الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كثيرة، فبعد أن كان الأنصار يريدون أن يولوا واحدًا منهم، اقترحوا أن يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير، ولو تم هذا الاقتراح لكان من الواجب أن يتولى الخلافة اثنان، إلا أن الثلاثة رفضوا هذا الرأي في كياسة ذاكرين للأنصار فضلهم، واقترحوا رأيًا جديدًا وسارعوا بأخذ الأصوات عليه -وهذا التعبير حديث بل الأصح أن نقول: سارعوا إلى أخذ البيعة عليه- وسارع الناس إلى مد أيديهم وإلى مبايعة أبي بكر، وكان هذا الحل كما أرجف بعض الناس حلًّا جاء عفوًا دون تدبير وأنه جاء فلتة، وكان من الممكن أن يفضي إلى فتنة إلا أن الله وقى شرها، ومهما تختلف المذاهب الإسلامية في أمر هذه البيعة وفي الحكم على الثلاثة الذين تداركوا الموقف، وفي الأنصار الذين أرادوا أن يستبدوا بالأمر؛ فإن السقيفة قررت أمر الخلافة تقريرًا نهائيًّا وأصبحت سابقة قابلة للتطبيق، وحرص الناس على أتباعها ولو من الوجهة الشكلية إلى أن زالت الخلافة.
وهذا الحل الذي سارع الناس إلى الرضاء به يدل على أنهم كانوا يسلمون ضمنًا بأن النظام الجديد واجب البقاء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وإن مات فإنه خلف فيهم دينًا وكتابًا يسيرون على هديه، وأن من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، فرضاء الناس يومئذ يعبر عن إرادة الاستمرار في ظل النظام الذي أنشأه النبي صلى الله عليه وسلم.
الردة:
ولم يكد المسلمون ينتهون من هذه الأزمة حتى واجهوا أزمة أخرى أشد؛ فالأولى لم تكن تتطلب إلا شيئًا من الكياسة وحسن الرأي والوقوف على الحل الصحيح، أما الثانية وهي الردة فإنها كانت تتطلب إعداد الجيوش وتعبئة قوة المدينة الحربية والمعنوية، وفي أثناء هذه الأزمة ظهرت بطولة أبي بكر حتى كان ابنه محمد يقول مفاخرًا فيما بعد بأنه ابن فاقئ الردة وحتى قال بعض الناس: إنه لم ير أحدًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أملأ بالحرب من أبي بكر، والسبب المباشر في هذه الأزمة هو موت النبي صلى الله عليه وسلم فقد سبق إلى ظن الناس أنه لن يقوم مقامه أحد، وأن الفراغ الذي تركه أكبر من أن يسد، وأن النظام الجديد لا يمكن أن يدوم بعده، وأن الخطوة الجبارة التي خطاها الرسول صلى الله عليه وسلم بالعرب خطوةٌ كانت تحتاج إلى دوام صاحبها، ولهذا سارع العرب برغم إعجابها بالروح القومي الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم وقلدت القبائل بعضها بعضًا، وانتشر الارتداد في كل مكان حتى لم تبق قبيلة إلا وفيها جماعة كبيرة مرتدة، وغالت بعض القبائل فأرادت أن يكون لها ما لقريش بمعنى أن يكون منها نبي كما كان من قريش نبي، وأن تجتمع إلى زعامتها كما اجتمعت إلى قريش، ولم يثبت على النظام الجديد إلا مثلث: المدينة
ومكة والطائف، غير أن المرتدين بطبيعة حركتهم ولحسن حظ يثرب لم يكونوا ليتضامنوا فيما بينهم، فالأزمة في الواقع ترجع إلى النزوع إلى الاستقلال وإلى رفض التضامن، وكانت الهزيمة التي أصابت المرتدين آخر الأمر دليلًا على أن النظام الجديد قد أصبح قويًّا جارفًا، وعلى أن حركة الردة برغم عنفها وشمولها لم تستطع أن تنال من النظام الجديد شيئًا، ولولا أن المدينة كانت تمثل فكرة جديدة وتمثل ما انطوت عليه في الحقيقة نفوس العرب، ولولا أنها كانت تمثل القومية التي كانت حائرة غامضة في الجاهلية، ولولا أن جيش المدينة كان أقوى من كل قبيلة أو قبيلتين على حدة؛ لكانت تلك الأزمة نهاية للنظام اليثربي النبوي.
