الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَاّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة]1.
وبعد الهجرة كانت قبائل اليهود وبطونهم في حالة واضحة من التفكك، وكان إحساسهم بالترابط منعدمًا؛ فلم يبد أي بطن من بطونهم أي إحساس بالعطف نحو الآخرين حين وقعوا في خلاف مع النبي صلى الله عليه وسلم.
كل ذلك يقطع بأن العلاقات بين اليهود في يثرب لم تكن حسنة في عصر الهجرة النبوية، وقد سيطرت عليهم المنفعة الشخصية وأهدروا في سبيلها كل مصلحة مشتركة.
1 تفسير الطبري 2/ 305.
2-
العلاقات بين العرب واليهود
بدأت العلاقات بين الأوس والخزرج حين قدموا يثرب وبين اليهود، علاقات سلم وجوار، فقد قدم هؤلاء العرب على قوم مستقرين في ديارهم، وبيدهم الأموال والآطام والعدد والقوة، فكان طبيعيًّا أن يقنعوا منهم بالسماح لهم بمجاورتهم والإقامة معهم، ولعلهم لم يكونوا من كثرة العدد والقوة بحيث يخشى اليهود عاديتهم. ومن الجائز أنهم فكروا في الاستفادة من خبرتهم السابقة في الزراعة في مواطنهم باليمن، فاتخذوا منهم عمالًا ومساعدين لهم في دوائرهم الزراعية أو في أعمالهم التجارية. وقنع الأوس والخزرج بهذا من اليهود فنزلوا بينهم وحواليهم؛ ولما كانت الثروة والسلطان في أيدي اليهود ومواليهم من البطون العربية، فقد عاش الأوس والخزرج في جهد وضيق في المعاش؛ إذ لم يكن لهم نعم ولا شاء؛ لأن المدينة ليست بلاد مرعى، فعمل بعضهم مأجورًا في مزارع اليهود، ومن عمل لحسابه لم يكن له إلا الأعذاق اليسيرة والمزرعة يستخرجها من أرض موت1.
وأقام اليهود والعرب على ذلك مدة طويلة يسودهم الوئام والوفاق، ويتحدث السمهودي عن دور الوفاق بين الطرفين، فيقول: وأقامت الأوس والخزرج بالمدينة، ووجدوا الأموال والآطام والنخيل في أيدي اليهود، ووجدوا العدد والقوة معهم،
1 الأغاني 19/ 69 "طبعة مصر" ابن خلدون 2/ 287، السمهودي 1/ 125.
فمكث الأوس والخزرج ما شاء الله: ثم إنهم سألوهم أن يعقدوا بينهم جوارًا وحلفًا يأمن به بعضهم من بعض ويمتنعون به ممن سواهم فتعاقدوا وتحالفوا، واشتركوا وتعاملوا؛ فلم يزالوا على ذلك زمانًا طويلًا، وأمرت الأوس والخزرج وصار لهم مال وعدد؛ فلما رأت قريظة والنضير حالهم خافوهم أن يغلبوهم على دورهم وأموالهم، فتنمروا لهم حتى قطعوا الحلف الذي بينهم. وكانت قريظة والنضير أعد وأكثر، وكان يقال لهما الكاهنان وبنو الصريح، فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم خائفين أن تجليهم يهود، حتى نجم منهم مالك بن العجلان من بني سالم بن عوف بن الخزرج وسوده الحيان والأوس والخزرج1.
