المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ العلاقات بين الأوس والخزرج - مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم

[أحمد إبراهيم الشريف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

-

- ‌جغرافية الجزيرة العربية والتشكيل القبلي

- ‌شبه جزيرة العرب

-

- ‌أقسام شبه الجزيرة العربية

- ‌الحجاز

- ‌أودية الحجاز:

- ‌مدن الحجاز:

- ‌مكة:

- ‌الطائف:

- ‌يثرب:

- ‌المناخ:

- ‌القبيلة العربية

- ‌مدخل

- ‌النظام السياسي للقبيلة العربية

- ‌مدخل

- ‌التشكيل الاجتماعي للقبيلة العربية:

- ‌دستور القبيلة

- ‌مستويات العصبية الاجتماعية

- ‌مهمة الدفاع لدى القبائل

- ‌الوضع الاقتصادي

- ‌مدينة مكة

- ‌مدخل:‌‌ مكة قبل الإسلام

- ‌ مكة قبل الإسلام

-

- ‌ نشأة مكة

- ‌قصي بن كلاب وعودة قريش إلى مكة:

- ‌حكومة مكة وسياستها الداخلية

- ‌مدخل

- ‌النزاعات العشائرية ووحدة القبيلة في مكة

- ‌قوة الزعامة في مكة وأثرها

- ‌ قوة قريش الحربية وعلاقتها بالقبائل الخارجية

- ‌علاقات مكة الخارجية

- ‌مدخل

- ‌علاقة مكة بالجنوب:

- ‌علاقة مكة بالشمال:

- ‌علاقة مكة بالفرس والحيرة:

- ‌الحج وأثره

- ‌مدخل

- ‌الكعبة البيت الحرام:

- ‌الحج

-

- ‌طقوس الحج وتقاليده

- ‌ثياب الإحرام:

- ‌الوقوف بعرفة:

- ‌الهدي والقلائد:

- ‌الحلق والتقصير:

- ‌آثار الحج الاقتصادية والاجتماعية:

- ‌الأشهر الحرم وأهميتها

-

- ‌ الحالة الاقتصادية

-

- ‌تجارة قريش الداخلية والخارجية

- ‌الربا:

- ‌النقد:

- ‌الأعداد والحساب:

- ‌المكاييل والموازين والمقاييس:

- ‌النشاط الزراعي والرعوي:

- ‌النشاط الصناعي:

- ‌الحالة الاجتماعية

- ‌مدخل

- ‌ طبقة الصرحاء:

- ‌ طبقة الموالي:

- ‌ طبقة الأرقاء:

-

- ‌الجاليات الأجنبية:

- ‌ النصارى:

- ‌ اليهود:

- ‌استعداد العرب للنقلة

- ‌مدخل

- ‌ظهور المصلح النبي

- ‌المفاهيم الجديدة في الدعوة:

- ‌الدعوة إلى الإسلام ومسايرة التنظيم العربي

- ‌أساليب قريش لمقاومة الدعوة

- ‌الهجرة في سبيل الدعوة:

- ‌مدينة يثرب

- ‌نشأة يثرب

- ‌مدخل

- ‌سكان المدينة

- ‌مدخل

- ‌اليهود

- ‌العرب

- ‌الأوس:

- ‌الخزرج:

- ‌التنظيم الداخلي والعلاقة بين السكان

- ‌مدخل

- ‌ العلاقات بين اليهود

- ‌ العلاقات بين العرب واليهود

- ‌ العلاقات بين الأوس والخزرج

- ‌ قوة يثرب وعلاقاتها الخارجية

-

- ‌ الحالة الاقتصادية

- ‌النشاط الزراعي

-

- ‌النشاط الرعوي

- ‌الصيد:

-

- ‌النشاط التجاري

- ‌التجارة الداخلية:

- ‌التجارة الخارجية:

- ‌المكاييل والموازين:

- ‌العملة:

- ‌النشاط الصناعي

-

- ‌ الهجرة وتأسيس الدولة الإسلامية في يثرب

- ‌تكوين الدولة في يثرب

- ‌الصحيفة

- ‌الصراع بين يثرب وخصومها

- ‌مدخل

-

- ‌ الصراع بين مكة والمدينة

- ‌الحالة الداخلية في يثرب "المدينة

- ‌الحالة الداخلية في مكة

-

- ‌بداية الصراع بين المدينتين

- ‌موقعة بدر سنة 2 ه

- ‌آثار موقعة أحد:

