الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حملة أبرهة بظروف بعيدة عن عمل المكيين 1؛ فقد تفشَّى المرض في جيش أبرهة وهو على أبواب مكة بعد أن عجزت القبائل عن التصدي لهذا الجيش، كما عجزت مكة عن تهيئة قوة لحربه والوقوف في وجهه، وقد زاد هذا الحادث من مكانة مكة الأدبية، وأكد زعامتها السياسية والروحية.
وعلى الرغم من هذا العمل العدواني من جانب الحبشة؛ فإن العلاقات ظلت قائمة بين البلدين؛ لحاجة كل منهما إلى الآخر، ولأن الحبشةلم تفكر بعد ذلك في تكرار هذا العمل العدواني، وبخاصة بعد أن تغيرت الظروف بطردها من اليمن؛ ولأن قريشًا اطمأنت لمركزها بعد تراجع الأحباش عنها وبعد خروجهم من الجزيرة العربية كلها بعد هزيمتهم أمام الفرس. ولم يصبح أمام الحبشة إلا هذا الوسيط العربي الذي يقوم على التجارة، فإنه لم يكن من المستطاع أن تخلق تجارة مع الفرس أعدائها وأعداء حلفائها الروم.
وفي أيام البعثة النبوية كانت علاقة مكة مع الحبشة علاقة وطيدة، وكان تجار قريش على صلة دائمة وعلاقات طيبة مع هذه البلاد وعلى معرفة أحوالها؛ الأمر الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم يفكر أول ما يفكر في الحبشة حين اضطر إلى أن يشير على أصحابه بالهجرة، فهاجروا إليها ووجدوا فيها ملجأ وحماية، وفي حسن استقبال هؤلاء المهاجرين ورعايتهم، وفي إرسال قريش سفارة قابلت النجاشي وفاوضته في رد هؤلاء المهاجرين 2 ما يدل على أن العلاقة كانت وطيدة بين البلدين. وقد ظلت العلاقات الطيبة قائمة بينهما بعد ذلك مدة طويلة.
ولا بد أن صلة مكة التجارية بالجنوب قد ازدادت بعد قفل طريقها الشمالي إلى الشام بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يثرب ودخوله في صراع مع قريش، فإن بلدًا مثل مكة لا يقوى على عدم المتاجرة وإلا أكل رءوس أمواله وهدد بالخراب.
1 انظر سورة الفيل.
2 ابن هشام 1/ 243، 356-361. Oleary، P. 184.
علاقة مكة بالشمال:
علاقة مكة بالشمال قديمة ترجع إلى أيام النبطيين الذين كانوا يقومون على التجارة في شمال بلاد العرب. والذين امتد سلطانهم إلى شمال الحجاز، وقد عمل الحجازيون على تعظيم شأن الحجاز بين النبطيين فوضعوا في الكعبة تماثيل أربابًا كان يعبدها النبطيون، يعد الرواة منها: هبل. كما استقدموا إلى منطقتها آلهة أخرى منها
اللات ومناة والعزى1، ولا شك أن قصة عمرو بن لحي الذي اتفقت الروايات على أنه نقل الأصنام من بلاد النبط إلى الكعبة إنما هي وسيلة من وسائلهم لتعظيم شأن الكعبة عند أهل الشمال، وإيناسهم بها كلما رحلوا إلى الحجاز، وتقريب ما بينهم وبين شعائر البيت الحرام.
ولما قدم قصي إلى مكة وجمع قريشًا ونازع بها خزاعة للاستيلاء على مكة، استعان بقضاعة، وهي إحدى القبائل التي كانت تقيم في بادية الشام، وتخضع للغساسنة الذين كانوا تحت النفوذ البيزنطي.
وحين ورثت بيزنطة سلطان الرومان في المشرق ورث معه البيزنطيون رغبة الرومان في الاستيلاء على طريق التجارة عبر الحجاز، إذ إن الطريق عبر العراق كان في يد خصومهم الفرس. وفي الوقت الذي حصلت فيه مكة على عهود من الحميريين والأحباش على غشيان بلادهم للمتاجرة في أرض الدولة البيزنطية2، ولكن البيزنطيين عملوا -من ناحية أخرى- على أن يضعوا أيديهم على الرأس الجنوبي لهذا الطريق والاتصال مباشرة بمنابع التجارة الشرقية، ولما لم يكن في الإمكان تسيير
1 ابن الكلبي: الأصنام 28. الأزرقي: تاريخ مكة 1/ 68 وما بعدها. ابن هشام 1/ 62- 63 هامش الروض.