ويؤخذ من هذه الرواية أن الأوس والخزرج قنعوا بوضعهم في أول الأمر؛ لأنهم إنما كان همهم أن يستقروا ويجدوا لهم معاشًا. ثم أخذوا بعد ذلك يعملون على تثبيت مركزهم؛ فسعوا إلى عقد الحلف بينهم وبين اليهود ليأمنوا على أنفسهم، وليستطيعوا توسعة دائرة أعمالهم، وقد أتاح لهم الحلف أن يشاركوا اليهود ويتعاملوا معهم، فازدادت ثروتهم وكثر عددهم وأخذوا في تنظيم أنفسهم. وتنبهت اليهود إلى ما طرأ على حلفائهم هؤلاء وأحسوا بخطورتهم وأدركوا أن الحلف إنما يسير إلى مصلحة جيرانهم، فخافوا أن يتطور الأمر إلى أن يغلبوهم على دورهم، فغيروا مسلكهم نحوهم وأساءوا معاملتهم وانتهوا إلى قطع الحلف معهم، عند ذلك ظهرت الفتن والعدوات بين الطرفين، ولما كانت اليهود أعد وأكثر فإن الأوس والخزرج أقاموا في منازلهم خائفين أن تجليهم يهود، ولم يكن أمامهم إلا أن يبحثوا لهم عن حليف ينصرهم إن ثارت الثائرة بينهم وبين اليهود. وكان طبيعيًّا أن يتجه تفكيرهم أول ما يتجه إلى قوم تربطهم بهم رابطة قرابة ونسب، ويكونوا لهم من القوة ما يمكنهم من الانتصار بهم على خصومهم، فاتجهوا إلى الغساسنة الذين كانوا مثلهم فرع من الأزد؛ فهم أبناء عمومة فضلًَا عن رابطة الخئولة، فقد كانت أم الأوس والخزرج قيلة من غسان كما يقرر النسابون، وكان الغساسنة قد علا أمرهم بالشام وكوّنوا لهم مملكة بها. ويتحدث المؤرخون عن اتصال مالك بن العجلان الخزرجي بالغساسنة، فيقولون: إن مالك بن العجلان رحل إلى أبي جبيلة الغساني، وهو يومئذ ملك غسان، فسأله عن قومه وعن منزلتهم فأخبره بحالهم وضيق معاشهم، فقال له أبو جبيلة: والله ما نزل قوم منا بلدًا
1 السمهودي 1/ 125- 126.
إلا غلبوا أهله عليه، فما بالكم؟! ثم أمره بالمضي إلى قومه، وقال له: أعلمهم أني سائر إليهم، فرجع مالك بن العجلان فأخبرهم بأمر أبي جبيلة. ثم جيش أبو جبيلة جيشًا عظيمًا وأقبل كأنه يريد اليمن حتى قدم المدينة فنزل بذي حرض، وأرسل إلى أهل المدينة من الأوس والخزرج فأتوا إليه فوصلهم وأعطاهم. ثم أرسل إلى بني إسرائيل؛ يعني اليهود وقال: من أراد الحباء من الملك فليخرج إليه؛ وإنما فعل ذلك خيفة أن يتحصنوا في الحصون فلا يقدر عليهم، فخرج إليه أشراف بني إسرائيل بخواصهم وحشمهم، فأمر لهم بطعام، حتى اجتمعوا فقتلهم من عند آخرهم، وقال للأوس والخزرج: إن لم تغلبوا على البلاد بعد قتل هؤلاء فلأحرقنكم. ثم رجع إلى الشام فلما فعل ذلك صار الأوس والخزرج أعز أهل المدينة فتفرقوا في عالية يثرب وسافلتها يتبوءون منها حيث شاءوا، واتخذوا الديار والأموال والآطام1.
ثم أخذت اليهود تعترض الأوس والخزرج وتناوشهم، فرأى مالك بن العجلان أن الغلبة لم تكمل لهم بعد على اليهود، فكادهم كيدًا شبيهًا بكيد أبي جبيلة، ونجح في القضاء على عدد منهم، فذلوا وقل امتناعهم وخافوا خوفًا شديدًا، واضطرت بطونهم الصغيرة إلى الدخول في حلف مع جيرانهم من الأوس والخزرج، ولم يبق إلا بنو النضير وقريظة ويبدو أنهم كانوا أصحاب قوة وأن حصونهم كانت منيعة فاعتمدوا عليها ولم يحالفوا أحدًا منهم2، وجعل اليهود كلما هاجمهم أحد من الأوس والخزرج بشيء يكرهونه لم يمش بعضهم إلى بعض كما كانوا يفعلون قبل ذلك، ولكن يذهب اليهودي إلى جيرانه الذين هو بين أظهرهم فيقول: إنما نحن جيرانكم ومواليكم، فكان كل قوم من اليهود قد لجئوا إلى بطن من الأوس والخزرج يتعززون بهم.
مما سبق يبدو أن العامل الاقتصادي كان هو المتحكم في العلاقات بين العرب واليهود. فالعرب قد قنعوا بوضعهم الاقتصادي السيئ أول الأمر مضطرين، ثم سعوا إلى تحسينه بالحلف مع اليهود ومشاركتهم، ثم لما اشتد أمرهم خشيهم اليهود على ما
1 الأغاني 19/ 56- 76 طبعة مصر، ابن خلدون 2/ 287- 289، ابن الأثير 1/ 402، السمهودي 1/ 127.
2 الأغاني 3/ 24.