- ‌غزوة الأحزاب أو الخندق:

- ‌نتيجة الصراع

- ‌صلح الحديبية

-

- ‌ الصراع بين المسلمين واليهود

- ‌إجلاء بني قينقاع:

- ‌إجلاء بني النضير

- ‌القضاء على بني قريظة:

- ‌فتح خيبر والقضاء على قوة اليهود في جزيرة العرب:

-

- ‌ الصراع بين المدينة والقبائل العربية

- ‌غزوة مؤتة:

-

- ‌الخاتمة:

- ‌فتح مكة وتوحيد الجزيرة العربية

- ‌بيان براءة:

- ‌الخلافة الإسلامية وتثبيت دعائم الوحدة

- ‌مدخل

- ‌مشكلة الخلافة:

- ‌الردة:

- ‌الكشاف

- ‌أولًا: فهرس الأعلام

- ‌ثانيًا: الدول والقبائل والبطون والعشائر

- ‌ثالثًا: المواضع

- ‌رابعًا: الحروب والغزوات والوقائع

- ‌المصادر والمراجع

- ‌أولا: المراجع العربية

- ‌ثانيًا: المصادر والمراجع الأجنبية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ العلاقات بين الأوس والخزرج

به جاليات يهودية وكان تحت سيادة الدولة الفارسية التي كانت تشجع اليهودية في بلاد العرب.

من كل ذلك نرى أن إقحام النزاع بين الأوس والخزرج وبين اليهود في المدينة في مجال العراك الدولي أو الصراع بين اليهودية والنصرانية أمر لا محل له. وأنه كان نزاعًا محليًّا أوجدته ظروف يثرب الاقتصادية واعتماد السكان فيها على استثمار الأراضي الزراعية، ويتضح ذلك من توزيع السكان في منطقة يثرب، ومن النزاع الذي وقع بين الأوس والخزرج أنفسهم بعد تغلبهم على اليهود واشتراك طوائف المدينة كلها فيه تبعًا لمصالحها الاقتصادية.

ص: 274

3-

‌ العلاقات بين الأوس والخزرج

لبث الأوس والخزرج بعد تغلبهم على اليهود زمنًا وكلمتهم واحدة وأمرهم جميع، ثم وقعت بينهم حروب كثيرة، ذكر أصحاب الأخبار عددًا من أيامهم فيها، منها حرب سمير، وحرب كعب بن عمرو المازني، ويوم السرارة، ويوم فارع، ويوم الفجار الأول والثاني، وحرب الحصين بن الأسلت، وحرب حاطب بن قيس، ثم حرب بعاث، وكان أولها حرب سمير وآخرها حرب بعاث قبل الهجرة بخمس سنوات1.

وقالوا في أسباب حرب سمير: إن رجلًا من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان يقال له كعب بن العجلان، نزل على مالك بن العجلان السالمي؛ فحالفه وأقام معه، فخرج كعب يومًا إلى سوق بني قينقاع، فرأى رجلًا من غطفان معه فرس، وهو يقول ليأخذ هذا الفرس أعز أهل يثرب، فقال كعب: مالك بن العجلان، وقال رجل: فلان، وقال آخر: أحيحة بن الجلاح الأوسي، وقال غيرهم: فلان بن فلان اليهودي، أفضل أهلها. فدفع الغطفاني الفرس إلى مالك بن العجلان. فقال كعب: ألم أقل لكم إن حليفي مالكًا أفضلكم؟ فغضب من ذلك رجل من الأوس من بني عمرو بن عوف يقال له سمير، وشتمه وافترقا. وبقي كعب ما شاء الله. ثم قصد سوقًا لهم بقباء، فقصده سمير ولازمه حتى خلا السوق فقتله، وأخبر مالك بن العجلان بقتله، فأرسل إلى بني عمرو بن عوف يطلب قاتله، فأرسلوا: إنا لا ندري من قتله. وترددت الرسل

1 السمهودي 1/ 152. ابن الأثير 1/ 402- 418.

