الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التنظيم الداخلي والعلاقة بين السكان
مدخل
…
الفصل الثاني: التنظيم الداخلي والعلاقة بين السكان
إذا كانت مدينة مكة قد تمتعت بالنظام المستقر وسادها جو من الهدوء والطمأنينة، نتيجة لوحدة السكان فيها، واجتماعهم على غاية واحدة هي رعاية الكعبة والقيام على تنظيم أمور التجارة الداخلية التي كانت أهم موارد الرزق في البلد الحرام؛ فإن مدينة يثرب لم تتوافر لها هذه الظروف التي ساعدت مكة على التنظيم والاستقرار، فإن سكان يثرب كانوا مختلفي الجنسية منهم العرب ومنهم اليهود، وكذلك لم تكن لهم غاية مشتركة يحرصون على الترابط بينهم من أجلها، فكانت حياتهم تقوم على تملك الأرض الزراعية واستثمارها. وفي مجتمع قبلي حيث لا توجد حكومة تقر القانون وتقهر الناس على التزامه، كانت القوة الذاتية سواء عن طريق الأفراد أو الجماعات هي الضمان الوحيد لحفظ الحقوق؛ ولذلك كان ما من شأنه أن يؤدي إلى الاستقرار، هو في ذاته عامل من عوامل التقلقل والنزاع.
فحياة الزراعة من طبيعتها أن تربط الناس بالأرض وتفرض عليها الاستقرار، ولكنها في مثل هذا المجتمع القبلي كانت مثارًا للنزاع الدائم، فقد كان كل فريق يسعى إلى أن تكون في يده أخصب البقاع وأغناها، وهذا مما يؤدي إلى التطلع إلى ما في يد الغير محاولة الحصول عليه، ولما لم يكن هناك قانون غير القوة ينظم العلاقة بين الناس، كان السعي عن طريقها هو السبيل المألوف لتوسيع الأملاك والحصول على أفضل البقاع الزراعية.
وإذا كانت القبائل التي تتالت في السيطرة على مكة قد استطاعت أن تجلي غيرها عنها وتنفرد بشئونها؛ فإن ذلك كان أمرًا ميسورًا إلى حد ما، لأنه لم تكن هناك أرض يرى الناس حياتهم ملتصقة بها، فالتاجر مع حبه للهدوء ورغبته في السلام وسعيه
إلى حسن العلاقة مع غيره ليقوم على تجارته في جو من الأمن والسلام، لا يرى ضرورة للاستماتة من أجل بقعة معينة لا يتوافر له فيها جو السلام، أما في بلد يعتمد سكانه على الزراعة فإن إجلاء الناس عن أرض يرون معاشهم متصلًا بها أمر بالغ الصعوبة تقوم من أجله الحروب وتسفك الدماء، ولا يقبله الناس إلا أمام قوة لا يرون سبيلًا إلى قهرها.
لذلك اختلفت الخصائص العامة في مكة عنها في المدينة، وحيث حظيت الأولى بنوع من التماسك والنظام، وانقسمت الثانية إلى معسكرين متعاديين دائمًا، يترقب كل فريق الفرصة لقهر الآخر والحصول على ما في يده أو على خير ما في يده، على أن كلًا من المعسكرين لم يسلم من النزاع الداخلي لنفس هذه الغاية، ولم يربط بين الوحدات في المعسكر الواحد إلا ما كان يربطها من تقاليد العصبية القبلية، والشعور بأن الفرد وحده عاجز عن حماية نفسه ضد الآخرين، وحتى رابطة الدم نفسها فشلت في أن تكون رابطًا يؤلف بين الناس. ومن هنا أصبح القتل وسفك الدم شيئًا مألوفًا، ولم يكن أحد يجرؤ على الخروج من حيه دون أن يعرض نفسه للخطر1، وساد المدينة جو من عدم الأمن جعل الحياة فيها أمرًا عسيرًا.
