الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالعرب قد برعوا في حرب العصابات بالمرانة الطويلة، ثم اقتبسوا ما لزمهم أن يقتبسوه من فنون الحرب عند الدول الكبرى على أيامهم، فلم يخسروا بذلك إحدى الطريقتين، بل جمعوا بينهما واستفادوا بما تفيده كل منهما في موضعها، فأضافوا سرعة العمل في طريقة العصابات إلى إحكام التنظيم في طريقه الجيوش، وكانوا يقاتلون بفنين متساندين يأخذون منهما ما يأخذون ويدعون ما يدعون. ومن المحقّق أن قبائل العرب التي أقامت في الحواضر كانت على مر الزمن تتلقى النصيب الأوفى من كلتا الطريقتين إما بالقدوة أو التلقين والتعليم المقصود.
الوضع الاقتصادي
يتميز المجتمع العربي إلى بدو وحضر. والبدو سكان البادية، وفي البادية يتميز نوعان من الأرض التي وإن كانت صحراوية رملية عديمة المطر في الصيف إلا أنها في الشتاء بعد فصل الأمطار القليلة كانت تغطى -وبخاصة في الوديان- بالأعشاب الخضراء التي تعتبر مجالًا طيبًا لرعي الماشية من الماعز والضأن وبخاصة الجمال التي كان البدو يعتمدون عليها في حياتهم؛ ينتقلون عليها ويشربون ألبانها ويتغذون بلحومها ويتنفعون بأوبارها وجلودها في نسج ملابسهم، وإقامة خيامهم. والأراضي الأكثر خصوبة والتي تتميز بوجود بعض الآبار والعيون بها حيث تنبت أشجار النخيل والشجيرات ذات الروائح العطرية، وكانت هذه الأراضي ملجأ أهل البادية في الصيف؛ حيث تجفّ الأعشاب، فيجدون فيها الماء والغذاء لجمالهم، والثمر لغذائهم.
من أجل ذلك اتّسمت حياة البادية بالرحلة والتنقل، وكثر تشاحن القبائل للاستيلاء على قطعان الماشية وممتلكات الغير وأصبح جزءًا من مقومات الحياة البدوية. وأصبح السلب والنهب لا يعد جريمةً في نظر البدوي سواء كان ذلك غارة على واحة أو على قافلة، ومن هنا اتسمت حياة البادية سواء من الناحية الاقتصادية أو الاجتماعية بالتقلقل الشديد، كما اتسمت بالقسوة وموت العاطفة عند الأعراب الفقراء حتى ليقتلون أولادهم خشية الإملاق، كما قلت: قيمة المرأة عن قيمة الرجل، وإن كانت تسهم في الحياة العامة، فتشارك الرجل في حمل أعباء الحياة المدنية من القيام على المنزل وأعمال النسج والحياكة وإعداد الطعام؛ إلا أنها أقل غناء في الحرب، وفي
هذا الجو المتغلغل اعتبرت عالة وتبرم بها الناس وبميلادها {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل] وقد بلغ الأمر ببعضهم فعلًا أن يدسها في التراب؛ فقد كان الجفاة من فقراء الأعراب يئدون بناتهم كراهية أن تشاركهم في طعامهم؛ لشدة الفقر أو كراهية أن تتعرض للسبي والمعرة في حالة الضعف.
ثم الجهات الحضرية في الواحات التي تكثر فيها الينابيع والأودية وتنمو فيها أشجار الفاكهة والنخيل والحبوب، وفي المحطات التجارية التي كانت تقوم فيها القرى والمدن، وتستقر الحياة معتمدة على نتاج الأرض أو ما تجلبه التجارة من الرزق.
ولفقر البادية وضآلة مواردها اضطر الأعرابي إلى التفتيش عن رزقه بالغزو؛ ولهذا لافت القرى والمواقع الخصبة خاصة عنتًا شديدًا من الأعراب، الذين أصبحوا ذوي بأس شديد لتعودهم على مثل هذه الغارات وتخصصهم في سرعة المباغتة والفرار، ولما لم تكن هناك حكومات كبيرة تدفع الأذى عن المتحضرين وتكبح جماح البدو، فقد اضطر هؤلاء إلى مصانعة القبائل البدوية بدفع الإتاوات لها مقابل عدم التحرش بهم، ولحماية قطعانهم ومساكنهم، ولتمرير قوافلهم آمنة من القبائل الطامعة في الربح السهل عن طريق الغزو. وقد كانت هذه الإتاوات مصدر دخل ثابت لكثير من البدو في كثير من الأحيان، كما كان رؤساء القبائل القوية يفرضون أحيانًا إتاوات على القبائل الصغيرة الخاضعة لهم، وكان هذا مصدرًا من مصادر التذمر والحروب إذا اشتط بعضهم في جمعها، وقد كانت القبائل تدفعها مكرهة، مقهورة حتى إذا وجدت فرصة أو ظروفًا مناسبة تساعدها على التخلص من ذلك انتهزتها ولو عن طريق الاغتيال والقتل، كما حدث لزهير بن جذيمة العبسي، فقد كانت هوازن تدفع له إتاوة، فلما عنف عليها في جمعها ووجدت فرصة مناسبة تمكنت فيها منه قتلته1.
