الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أو الاعتقاد بهذا الاشتراك -وهما من حيث النتائج العملية شيء واحد- بمثابة الروح التي تجعل القبيلة كالجسد الحي1.
وقد وجد نظام حضري تام في أطراف الجزيرة العربية. فقد قامت ممالك اليمن في الجنوب، كما قامت مملكة الحيرة في الشمال الشرقي، ومملكة غسان في الشمال الغربي، لكن القبيلة كانت وحدة النظام السياسي والاجتماعي في هذه الممالك، فلم تنصهر الجماعة فيها في شعب واحد كالشعب المصري أو الشعب الروماني مثلًا، وإنما ظلت القبائل وحدات قائمة متمسكة بكيانها.
من كل ذلك نرى أن الفكرة القبلية هي جوهر الحياة السياسية والاجتماعية، ثم ضاعت منها القوة السياسية، وظلت وحدة المجتمع العربي في الإسلام.
والقبيلة العربية مجموعة من الناس، كانت تؤمن بوجود رابطة تجمعهم تقوم على أساسين: من وحدة الدم، ووحدة الجماعة. وفي ظل هذه الرابطة نشأ قانون عرفي ينظم العلاقة بين الفرد والجماعة على أساس من التضامن بينهما في الحقوق والواجبات، وهذا القانون العرفي كانت القبيلة تتمسك به أشد التمسك في نظامها السياسي والاجتماعي على السواء.
1 انظر: فلهوزن: تاريخ الدولة العربية "ترجمة أبو ريدة" ص 3-4.
النظام السياسي للقبيلة العربية
مدخل
…
النظام السياسي للقبيلة العربية:
كانت الروح الديمقراطية تسود المجتمع القبلي، فكان لكل قبيلة رئيس يقال له السيد أو شيخ القبيلة، وأحيانًا يطلقون عليه -تجوزًا- الأمير أو الملك. وهذا السيد تنتخبه القبيلة، ولكنه لم يكن انتخابًا بالمعنى المفهوم لدينا الآن؛ وإنما كان اختيارًا تلقائيًّا، فكل رجل في القبيلة فاق الآخرين في الفضائل التي منها الشجاعة والجود والغيرة وسعة الثروة وسداد الرأي وكمال التجربة مع كبر السن، يمكنه بهذه الصفات الممتازة الكفيلة بتحقيق مصالح القبيلة، أن يكون سيد قبيلته، وأن يكون الواجب أن
يكون شيخ القبيلة من صريح نسبها، لنفور طباع العرب من أن يحكم في القبيلة أحد من غيرها1، وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حين كانت تأتيه وفود القبائل، فكان يسود على كل قبيلة رجلًا منها ويجعله عليها لامتناع طباعهم أن يسودهم غيرهم2.
كما يجب أن يكون شيخ القبيلة من أقوى بطونها وأذكرها شرفًا وأكثرها عصبية، حتى يكون له من الانتصار بعصبيته والاعتزاز بهم ما يمكن له من الرياسة ومن إطاعة القبيلة له واحترامها لرأيه3. فإذا مات هذا السيد أو فقد بعض الصفات انتقلت السيادة إلى الآخر الذي تكتمل له، وهذا معنى القول بأن القبيلة تختار سيدها.
وكما يتجلى المظهر الديمقراطي في اختيار شيخ القبيلة وهو رأس حكومتها، كذلك يتجلى في رقابة الجماعة على هذا الرئيس، وهذه الرقابة تتمثل فيما يسمونه مشيخة القبيلة، أو مجلسها الذي يجمع رجالها بفضائلهم الذاتية.
ولقد كانت مشيخة القبيلة هي الركن السامي حقًّا في نظام القبيلة العربية. إذ إن سلطة رئيس القبيلة كانت محدودة بواسطة هذا المجلس الذي يمثل الرأي العام في القبيلة.
وكانت مشيخة القبيلة تتألف من أصحاب الرأي فيها، وهنا نجد الكفاية والفضائل الذاتية هي المرجع، فشاعر القبيلة من أفراد هذا المجلس، بل هو في مقدمة رجاله، إذ إنه الذي يتغنى بمناقب القبيلة، ويرثي موتاها، ويهجو أعداءها، ويدفع عنها بلسانه، وسلاحه هذا أمضى من سلاح السيف وأفتك في الخصم من السهام4؛ ولذلك كانت القبيلة تفرح إذا نبغ فيها شاعر وتعتز به وتحفظ شعره، وكانوا يجعلون موهبة الشعر من صفات الكمال، فالرجل إذا كان شاعرًا شجاعًا كاتبًا سابحًا راميًا دعي الكامل لوجود
1 ابن الأثير: أسد الغابة 1/ 136.