ومن أجل المحافظة على النفس والمال اتجه ميل السكان بصفة عامة إلى إقامة الحصون والآطام؛ للاحتماء بها عند الحاجة، حتى أصبحت المدينة ممتلئة بهذه الحصون إلى درجة لا تكاد توجد في مدينة أخرى؛ فقد ذكر بعض المؤرخين أنه كان لليهود وحدهم تسعة وخمسون أطمًا2 وأن العرب لم يكونوا أقل منهم رغبة في بناء الآطام حتى لقد ذكروا أنه كان لبطن واحد من بطونهم تسعة عشرة أطمًا3.
ومع ذلك فقد ظلت الحياة القبلية تفرض نفسها بصورة واضحة في يثرب، فلم تكن حياة البطون اليثربية تتميز بشيء عن حياة القبائل البدوية في الجزيرة العربية إلا
1 يروي صاحب الأغاني أن الأوس والخزرج حين اصطلحوا بعد حرب سمير اصطلحوا بعهد وميثاق ألا يقتل رجل في داره ومعقله- والمعاقل: النخل- فإذا خرج رجل من داره أو معقله فلا دية ولا عقل، الأغاني 3/ 42.
2 السمهودي 1/ 116.
3 نفسه 1/ 145.
بالاستقرار الذي فرضته عليه الحياة الزراعية وحتى اليهود الذين كانوا قد وصلوا في وطنهم الأصلي إلى درجة من المدنية وانمحى من بينهم نظام القبائل وانصهروا في أمة واحدة، لم يلبثوا في المدينة أن زالت منهم هذه الصفات وتغلبت عليهم العقلية البدوية، حتى صارت صاحبة السلطان على أفكارهم ونفسياتهم1، ومع ذلك فإن الروابط القبلية بما فيها من لحمة النسب والدم، فشلت في أن تقيم مجتمعًا أكبر من مجتمعات البطون، فانقسمت يثرب إلى عدة دوائر زراعية، وكل دائرة كانت تابعة لبطن من البطون. وكان كل بطن من البطون الكبيرة يضم طائفة من البطون الصغيرة تعد موالية، يشرف على مزارعها ومتاجرها ويرعى حقوقها، وإذا وقعت إغارة عدها واقعة على رعاياه فطلب بالثأر أو دفع الدية2. وكان البطن الصغير يلجأ إلى آطام البطن الكبير إذا هاجمهم عدو، وهو مضطر للدخول في الحرب إلى جانب البطن الكبير. ومع ذلك فقد حافظت البطون الصغيرة على شخصيتها ولم تسمح البطون الكبيرة أن تحد من حريتها، وكان من نتيجة ذلك أن تجنبت البطون الكبيرة كل ما من شأنه أن يهيج البطون الصغيرة3.
ومن ثم فقد أصبح هناك شبه توازن في نظام الحكم بين البطون الكبيرة يثرب، فكانت البطون تثور إذا ما هم بطن كبير بالاستئثار بالنفوذ4، ومع ذلك فقد كانت بطون القبيلة تترابط إذا هددها هجوم عام تجمعت له بطون قبيلة أخرى، لكن كان يحدث في كثير من الأحيان أن ترى بعض البطون مصلحتها في أن تهادن الفريق الآخر، فتخرج على الإجماع وتقف على الحياد5.
وقد حكم العلاقات بين السكان في يثرب عاملان: عامل الروابط القبلية، وعامل الحياة الاقتصادية، وقد امتزج العاملان معًا بحكم الضرورة، ولكن العامل الاقتصادي كان أقوى وأظهر في توجيه هذه العلاقات
1 ولفنسون ص12، 15.
2 السمهودي 1/ 152- 153، ابن الأثير 3/ 402- 418.
3 السمهودي 1/ 136، 137، 146- 147.
4 ولفنسون 118.
5 ابن الأثير 1/ 415، 417، 418، السمهودي 1/ 153- 154.