والمجتمع القبلي بوجه عام -من وجهة النظر الاقتصادية- مجتمع بسيط التكوين يتألف من طبقتين اقتصاديتين: طبقة أصحاب الأموال من التجار وأصحاب الإبل الذين تتركز في أيديهم الثروة وتتحكم أموالهم في الحياة الاقتصادية. وطبقة
1 ابن الأثير 1/ 337- 338.
الفقراء الذين لم يستطعيوا المشاركة في النشاط التجاري الجارف في المدن، والذين أوصدت طبيعة الحياة الرعوية في مجتمع البادية أبواب الثراء في وجوههم. وقد كانت الملكية تنقسم إلى قسمين: ملكية ثابتة وهي الأراضي والدور. والأراضي في الواحات الزراعية يملكها الأفراد ملكية خاصة، أما أرض المراعي الصحراوية فملكيتها شائعة للقبيلة كلها، أو هي للأقوى وللأسبق عليها. وأما الدور فهي في المدن ملكية ثابتة تباع وتكرى وتوهب، وعند البدوي لا توجد المباني؛ وإنما تقوم الخيام، وكل يملك خيمته التي ينقلها معه في ترحاله، وملكية سائلة وهي إما حيونية من جمال وماشية وأغنام، أو عروض تجارة، أو رقيق من رجال ونساء.
ويوجد في المدن من يتملك الأراضي والدور والماشية ومن له مال للتجارة ورقيق، وهؤلاء الأغنياء على درجات في الثروة، كما يوجد إلى جانبهم فقراء لا يملكون شيئًا. وفي البادية يوجد من يملك ألوف الإبل كما يوجد من لا يملك شيئًا إلا خيمته، وأحيانًا لا يمتلكها. وعلى ذلك وجدت في المجتمع العربي طبقتان اقتصاديتان، غنية وفقيرة، على درجات متفاوته بين أفرادها في كثرة الغنى وشدة الفقر.
وكانت الهوة الاقتصادية بين هاتين الطبقتين بعيدة الغور إلى حدّ كبير مما أدّى إلى اختلال التوازن الاقتصادي بينهما اختلالًا شديدًا، وهذا الاختلال الاقتصادي وقف منه القرآن الكريم موقفًا حاسمًا حين حمل شعواء على طبقة المرابين المنشترين في المدينة التجارية الذين زادوا بجشعهم في عمق هذه الهوّة بين الناس، وحين توعد بالويل والعذاب أولئك التجّار الذين كانوا يلجئون إلى الغش في البيع والشراء، وسماهم المطففين، الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون وحين نعي على الأعراب قسوتهم وتحجر نفوسهم حين ليئدون بناتهم ويقتلون أولادهم خشية الإملاق. كما حاول أن يضع حدًّا لهذا بما فرضه من الزكاة والصدقات والكفارات، وما قرّره من حقوق على الأغنياء للفقراء وبما نظمه من علاقات بين المتداينين.
وبقدر ما كان الفرق الاقتصادي بعيدًا بين هاتين الطبقتين، كان الفرق النفسيّ بينهما قريبًا، فقد كانت الطبقات الفقيرة تؤمن في قرارة نفسها بأنّها لا تقل شيئًا عن الطبقات الغنية، وإذا كانت الحياة قد أغدقت على غيرهم وحرمتهم فتلك خطيئة المجتمع الذي يعيشون فيه وليست خطيئتهم، وماذا يمكلون لتغيير حظهم في الحياة
في مجتمع صحراوي موارد الرزق فيه محدودة ومجال العمل فيه ضيق. إن تلك القوافل التجارية التي تسيل بها شعاب الصحراء، وهذه القطعان من الماشية التي يضيق بها حمى القبيلة، كان من الممكن أن يكون لهم فيها نصيب لو أن المجتمع سار على قواعد عادلة غير القواعد التي يسير عليها.