في أيديهم فقطعوا الحلف معهم وأساءوا معاملتهم. والعرب بدأوا فعلًا يتطلعون إلى وضع اقتصادي أفضل عن طريق مشاركة اليهود في تملك الأراضي الخصبة أو مغالبتهم عليها، ولدينا رواية أوردتها المصادر يؤيدها هذا الاتجاه العربي. قالوا: إن عمرو بن النعمان البياضي قال لقومه بياضة: إن عامرًا قد أنزلكم منزل سوء بين سبخة ومفازة، وإنه والله لا يمس رأسي غسل حتى أنزلكم منازل بني قريظة والنضير على عذب الماء وكريم النخل1. وهذا القول وإن كانت المصادر قد أوردته في ذكر حرب بعاث بين الأوس والخزرج ومن حالف الطرفين من اليهود، إلا أنه يعطينا فكرة عن اتجاه العلاقات العامة بين السكان في يثرب، وأنه كان يحكمها ويوجهها العامل الاقتصادي.
ويحاول بعض المؤرخين أن يربط الحوادث التي وقعت بين العرب واليهود بالسياسة الدولية في ذلك الوقت وبالنضال الديني بين المسيحية واليهودية، ويقولون: إن النكبة الشديدة التي نزلت باليهود في بلاد حمير قد أنتجت نتائج سيئة لم يكن في الإمكان أن تحدث لولا هذه النوائب. وأهم هذه النتائج تحمس العناصر النصرانية التي كانت تعتمد على مؤازرة الدولة الرومانية ضد الديانة اليهودية، وتحركها لهدم كيانها والقضاء على أصولها ومبادئها في جميع أنحاء الجزيرة العربية، وتهييج طمع القبائل العربية في أموال اليهود ومستعمراتهم، ورغبتهم في الحصول عليها والاستئثار بها2.
ويقر المؤرخ Gratez أن البطون الأوسية والخزرجية لم تصارح اليهود بالعداوة والمعصية إلا بعد النكبة التي حلت باليهود في اليمن، إذ لا يتصور أن يضطهد اليهود في الحجاز في العصر الذي كان فيه ملوك متهودون يسيطرون على اليمن ويتعصبون ليدنهم ويناهضون كل من يناهضهم أو يعتدي عليهم3.
يسوق ولفنسون أقوال المؤرخين المحدثين هؤلاء ويعززها بما ذكره بعض مؤرخي العرب من أن الحجاز الشمالية كانت في شبه تبعية لليمن في عصر وجود حمير المتهودة
1 الأغاني 15/ 155- 159 "طبعة مصر" السمهودي 1/ 153 ابن الأثير 1/ 417.
2 ولفنسون 59.
3 عن ولفنسون 61.
وأن واحدًا من الأسرة المالكية في اليمن كان يشرف على شئون الطوائف المختلفة في شمال الحجاز1. ويقول: وقد بقيت البطون العربية عصورًا طويلة على موالاة ومناصرة لليهود دون أن يظهر عليهم شيء يدل على أنهم يتربصون لهم الغوائل، إلى أن أخذت دولة غسان تنصب لليهود المكائد وتحرض عليهم زعماء الأوس والخزرج ليفتكوا بهم. والظاهر أن دولة غسان لم تفعل هذا إلا بإيعاز من الدولة الرومانية الشرقية التي أرسلت أسطولها لمساعدة الحبشة في كفاحها ضد اليهود في اليمن، والتي كانت سياستها واضحة كل الوضوح في الجزيرة العربية أثناء القرن الخامس والسادس الميلاديين2.
ولنا على هذه الأقوال اعتراضات:
أولًا: ليس من اليسير تحديد الزمن الذي وقع فيه حادث استنجاد مالك بن العجلان بأبي جبيلة، وهل كان بعد انتصار الأحباش على الحميريين أم قبله؟ والذي نستطيع استنتاجه من أقوال المصادر أن هذا الحادث وقع قبل الغزو الحبشي لليمن وانتصارها على الحميريين سنة 525 م، ويحدد سديو سيادة الأوس والخزرج على يثرب بسنة 492م 3 وتسنده في ذلك المصادر العربية التي تقول: إن الحرب بين الأوس والخزرج استمرت مائة وعشرين سنة إلى الإسلام 4. ولما كانت الحرب بين القبيلتين العربيتين في يثرب لم تقع إلا بعد تغلبهم على اليهود كان الزمن الذي حدده سديو مقبولًا، وكان صراع العرب مع اليهود واستنجاد أولئك بأبي جبيلة قبل هزيمة الحميريين5.
