سد مآرب2، واستقرّ بطن من بطون الأزد حول مكّة وعرف بقبيلة خزاعة، واحتكت خزاعة بجرهم فتقاتلت القبيلتان وانتصرت خزاعة ووليت أمر البيت، وخرجت عن هذا الوادي جرهم، كما خرج أبناء إسماعيل حيث تفرقوا حول مكّة وفي تهامة3.

وقد بدأت مكة تتطوّر أيام خزاعة، فقد عمل زعيم خزاعة "عمرو بن لحي" على تنشيط الحجّ إلى الكعبة، بعد أن كان أمر مكة قد تدهور، والحجّ إليها قد قلّ؛ بسبب بغي جرهم واعتدائها على القوافل والتجار والحجاج الذين يمرون بمكة أو يفدون إليها للمتاجرة والحج4، وبعد إهمال بئر زمزم التي يسرت المقام في هذا الوادي القفر، فأخذ عمرو بن لحي يقيم موائد الطعام في موسم الحج وييسر جلب الماء من الآبار المنبثّة حول مكة، ونال بذلك منزلةً كبيرةً بين قومهه وبين القبائل الضاربة حول مكة5.

ولما كانت قبائل العرب البعيدة لا تعرف شيئًا عن الحنفية دين إبراهيم؛ فقد عمل عمرو بن لحيّ عن جلب الأصنام من الجهات الأخرى وإقامتها حول الكعبة؛ حتى يرغّب القبائل العربية، وبخاصة قبائل الشمال، في الحج إلى بيت مكة للتقرب لأصنامها، وقد طوّع لعمرو بن لحيّ أن يدخل على البيت هذه العبادة، ذلك المركز الذي أشرنا إليه، ويبدو أن الحنفية كان قد ضعف أمرها حتى بين أبناء إسماعيل

1 ابن هشام 1/ 521.

2 يشير القرآن الكريم إلى حادث السيول الجارفة التي اكتسحت السد في أيام سبأ، كما تشير النقوش إلى تهدم السد عدة مرات، منها في سنة 450 ميلادية "جواد 3/ 156- 157" ومرة سنة 245 "جواد 3/ 197- 199. والنقش المنشور بينهما". ولعل قبائل الأزد هاجرت في حوالي منتصف القرن الخامس أو ربما قبل ذلك.

3 الطبري 1/ 187.

4 ابن هشام 1/ 125.

5 ابن كثير 2/ 187.

ص: 92