2 نفسه: 1/ 183- 184.
3 ابن خلدون: المقدمة 148- 150. انظر الضبي: المفضليات: القصيدة 104 حيث يقول معاوية بن مالك سيد بني كلاب:
إني امرؤ من عصبة مشهورة
…
حشد لهم مجد أشد تليد
ألفوا أباهم سيدًا وأعانهم
…
كرم وأعمام لهم وجدود
4 انظر: أسد الغابة 2/ 4-6.
هذه الخصال فيه1. وكذلك الخطيب، وهو لسان القبيلة في منافراتها ومناظراتها2. ثم حكامها الذين يفصلون في الأقضية بين الناس ويحكمون بينهم إذا تشاجروا في الفضل والنسب والمواريث والدماء، وكان لكل قبيلة حكم أو أكثر؛ لأنه لم يكن دين يرجع إلى شرائعه، فكانوا يحكمون أهل الشرف والصدق والأمانة والرياسة والسن والتجربة والمعرفة بالعرف، ثم كان من رجال المجلس الشجعان المشهورون بالفروسية. وبعض الأفراد من أصحاب المكانة كالكاهن والعراف والقصاص. هذا بالإضافة إلى شيوخ العشائر وكبار السن في القبيلة ممن اكتملت لهم تجارب الحياة. كل هؤلاء يمثلون مشيخة القبيلة، ومن اجتماعهم تكون السلطة التي يرجع إليها سيد القبيلة.
ولهذه الهيئة أندية3 ومجامع للمداولة في شئون الحرب والسلم والفصل في الخصومات ودفع الديات وكل ما يهم القبيلة. وفي ذلك يقول مهلهل في رثاء كليب:
نبئت أن النار بعدك أوقدت
…
واستب بعدك يا كليب المجلس
تكلموا في أمر كل عظيمة
…
لو كنت حاضر جمعهم لم ينبسوا
ولم يكن لمجلس القبيلة موعد معين يجتمع فيه، وإن كانت العادة أنهم يجتمعون مساء في المنازل التي يحل بها رئيس القبيلة للسمر، وكلما دعت الضرورة إلى الاجتماع. ولم يصلنا شيء يذكر -ويا للأسف- من المناقشات التي كانت تجري في هذه المجالس القبلية؛ لأنه لم يكن هناك مدونات تسجل فيها أحاديث القوم ومناقشاتهم؛ لأن طبيعة هذه المجالس لم تكن تحتمل هذا. وإن كانوا يتناقشون ويتحاورون في كل ما يهمهم، وكثيرًا ما كان يخطب الخطباء، أو ينشد الشعراء قصائدهم التي نظموها، وفي أثناء ذلك يدلي سادتهم بحكمهم وتجاربهم في الحياة، وهذا يجعلنا نتصور مقدار ما كان لهذه المجالس من وقار ومنزلة كبرى يقضي بها العرف. وإلى ذلك يشير زهير بن أبي سلمى إذ يقول في مدح هرم بن سنان4:
1 الأغاني 3/ 25.
2 اليعقوبي 1/ 214، 217.
3 النادي: المجلس الذي يجتمع فيه القوم ويقضون فيه أمورهم: ابن عبد ربه: العقد الفريد 5/ 210، وانظر سورة مريم 73. النمل 29- 32. العنكبوت 29.
4 ديوان زهير "طبع دار الكتب"113.
وفيهم مقامات حسان وجوههم
…
وأندية ينتابها القول والفعل
وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم
…
مجالس قد يشفى بأحلامها الجهل
وكانت قرارات هذه المجالس نافذة؛ فجميع أفراد القبيلة في الغالب يذعنون لها ولا يشذون عليها.