1 ابن الأثير 3041 "كان سفهاء بكر قد غلبوا على عقلائهم وغلبوهم على الأمر، وأكل القوي الضعيف فنظر العقلاء في أمرهم ورأوا أن يملكوا عليهم ملكًا يأخذ للضعيف من القوي فنهاهم العرب، وعلموا أن هذا لا يستقيم بأن يكون الملك منهم؛ لأنه يطيعه قوم ويخالفه آخرون، فساروا إلى بعض تبابعة اليمن، وكانوا للعرب بمنزلة الخلفاء للمسلمين، وطلبوا منه أن يملك عليهم ملكًا".
2 ولفنسون 61.
3 سديو 51.
4 السمهودي1/ 152.
5 تذكر المصادر أن أول حرب وقعت بين الأوس والخزر كانت في عهد أحيحة بن الجلاح، وكان هذا زوجًا لسلمى بنت عمرو النجارية التي تزوجها هاشم بن عبد مناف بعد طلاقها من أحيحة، فكأن هذه الحرب كانت في عهد هاشم وبينه وبين الهجرة حوالي مائة وعشرين سنة ". انظر فصل الزعامة في مكة. وانظر أيضًا ابن الأثير 1/ 403، ابن هشام 1/ 148".
ثانيًا: أن أبا جبيلة لم يكن ملكًا من ملوك غسان بل كان عظيمًا عند ملك غسان. وينسبه النسابون إلى أحد بطون الخزرج الذين رحلوا إلى الشام وأقاموا مع الغساسنة1. ويورد السمهودي رواية هامة، وهي أن مالك بن العجلان بعث جماعة من قومه إلى من وقع بالشام من قومهم يخبرونهم بحالهم ويشكون إليهم غلبة اليهود2، وتدل هذه الرواية على أن استنصار الأوس والخزرج إنما كان بقوم يمتون إليهم بصلة القرابة على ما جرت عليه العصبية القبلية، على أن الأمر من ناحية عرب الشام كان استجابة لاستصراخ الأوس والخزرج لهم كما يذكر المؤرخون ولم يكن تحريضًا من الغساسنة لهم على اليهود. ولو كان الأمر هجومًا من الغساسنة على اليهود بدافع التعصب الديني؛ لكان أولى بهم أن يهاجموا الجماعات اليهودية في خيبر ووادي القرى، وهي منهم أقرب، ويؤيد هذا الرأي ولفنسون نفسه فهو يقول: والذي يمعن النظر في تاريخ بطون يثرب يرى أن الطوائف الضعيفة في المدينة كانت تعمل سرًّا على إيجاد محالفات مع قبائل عربية قريبة وبعيدة، فمن المحتمل أن تكون الأوس والخزرج قد حالفت بطون بني غسان لمحاربة اليهود في عصر أبي جبيلة 3.
ثالثًا: أن الديانة المسيحية لم تكن عميقة التغلغل في نفوس القبائل العربية التي اعتنقتها بحيث تتعصب لها تعصبًا شديدًا، بدليل أنها لم تلبث أن دخلت الإسلام بعد اتصالها بجيوش الخلفاء الراشدين بلا كبير مقاومة. هذا إلى أن الصراع الذي كان قائمًا بين الدول في ذلك الوقت لم يكن صراعًا دينيًّا؛ وإنما كان صراعًا سياسيًّا اقتصاديًّا وإن استخدم الدين كوسيلة من وسائله، فلم تكن الدولة الرومانية الشرقية تعمل لقهر اليهودية كدين، ولا كان الفرس يشجعونها لغرض ديني. وإنما كان الغرض سياسيًّا عند كلتا الدولتين. على أن علاقة اليهود لم تكن سيئة ببلاد الشام، بل إنها على الأرجح كانت حسنة، فكان بعض اليهود يرسل قوافله التجارية إلى بلاد الغساسنة4، وبدليل أن اليهود حين أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن يثرب هاجروا إلى بلاد الشام، ولو كانت العلاقات بينهم وبين الغساسنة أو الروم سيئة لاتجهوا إلى مكان آخر كالعراق الذي كانت
1 جمهرة 336- ابن خلدون، 20/ 289، ابن الأثير 1/ 402، السمهودي1/ 126.
2 السمهودي: نفسه 5.
3 ولفنسون 103.
4 تاريخ الخيس 2/ 12.