ص: 274

بينهم: وهو يطلب سميرًا، وهم ينكرون قتله، ثم عرضوا عليه الدية فقبلها، وكانت دية الحليف فيهم نصف دية النسيب منهم، فأبى مالك إلا أخذ دية كاملة، وامتنعوا من ذلك وقالوا: نعطي دية الحليف وهي النصف، ولج الأمر بينهم حتى أتى إلى المحاربة. فاجتمعوا والتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا، وافترقوا، ودخل فيها سائر بطون الأنصار، ثم التقوا مرة أخرى واقتتلوا حتى حجز بينهم الليل. وكان الظفر يومئذ للأوس، فلما افترقوا أرسلت الأوس إلى مالك بن العجلان يدعونه إلى أن يحكم بينهم المنذر بن حرام النجاري الخزرجي جد حسان بن ثابت بن المنذر فأجابهم إلى ذلك، فأتوا المنذر فحكم بينهم بأن يدوا كعبًا حليف مالك دية الصريح، ثم يعودون إلى سنتهم القديمة، فرضوا بذلك وحملوا الدية، وافترقوا وقد شبت البغضاء في نفوسهم وتمكنت العداوة بينهم1.

ثم كانت لهم بعد ذلك حروب استمرت أكثر من مائة سنة وكان آخرها يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنوات. وقالوا في حرب بعاث: وكان سببه أن الحروب المتقدمة كلها كان الظفر في أكثرها للخزرج على الأوس، حتى ذهبت الأوس لتحالف قريظة؛ فأرسلت إليهم الخزرج: لئن فعلتم فأذنوا بحرب، فتفرقوا وأرسلوا إلى الخزرج: إنا لا نحالفهم ولا ندخل بينكم. فقالت الخزرج لليهود: فأعطونا رهائن وإلا فلا نأمنكم. فأعطوهم أربعين غلامًا من بينهم، ففرقهم الخزرج في دورهم. فلما أيست الأوس من نصرة اليهود حالفت بطونًا منهم الخزرج. منهم بنو عمرو بن عوف، وقال سائرهم: والله لا تصالح حتى ندرك ثأرنا، فتقاتلوا وكثر القتل في الأوس لما خذلهم قومهم، وجرح سعد بن معاذ الأشهلي فأجاره عمرو بن الجموح الحرامي. فلما رأت الأوس أنهم إلى قل، عزموا على أن يكونوا حلفًا للخزرج في المدينة، ثم اشتوروا في أن يحالفوا قريشًا فأظهروا أنهم يريدون العمرة، وكان بينهم أن من أراد حجًّا أو عمرة لم يعرض له، فأجار أموالهم بعدهم البراء بن معرور الخزرجي، فأتوا مكة فحالفوا قريشًا. لكن الوليد بن المغيرة قال لقريش: والله ما نزل قوم قط على قوم إلا أخذوا شرفهم

1 الأغاني 3/ 19- 26، 41- 42، ابن الأثير 1/ 402- 403.

ص: 275

وورثوا ديارهم، فأقطعوا حلف الأوس، فقال: بأي! قال: بأي شيء؟ قال: إن في القوم حمية، قولوا لهم إنا نسينا شيئًا لم نذكره لكم، إنا قوم إذا كان النساء بالبيت، فرأى الرجل امرأة تعجبه قبلها ولمسها بيده؛ فلما قالوا ذلك للأوس نفرت، وقالوا: اقطعوا الحلف بيننا وبينكم، فقطعوه، فلما لم يتم لهم الحلف ذهبت النبيت أو بعضهم إلى خيبر.

فلما رأت الخزرج أن قد ظفرت بالأوس، افتخروا عليهم في أشعارهم، وقال عمرو بن النعمان البياضي: يا قوم إن بياضة بن عمرو قد أنزلكم منزل سوء بين سبخة ومفازة، والله لا يمس رأسي غسل حتى أنزلكم منازل بني قريظة والنضير على عذب الماء وكريم النخل. ثم راسلهم: إما أن تخلوا بيننا وبين دياركم نسكنها أو نقتل رهنكم، فهموا أن يخرجوا من ديارهم.