واستطاعت جيوش المدينة أن تظهر عزمها على تأييد النظام الجديد وأن ترد القبائل إلى الطاعة، بل إن جيوش المدينة قامت إلى جانب قمع المرتدين بعمل آخر إضافي في نفس الوقت، هو تطبيق قانون براءة تطبيقًا تامًّا، أو هو بحسب اللفظ الوارد في المصادر: استبراء رسمي من الدين الوثني، وكان الاستبراء هدفًا مهمًّا من الأهداف التي وضعتها جيوش الردة لنفسها، فالمدينة كانت تعلم أن جيوشًا لم تطأ من قبل من أقاليم الجزيرة إلا الحجاز، وأن نفوذها فيما وراء ذلك سطحي، وأن معظم القبائل لم تتصل بالمدينة،وإلا عن طريق المواثيق التي أبرمتها في عام الوفود وعن طريق عمال الصدقات الفقهاء الدعاة الجباة، فكانت الردة في الحقيقة فرصة لتطبيق الاستبراء تطبيقًا فعليًّا وإظهار قوة الجيش اليثربية، ولم تكن المدينة قد أوتيت تلك الفرصة من قبل، فقد كانت عاجزة عن مثل ذلك وإلا وقعت في حرج وظهرت بمظهر المعتدي وجرحت كبرياء القبائل.
ونحن إذا قرأنا الكتب التي كتبها أبو بكر وزود بها جيوش الردة، وجدنا فيها نية الاستبراء ظاهرة ووجدنا فيها لفظ الاستبراء الدال على أن أبا بكر كان يريد أن يطبق إعلان براءة فلا يصح أن نهمل الصلة بين لفظ الاستبراء الوارد في كتب أبي بكر وبين لفظ براءة الوارد في سورة براءة، ثم إننا نجد بعض زعماء الردة يحتجون على المدينة حين حاربتهم بأنهم لم يكونوا دخلوا الإسلام من قبل حتى يعدوا مرتدين ويطلبون لذلك أن يطبق عليهم قانون الاستبراء لا قانون الردة؛ فإذا نظرنا إلى الردة من هذه الناحية عرفنا أنها كانت أزمة ضارة نافعة، ثم إن مهمة المدينة أثناءها كانت يسيرة إلى حد ما؛ لتفرق الأعداء وعدم تضامنهم إطلاقًا، ولوجود جماعة في كل قبيلة موالية للمدينة، فهذه الأزمة لم تكن تحتاج في الواقع إلا إلى قدر من الإيمان وكان أبو بكر كفؤًا لها من هذه الناحية.
وقد استغرقت الردة وقمعها نحو عام، فلما استهل العام الثاني عشر للهجرة كانت الوحدة العربية قد عادت أقوى مما كانت، وكان المجال في بدء هذا العام فسيحًا أمام النظام الجديد، وكانت القلوب يقظى قد استهوتها المبادئ الجديدة بما فيها من قومية ودين، وتكاد القومية تكون دافعًا أقوى من الدين على تحريك الشعوب وإنهائها، فمن الشعوب من غيَّر دينه أكثر من مرة وظل مع ذلك محتفظًا بقوميته، وكان إحساس العرب بوحدتهم وقوميتهم على يد الحكومة اليثربية أمرًا لم يُتَحْ لهم من قبل، وبهذا تمت الفكرة التي بدأها النبي صلى الله عليه وسلم وحققها، فتأيدت وتدعمت على يدي أبي بكر، وتحقق للعرب إلى وحدة اللغة وتجانس النسب ووحدة الدم وحدة الدين ووحدة الدولة وكان ذلك حدثًا خطيرًا وخطوة جبارة تكاد تكون معجزة أقوى من المعجزة التي تلتها وهي معجزة الفتوح.