الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كانت صاحبة الكلمة العليا في مكة وكانت رأس المجتمع المكي. وإنه إن كان أبناء قريش على درجة واحدة من حيث الحقوق والواجبات القبلية العامة؛ إلا أن الاستقرار والثراء الذي أحرزته قريش البطاح، والقيام على شئون الحكم في مكة قد ميزها على غيرها من باقي البطون القرشية، فنالت منزلة اجتماعية أرفع.
وقد حظيت قريش بنوع من الاستقرار والأمن لم يتوفر لغيرها من القبائل الأخرى، فقد ضمن لها وجودها بجوار البيت الحرام حرمة عامة في نظر القبائل العربية؛ فسلمت من الغارات القبلية عليها، كما أنه لم تحدث بين بطون قريش اشتباكات تؤدي إلى وقوع الدماء بينها بل حرصت القبيلة دائمًا على حل منازعتها العشائرية سلميًّا، ولكي تقضي على المنافسات العشائرية توسعت في قاعدة الحكم، وارتضت نوعًا من الحكومة نستطيع أن نسميه حكومة النظراء، وهي حكومة الملأ المكون من زعماء العشائر، وعلى ذلك سلمت قريش من التفكك الداخلي؛ فلم يحدث أن خرج عليها أو من دائرتها بطن أو عشيرة من عشائرها إلى دائرة قبيلة أخرى، كما كان يحدث كثيرًا بين القبائل العربية؛ ولذلك أحس أهل مكة بمرارة شديدة حين خرج منها بعض أفرادها فهاجروا إلى أماكن أخرى بعد ظهور الإسلام، وحاولت القبيلة جاهدة منعهم أو ردهم، واتهم القرشيون النبي صلى الله عليه وسلم بأنه فرق بين الناس. وكانت وحدة القبيلة القرشية مظهرًا رائعًا في نظر القبائل العربية التي جعلت من قريش موضع إجلالها وقدوتها1. وأصبح كثير من رجالها في مكان الحكام بين المتنازعين من قبائل العرب.
1 الأغاني 2/ 313 العقد الفريد 3/ 320.
2-
طبقة الموالي:
كانت مكة لحرمتها ووحدة أهلها واستقرار أمورها ملجأ لكثيرين من العائدين المحتمين بحرمها، كما كان في حياتها التجارية مجال لطلاب الكسب، ممن وجدوا في أسواقها وقوافلها فرصة لاستثمار أموالهم في قوافل قريش والاتصال ببيوتها التجارية أو العمل في دوائر أعمالها1؛ ولذلك كثر الموالي في قريش عن طريق الجوار، أو من
1 "مثال ذلك، صهيب بن سنان المعروف بصهيب الرومي، الذي قدم مكة وحالف عبد الله بن جدعان أحد أثريائها الكبار، وعمل معه ونال من وراء ذلك ثروة اضطرته قريش إلى التخلي عنها حين أسلم وهاجر". أسد الغابة 2/ 31.
الحلفاء من كافة قبائل الجزيرة العربية ممن أقاموا في مكة إقامة دائمة وشاركوا في حياتها العامة مشاركة فعالة1. وقد أتاحت مكة لعدد منهم أن يقتني الثروات الكبيرة. وهيأت لهم الحياة الآمنة المطمئنة. وقد تمتع بعض الموالي بمركز كبير في المجتمع المكي، حتى أصبح مسموع الكلمة مطاعًا بين مواليه مثل الأخنس بن شريق الثقفي، الذي بلغ من أمره أن أثر على حلفائه بني زهرة، فأقنعهم بالرجوع وعدم المشاركة في موقعة بدر -مع إجماع القبيلة على الخروج- فرجعوا؛ فلم يشهدها زهري واحد، أطاعوه وكان فيهم مطاعًا2، كما كانت دار بديل بن ورقاء الخزاعي بمكة ملاذ الخزاعيين حين هاجمتهم بنو بكر وأعانها قريش3، وبديل نفسه كان أحد الثلاثة الذين خرجوا فاتصلوا بالنبي صلى الله عليه وسلم حين قدومه لفتح مكة وأعلنوا له تسليم البلد، وأخذوا منه لأهل مكة الأمان، وهم: أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء4.
وقد أفسحت قريش صدرها لهؤلاء الموالي وأحلتهم هذه المنزلة الرفيعة؛ تبعًا لسياسة قريش العامة التي قامت على تنشيط التجارة، وإشراك القبائل العربية فيها والحرص على حسن الصلة معها، ورغبة في أن تبرز حرمة البلد الحرام، وأنه ملجأ العرب ومهوى نفوسهم، وهذا إلى الرغبة في الانتفاع بجهود هؤلاء الموالي وخبراتهم.
فطبقة الموالي في مكة كانت أرفع شأنًا وأكثر فاعلية في المجتمع المكي من مثيلتها بين القبائل الأخرى، ولقد أخلص هؤلاء الموالي إخلاصًا شديدًا لقريش وقاتلوا في صفوفها، واعتمدت اعتمادًا كبيرًا عليهم في صراعها ضد يثرب بعد الهجرة النبوية، وإن نظرة إلى قائمة القتلى والأسرى من قريش في يوم بدر لتعطينا فكرة عن مقدار مشاركة هؤلاء الموالي لقريش في هذا الصراع، فإنهم قد تحملوا حوالي 40% من هذه الخسائر 5. ومن هذه القائمة -ومن قائمة المهاجرين- مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب نستطيع
1 ابن حزم، جوامع السيرة 114- 123.
2 ابن هشام 2/ 258.
3 ابن هشام 4/ 5، ابن حزم 323.
4 ابن هشام 4/ 18.
5 ابن هشام 2/ 350-367.