وبلغ من كان في المدينة من الأوس، فمشوا إلى كعب بن أسد القرظي فدعوه إلى المحالفة على الخزرج، ثم تحالفوا مع قريظة والنضير ثم أجمعوا أن ينزل كل أهل بيت من النبيت على بيت من قريظة والنضير، وأرسلوا إلى النبيت يأمرونهم بإتيانهم وتعاهدوا ألا يسلموهم أبدًا وأن يقاتلوا معهم حتى لا يبقى منهم أحد، فجاءتهم النبيت فنزلوا مع قريظة والنضير، فأخذت الخزرج في قتل الرهن، فقال لهم كعب بن أسد القرظي: إنما هي ليلة ثم تسعة أشهر وقد جاء الخلف. ثم أرسل إلى سائر الأوس في الحرب والقيام معهم على الخزرج فأجابوهم إلى ذلك، فاجتمع الملأ منهم واستحكم أمرهم ودخلت بينهم قبائل من أهل المدينة. فلما سمعت بذلك الخزرج اجتمعوا وخرجوا حتى أتوا عبد الله بن أبي، فقالوا: مالك لا تقتل الرهن؟ فقال: لا أغدرهم أبدًا وأنتم البغاة، وقد بلغني أن الأوس تقول: منعونا الحياة فيمنعونا الموت؟ ووالله ما يموتون أو تهلكوا عامتكم. فقال عمرو بن النعمان: انتفخ والله سحرك. فقال: إني لا أحضركم ولا أحد أطاعني أبدًا، ولكأني أنظر إليك قتيلًا يحملك أربعة في كساء. فاجتمع الخزرج ورأسوا عمرو بن النعمان.

ولبثت الأوس والخزرج ليلة يتصنعون للحرب، ويجمع بعضهم لبعض، ويرسلون إلى حلفائهم من قبائل العرب؛ فأرسلت الخزرج إلى جهينة وأشجع فأقبلوا إليهم، وأرسلت إلى الأوس إلى مزينة فجاءتهم، ثم ألتقت ببيعات -وبعاث من أموال

ص: 276

قريظة- فيها مرزعة يقال لها قورى1 فكان النصر أول النهار للخزرج، ثم ثبت حضير -رئيس الأوس- الكتائب فرجعوا، وكانت الدبرة على الخزرج، وقتل عمرو بن النعمان وجيء به تحمله أربعة كما قال له ابن أبي، ووضعت الأوس فيهم السلاح، وصاح صائح: يا معشر الأوس اسجحوا ولا تهلكوا إخوانكم فجوارهم خير من جوار الثعالب، فتناهت الأوس وكفت عن سلبهم بعد إثخان فيهم، وسلبتهم قريظة والنضير.

وجعلت الأوس تحرق على الخزرج نخلها ودورها، فخرج سعد بن معاذ الأشهلي حتى وقف على باب بني سلمة أجارهم وأموالهم، جزاء لهم بيوم الرعل وكان للخزرج على الأوس، وكان سعد بن معاذ حمل يومئذ جريحًا إلى عمرو بن الجموح فمن عليه وأجاره وأخاه يوم الرعل، وأجار أموالهم من القطع والحرق فكافأه سعد بمثل ذلك يوم بعاث.

وحلفت اليهود لتهدمن حصن عبد الله بن أبي، فلما أحاطوا بالحصن، قال لهم عبد الله: أما أنا فلم أحضر معهم، وهؤلاء أولادكم عندي فإنني لم أقتل منهم أحدًا، ونهيت الخزرج فعصوني. وكان جل من عنده من الرهن من أولاد بني النضير، ففرحوا حين سمعوا بذلك فأجاروه من الأوس ومن قريظة، فأطلق أولادهم وحالفهم، ولم يزل حتى ردهم حلفاء للخرزج بحيل تحيلها.

وكان يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين. وهو اليوم الذي تقول فيه عائشة رضي الله عنها: كان يوم بعاث يومًا قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وقد افترق ملؤهم، وقتلت سرواتهم، وجرحوا، قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في دخولهم الإسلام2.

هذا خلاصة ما روته المصادر عن يوم بعاث بين الأوس والخزرج قد سقناها، مع خلاف بسيط فيها تجاوزنا عنه لعدم أهميته، ولما كانت حوادث هذا اليوم قد وقعت قبل الهجرة بخمس سنوات، وكان كثير من زعماء الأوس والخزرج واليهود الذين شاركوا

1 ياقوت 4/ 451.

2 السمهودي 1/ 152- 155. الأغاني 3/ 19- 42. ابن الأثير 1/ 415- 418 الطبري 2/ 85. ابن هشام 1/ 183. البخاري 5/ 44.