"كان الصنم مناة منصوبًا على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد بين المدينة ومكة، وكان معظمًا خاصة عند الأوس والخزرج وكذلك كانت تعظمه القبائل الأخرى وفي جملتها قريش وهذيل وخزاعة وأزد شنوءة وسدنته المشهورة عند العرب وهو "آليلات" Alclat الإله الرئيس عند العرب في أيام المؤرخ هيرودوت، ويدل على ذلك أن عبادته كانت منتشرة عند العرب الشماليين وهو اللات في نصوص الحجر وصلخد وتدمر أي: في النصوص النبطية التي عثر عليها في هذه الجهات، وقد تسمى به "وهت اللات" ابن الزباء ملكة تدمر "انظر النقش المنقول بين صفحتي 92، 93 من الجزء الخامس- جواد علي" وقد عد النبط اللات أمًّا للآلهة والعزى صنم أنثى كذلك وهو أحدث عهدًا في نظر ابن الكلبي من اللات ومناة. وقد وضعت بوادٍ من نخلة الشامية يقال له حرض، وكانت قريش تتعبد للعزى وتخصها بالإعظام، وكان أهل الحيرة يتعبدون لها، ويعنون بالعزة كوكب الصباح، أما هبل فقد ذكر الرواة أنه كان أول صنم جاء به عمرو بن لحي من مؤاب من أعمال البلقاء أو من هيت بالعراق وقد ورد اسم هبل في الكتابات النبطية التي عثر عليها في الحجر" انظر: جواد على 5/ 89- 104.
2-
الطبري 2/ 12.
جيوشهم إليه فقد اتخذوا الحبشة حليفة لهم لتقوم بهذا الدور، واصطنعوا الدين وسيلة لذلك. وحين استطاعت الحبشة الاستيلاء على اليمن، عمل الحليفان على الاتصال عبر هذا الطريق، وبذلا محاولات للسيطرة عليه وإزالة ذلك الوسيط التجاري وهو مكة، ولا شك أن حملة أبرهة كانت إحدى المحاولات العسكرية1. كما بذل الروم محاولة سياسية أخرى لتمليك سيد من العرب على مكة يدين بالولاء لدولة الروم، فارتضى قيصر لملك مكة رجلًا من ساداتها هو عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى القرشي، وكان عثمان ممن تمردوا على الوثنية من حكماء مكة وبحثوا عن ديانة أخرى أفضل منها، وقد قدم عثمان على قيصر فتنصر وحسنت منزلته عنده2 وملك قيصر عثمان على مكة ومنحه براءة بذلك وكتب له كتبًا يبلغها قومه، فعاد بها، وجمع قومه إليه يرغبهم في حسن الجزاء من قيصر، وينذرهم بسوء العاقبة في الشام إذا هم عصوه وأهون ما هناك أن يغلق قيصر أبواب الشام في وجوههم وهم قد نظموا قوافلهم على الذهاب إليها والمتاجرة فيها في صيف كل عام. قال: يا قوم إن قيصر قد علمتم مكانكم ببلاده وما تصيبون من التجارة في كنفه، وقد ملكني عليكم، وأنا ابن عمكم وأحدكم؛ وإنما آخذ منكم الجراب من القرظ والعكة من السمن والإهاب، فأجمع ذلك ثم أذهب إليه، وأنا أخاف إن أبيتم ذلك أن يمنع منكم الشام فلا تتجروا به وينقطع مرفقكم منه3 وقد يبدو الأمر غريبًا أن يملك قيصر رجلًا على مكة وليس للبيزنطيين نفوذ على هذه الجهات، فإن نفوذهم الفعلي لم يتجاوز في وقت من الأوقات أعالي الحجاز، ولكن ذلك لا يمنع من حصول عثمان أو غير عثمان على براءات وأوراق اعتراف من الروم بملك سيد على قبيلة أو أرض ليس للروم عليها سلطان، فقد كان حصول المشايخ والأمراء على أمثال هذه الأوراق وبراءات الاعتراف نوعًا من أنواع الإكرام والتقدير الأدبي يكسب حاملها قوة معنوية، ثم هي تجعله في جملة أصدقاء الروم وحلفائهم والحائزين لتقديرهم ومنحهم، وقد كان الروم يشجعون
1 جواد على 4/ 165.
2 الروض الأنف 1/ 149. ابن هشام 1/ 243. الأغاني 2/ 112. ابن كثير 2/ 243. المشرق "السنة الخامسة والثلاثون" 1937 ص 270.
جواد على 6/ 204. Lammens ، La Mecque p. 270 - 279. 366. 375
3 المحبر ص 171 Watt p. 15