كما أن القيد الثاني الذي يحد من سلطة رئيس القبيلة هو أن الرياسة لم تكن وراثية، وإنه لمن النادر أن تجد في قبيلة بقاء السيادة في ثلاثة أفراد متعاقبين، ويفلسف ابن خلدون هذا الوضع فيقول: إن الرياسة تأتي من قوة العصبية وشرف النسب والخلال الكريمة. وهذه خلال تضعف من الابن إلى الحفيد، حتى إذا كان الرابع قصر عن طريقتهم جملة وأضاع الخلال الحافظة لبناء مجدهم واحتقرها، وتوهم أن ذلك البنيان لم يكن بمعاناة ولا تكلف، وإنما هو أمر موجب لهم منذ النشأة بمجرد انتسابهم، فيربأ بنفسه عن أهل عصبته ويرى الفضل له عليهم، وثوقًا بما ربى فيه، وجهلًا بما أوجب ذلك الاستتباع من الخلال التي منها التواضع لهم والأخذ بمجامع قلوبهم، فيحتقرهم بذلك؛ فينتقضون عليه ويحتقرونه ويديلون منه سواه من أهل ذلك المنبت ومن فروعه في غير ذلك العقب1. وإلى ذلك يشير عامر بن الطفيل أحد سادات العرب في الجاهلية2:-
وإني إن كنت ابن سيد عامر
…
وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة
…
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي
…
أذاها وأرمي من رماها بمنكبي
وشيخ القبيلة هو الذي يقودها في حروبها، ويقسم غنائمها، ويستقبل وفود القبائل الأخرى، ويعقد الصلح والمحالفات، ويقيم الضيافات؛ ولذلك كان لا بد من أن تتوافر فيه صفات الشجاعة والكرم والنجدة وحفظ الجوار وإغاثة المعوز والضعيف، ولابد من أن يتحمل أكبر قسط من جرائر القبيلة وما تدفعه من ديات، كما كان عليه أن يصلح ذات البين فيها ويلم شعثها ويعمل على حفظ وحدتها، مستعينًا في
1 ابن خلدون: المقدمة ص 153- 154.
2 المسعودي: مروج الذهب2/ 55 "طبع القاهرة 1918".
ذلك بشيوخها وأصحاب الشرف فيها، وجريًا على مبدأ ممارسة السلطان ممارسة جماعية، ودون أن تكون لديه هيئة إدارية أو تنفيذية أو قضائية. كما يجب أن يكون حليمًا متسامحًا. وهكذا نرى أن شيخ القبيلة ليس ملكًا متسلطًا عليها، بل هو أب أكبر لكل أفرادها. وإلى ذلك يشير معاوية بن مالك سيد بني كلاب 1:
نعطي العشيرة حقها وحقيقها
…
فيها، ونغفر ذنبها ونسود
وإذا تحملنا العشيرة ثقلها
…
قمنا به، وإذا تعود نعود
وإذا نوافق جرأة أو نجدة
…
كنا، سمي بها العدو نكيد
بل لا نقول إذا تبوأ جيرة
…
إن المحلة شعبها مكدود
وللزعماء في هذه المجالس القبلية أثر خطير في الحياة، فبحنكتهم السياسية وبحكمتهم وكفايتهم تقرر الأمور، ورب كلمة من زعيم أو هفوة منه تثير حربًا أو تسبب كارثة له ولقبيلته أو للحلف الذي يتزعمه؛ ذلك أن أعصاب رجال البادية مرهفة حساسة تثيرها الكلمة ولا سيما إذا كانت تتعلق بالشرف والجاه.
وشيخ القبيلة إذا كان ضعيفًا أثر ضعفه في قبيلته، وإذا كان قويًّا أثرت قوته في القبيلة، وقد تقوم الزعامة بما تعجز عنه الكثرة وبما ينوء به عدد القبيلة؛ ولهذا تكون مكانة القبيلة أو الحلف بمكانة الرئيس، ولهذا أيضًا نجد قبائل تظهر فجأة فتجتاح القبائل الأخرى وتتزعمها، ونجد قبيلة تتضاءل وتنهار فجأة فتتجزأ وتذوب أو تذبل؛ لأن زعيمها ضعيف الشخصية خائر القوى2.
ولشيخ القبيلة حقوق أدبية ومادية، فأما الأدبية فأهمها توقيره واحترام شخصه ورأيه3، كما أنه له الإمرة العامة على الجند. أما حقوقه المادية، فقد كان له في كل غنيمة تغنمها القبيلة المرباع وهو ربع الغنيمة، والصفايا وهو ما يصطفيه لنفسه من الغنيمة قبل القسمة، والنشيطة وهو ما أصيب من مال العدو قبل اللقاء، وكذلك
1 المفضليات: القصيدة 104 ص155.
2 جواد علي: 4/ 215- 216.
3 ابن خلدون: المقدمة ص 143.