ص: 277

في حوادثه وخاضوا غمار الوغى فيه، وقد أدركوا الإسلام وكان لهم أثر ظاهر في حوادث المدينة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولما كانت ذكريات هذا اليوم قد ظلت باقية في النفوس بين أهل يثرب، حتى لقد أوشك الحديث فيها يومًا أن يعيد العداوة بين الأوس والخزرج مرة أخرى1، فإنه مما لا شك فيه أنه يوم حقيقي وأن معظم ما وصلنا من أخباره صحيح. وقد سقنا أخبار هذا اليوم، كما سقنا أخبار اليوم الأول من حروب الأوس والخزرج، لنستطيع من ذلك أن ندرك الأسباب الحقيقية للنزاع الذي وقع بين الأوس والخزرج وشمل بطون المدينة كلها.

رأينا -من قبل- كيف أن النزاع الاقتصادي بين العرب واليهود قد أدى إلى تغلب العرب وانتقال السطلة إلى أيديهم، وانتشارهم في منطقة يثرب يتبوءون منها حيث شاءوا؛ لكن نظرة إلى مساكن الأوس والخزرج في منطقة يثرب تجعلنا ندرك أن هذا الغلب الذي أحرزه العرب لا يمكن أن يؤدي إلى استقرار الأمور في المدينة، فلم تكن هناك خطة مرسومة سار عليها الأوس والخزرج في تملك الأراضي الزراعية، وإنما جاء الأمر -فيما يبدو- على غير تقدير مرسوم، فحدث أن احتل الأوس بقاعًا أخصب وأغنى من الجهات التي نزلها الخزرج، ولذلك كان حتمًا أن يقع الخلاف بينهم ويحصل التنازع على نفس الغاية التي حدث عليها بين العرب واليهود من قبل.

ولما كان من مصلحة اليهود ألا تظل كلمة العرب واحدة، فيستمروا في الضغط عليهم حتى يجلوهم نهائيًّا عن منطقة يثرب، فإننا نرجح أنهم عملوا من جانبهم على الدس بينهم وتشجيع عوامل الفرقة وإذكاء روح التحاسد التي بدأت تظهر بين الأوس والخزرج حتى يشغلوهم بأنفسهم عنهم، وقد أدرك العرب منهم ذلك فلقبوهم الثعالب؛ لما عرفوا فيهم من مكر وحيلة وخديعة، وفضلوا جوار إخوانهم -على ما بينهم من تنازع- عن جوار هؤلاء الثعالب. ولدينا رواية ذكرها ابن إسحاق تؤيد ما نتجه إليه، قال: ومرشاس بن قيس، وكان شيخًا قد عشا عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم.

1 ابن هشام 1/ 183.

ص: 278

وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية: فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد: لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار. فأمر فتًى شابًّا من يهود كان معه، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار،

ففعل فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين..1، وهذه الرواية وإن ذكرها ابن إسحاق في حوادث ما بعد الهجرة، إلا أنها تعطينا فكرة عن الروح العامة لدى اليهود، وأنهم كانوا يرون في اجتماع كلمة الأوس والخزرج أمرًا مهددًا لكيانهم في المدينة فعملوا على تحطيم الاتحاد بين القبيلتين العربيتين، ونستطيع أن نقول: إن هذا الاتجاه هو الذي اتجه إليه اليهود بعد تغلب الأوس والخزرج عليهم في يثرب، وإن كانت الظروف قد اضطرتهم إلى أن تدخل بطونهم في أحلاف مع الأوس والخزرج كل بسبب ظروفه التي وجد فيها.

وقد بدأ التنازع بين الأوس والخزرج -بحسب الروايات التي سقناها- تنافسًا قبليًّا على الرياسة وعلى احتلال مركز الصدارة في يثرب، ولما كان تفوق العرب وانتصارهم على اليهود قد جاء على يد رجل من الخزرج أصبح له الذكر والشرف عليهم2، كان طبيعيًّا أن يعمل الخزرج على الاحتفاظ بمركز الصدارة في المدينة، لكن حدث أن الأوس تملكوا أفضل البقاع الزراعية، وأصبح الوضع الاقتصادي في مصلحتهم لذلك لم يقبلوا أن تكون للخزرج هذه المنزلة عليهم، وساءهم أن يؤكد أحد الوافدين من رجال القبائل البدوية حول يثرب هذه المنزلة لزعيم الخزرج مالك بن العجلان، وأن يفاخر بذلك حليف لمالك على محفل من أهل المدينة، فترصده رجل من الأوس وقتله. وطالب مالك به، فعرضت عليه الدية بحسب الأصول القبلية المعروفة -وهي دية الحليف نصف دية الصريح- لكن مالكًا رأى أن يؤكد سيادته فأصر على ألا يقبل في حليفه إلا دية الصريح، ورفضت الأوس ذلك بطبيعة الحال، فاقتتل الفريقان، ثم تحاكموا فقضي لمالك بدية الصريح إرضاء له على أن يعود الأمر بعد ذلك إلى السنن المعروفة. لكن هذا الحل كان أمرًا موقوتًا، إذ إن دواعي الخلاف

1 ابن هشام 2/ 183- 184.

2 الأغاني: 3/ 40.

ص: 279

الحقيقة بقيت خفية في النفوس لم يجرؤ أحد على إظهارها، وزاد الأمر تعقيدًا وقوع الدماء بين الطرفين، فشبت البغضاء في نفوسهم وتمكنت العداوة بينهم، فتتالت الوقائع بين الفريقين في مظهر من مظاهر التنافس القبلي، كان النصر في أكثرها للخزرج على الأوس، حتى أحست الأوس بالضعف وبعدم قدرتها على الصمود بنفسها أمام الخزرج الذين بدا واضحًا أن نياتهم تتجه إلى الحصول على ما في أيديهم من الأرض الخصبة. ولما كانت الأوس تجاور قبيلتين قويتين من قبائل اليهود وهما قريظة والنضير اللتان استطاعتا الاحتفاظ بما في أيديهما من أفضل الأراضي الخصيبة وكانتا من القوة بحيث لم تدخلا في حلف مع إحدى القبيلتين العربيتين؛ فإنها فكرت في إقناع هؤلاء اليهود بالدخول معها في حلف للوقوف في وجه أطماع الخزرج التي تهدد الطرفين على السواء.

وحين أحست الخزرج بهذا الاتجاه الأوسي، أنذرت اليهود بالحرب إن هم انحازوا إلى جانب الأوس، ويبدو أن الخزرج كانت قد وصلت إلى درجة من القوة حتى أخافت اليهود، فخضعوا لهذا التهديد وقدموا رهنًا من أبنائهم ضمانًا لوفائهم بالتزام جانب الحياد، وحتى إن بطونًا من الأوس نفسها حالفت الخزرج ضمانًا لمصالحها.

وبذلت البطون الأوسية الغنية محاولات للصمود في وجه الخزرج لكنها باءت بالهزيمة، وحين عجزت عن الصمود وأيست من نصرة اليهود واتجهت إلى عنصر خارجي، فأرسلت وفدًا إلى مكة لاستعداء قريش على الخزرج1. لكن قريشًا كانت دائمًا تبتعد عن كل ما من شأنه أن يورطها أو يجرها إلى حروب قد تضر بمصالحها التجارية، فرفضت هذا الحلف الذي يشتم منه رائحة الدماء. واضطرت الأوس أمام هذا الفشل إلى الخضوع، كما اضطرت بعض بطونها إلى الخروج عن مساكنها أمام ضغط الخزرج.

غير أن الوضع ما لبث أن تغير فقد أسفر الخزرج عن نياتهم في الحصول على ما في أيدي قريظة والنضير من الأراضي والدور، وفعلًا أذنوهم بالحرب أو أن يسلموا

1 ابن هشام 2/ 36-37، أسد الغابة 1/ 124، 158.

ص: 280

ما بأيديهم. ولم يكن هذا العمل من زعماء الخزرج -في هذا الوقت- ينطوي على شيء من الحكمة فإن هذا الموقف وحد بين الأوس واليهود من قريظة والنضير، إذ وجد هؤلاء أن عليهم إن أرادوا البقاء في يثرب أن يخوضوا ضد الخزرج معركة فاصلة، ولم يكن الخزرج بأقل منهم رغبة في خوض هذه المعركة لتأكيد سيادتهم ولتغيير لوضع الاقتصادي تغييرًا نهائيًّا، ولما كانت المعركة معركة حياة أو موت فقد حشد لها الطرفان كل إمكانياتهما واستجلبا حلفاءهما من قبائل البادية. ولما كانت المعركة بالنسبة للأوس وحلفائهم هي معركة الحياة فقد استماتوا في القتال وألحقوا بخصومهم هزيمة كبيرة، ولم ينقذ الخزرج من الكارثة إلا خشية الأوس من أن يستعيد اليهود مركزهم السابق في يثرب، فيضطر الأوس لمواجهتهم على انفراد لو قضي على قوة الخزرج، وفعلًا بدت نيات اليهود واضحة في تحطيم الخزرج وإذلالهم؛ ولذلك فضلت الأوس الاكتفاء بالقضاء على روح التسلط في الخزرج دون القضاء عليهم، ورأت أن جوارهم خير من جوار الثعالب.

وقد استغل أحد زعماء الخزرج -وهو عبد الله بن أبي- موقفه الحيادي الشخصي ولصالح قبيلته، فاستطاع أن يحمي أمواله من الاعتداء عليها، وأن يكسب لنفسه مركزًا أدبيًّا في هذا الجو المضطرب بين طوائف المدينة المختلفة، فاتجهت إليه أنظار الطرفين على السواء كرجل يمكن أن يكون واسطة التجميع وحل النزاع. كما أنه استطاع أن يضم إلى جانب قبيلته إحدى قبيلتي اليهود القويتين وهم بنو النضير، وبذلك حدث توازن بين المعسكرين المتخاصمين.

من كل ذلك نرى أن العامل الاقتصادي كان هو العامل المتحكم في العلاقات العامة بين السكان في يثرب. وحتى بين بطون القبيلة الواحدة أو بين عشائر البطن الواحدلم تستطع لحمة الدم أن تتغلب على الدوافع الاقتصادية التي كثيرًا ما كانت تثير النزاع بينها، وإذا كانت بطون الأوس أو بطون الخزرج كانت تتجمع تحت راية قبيلته في النزاع العام بحكم رابطة الدم، فإن كثيرًا ما كانت بطون من الطرفين ترى أن مصلحتها الاقتصادية تقتضيها التزام جانب الحياد، كما أنها كثيرًا ما كانت تتنازع فيما بينها فيحاول بعضها أن يستولي على ما في يد الآخر من الأراضي والدور، كما حدث مثلًا بين بني حارثة وبني عبد الأشهل وهما بطنان من فرع واحد من الأوس وهو

ص: 281

النبيت، كانا متجاورين في منازلهما، تقاتلا فأجلى بنو حارثة بني عبد الأشهل حتى ألحقوهم بأرض بني سليم، ثم عاد هؤلاء بحلفائهم من سليم فهزموا بني حارثة وأجلوهم إلى خيبر فأقاموا بها قريبًا من سنة حتى تم الصلح بينهما1. وكما حدث بين بني بياضة وبني زريق وهما بطنان من فرع واحد من الخزرج إذ اقتتلوا وأجلى الأولون الآخرين عن منازلهم 2.

وهكذا أصبحت مدينة يثرب تغلي بالخلافات وتضارب المصالح والأهواء. لكن يوم بعاث أصاب الفريقين بأضرار كبيرة؛ فقد قتل عدد كبير من سروات القوم جميعًا ورؤسائهم، وأصيبت الممتلكات بأضرار فادحة نتيجة التقطيع والتحريق. الأمر الذي جعل الناس يفكرون في ضرورة وضع حد لهذه المنازعات.. فبدأت الأفكار تتجه إلى إيجاد جو من السلام ينصرف الناس فيه لأعمالهم ويتذوقون لذة الراحة وهناء العيش، وبخاصة البطون الصغيرة التي لم تكن لها مصالح في النزاع وكان همها أن تعيش في سلام؛ لذلك سعى كثير من الزعماء وذوي النفوذ من الطرفين لكف كل من تحدثه نفسه بمحاولة إثارة الفتنة وإيقاد نار العداوة.

وعلى العموم فإن بعاث قد أضعف بطون يثرب كلها وأوجد فيها ميلًا إلى الاتحاد، حتى إنه ليقال إنها أرادت أن تملك عليها ملكًا من الخزرج، كما يحدثنا ابن إسحاق: وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وسيد أهلها عبد الله بن أبي بن سلول العوفي لا يختلف عليه في شرقه من قومه اثنان، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم، فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وهم على ذلك. فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكًا، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارهًا مصرًّا على نفاق وضغن3.

فكأن قلوب أهل يثرب على اختلاف قبائلها وكثرة نزعاتها سئمت حالة الجفاء والعداوة، وأحست بالحاجة إلى من يخرجهم منها ويوجه نشاطهم إلى ما هو أجدى عليهم وأكثر نفعًا.

1 السمهودي 1/ 136.

2 نفسه 1/ 146.

3 ابن هشام 1/ 216.

ص: 282