على هذا النّحو كان بعض الفقراء المتمردين على وضعهم الاقتصادي يتصوّرون مشكلتهم التي لم يجدوا لها حلًّا إلا بالفرار من مجتمعهم القبلي إلى الصحراء، ليشقوا طريقهم في الحياة معتمدين على قوتهم. وفي أعماق الصحراء الغامضة، وعلى مرتفعاتها الواعرة التي تستعصي على المطاردين، على طول الطرق التجارية التي تسير بها القوافل المحمّلة بالأموال والأرزاق. وعلى مقربة من مواطن الخصب والثراء ومراكز النشاط التجاري في الجزيرة العربية، انتشرت عصابات الصعاليك ممن نفتهم ظروف الاقتصاد أو ظروف الاجتماع عن الحياة العامة من مخلوعي القبائل وشذّاذها ومن هجنائها وأغربتها ومن فقرائها المتمردين ليؤلفوا فيما بينهم، بعيدًا عن المتجتمع النظامي، مجتمعًا فوضويًّا متمردًا يتخذ من الغزو والغارة والفتك وسائل للحياة،
ومن السلب والنهب وقطع الطريق وسائل للعيش، مؤمنًا بأن الحق للقوة وأن القوة تبرر الوسيلة.
ومن الحقّ أن نسجّل أن هذا المجتمع الفوضويّ المتمرّد لم يكن من حيث وسائله إلا صورة من المجتمع القبليّ من حوله والذي كان يؤمن بالغزو وسيلة مشروعة من وسائل الحياة وأسلوبًا معترفًا به من أساليب العيش؛ غاية ما في الأمر أن هذه الحركة المتمردة "حركة الصعاليك" كانت حركة فردية. تتم خارج النطاق الجماعي الذي كانت القبائل تتصرّف في داخله، في حين كانت حركات القبائل حركات جماعية تتم في داخل هذا النطاق. وقد انتشرت هذه العصابات المتمرّدة في أرجائها وقد جمع بينها التشرد والفقر، والتمرد على النظام القبلي وما كان يؤمن به من وحدة الدم ووحدة الجماعة، والكفر بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تسيطر على مجتمعات القبائل من حولهم1، والإيمان بأن الأوضاع في حاجة إلى ثورة تغير منها.
1 عن الصعاليك، انظر شوقي العصر الجاهلي 375- 387.
أسواق العرب
لكل قبيلة فائض من الثروات تحتاج إلى الاتجار به أو استبداله بما هي في حاجة إليه، ويتم ذلك في الأسواق. وقد كان للعرب أسواق عامة يجتمعون فيها للبيع والشراء وتبادل المنافع، وكانت هذه الأسواق تقوم في أيام معينة من السنة، كما كانت تعقد في أماكن فسيحة يتوافر فيها الماء لسد حاجة المجتمعين، كما كانت تقوم بقرب المراكز الحضرية والتجارية، وكان الأعراب يفدون إلى هذه الأسواق يعرضون سلع البادية، وأحيانًا يعرضون ما وصلت إليه أيديهم عن طريق الغارة على القوافل أو على المسافرين، وليتزودوا من هذه الأسواق بما يلزمهم من مئونة وملابس وغيرها.
وكان أهم هذه الأسواق في الحجاز سوق عكاظ، وكانت تقوم في سهل منبسط بين مكة والطائف، وهي أذكر سوق وأعرفها في الجزيرة العربية كلها، وكانت سوقًا عظيمة يغشاها العرب في كافة أنحاء الجزيرة العربية، وإن كانت قبائل مضر أكثر غشيانًا لها من غيرها لوقوعها في منطقتها1، وقد ساعد على نموّ هذه السوق قيامُها في الأشهر الحرم التي كان يحرم فيها القتال، ويأمن الناس فيها على أموالهم وأنفسهم2، وقد حتّمت الضرورات الاقتصادية أن تحاط الأسواق بما يضمن للناس الأمن فيها. وفي هذه السوق كان تباع مختلف التجارات والسلع الثمينة التي كانت تحملها قوافل التجارة من الشمال والجنوب والشرق والغرب، وكان لتجار قريش فيها أكبر النصب، لقربها من مكة، ولسيطرة مكة وخصوصًا في الخمسين سنة التي سبقت ظهور
الإسلام على قوافل التجارة: وحتى البضائع المسروقة كانت تباع في هذه السوق؛ ولذلك وفد إليها من سرق منهم أو انتهبوا للبحث عن بضائعهم المنهوبة أو المفقودة، وقد عثروا فعلًا على ما فقدوه يباع إلى الناس، وكثيرًا ما أدّى عثور أصحاب الأموال على بضائعهم المسروقة إلى نزاع وإلى حروب بسبب الدماء التي سبقت سرقة المال وسلب القتيل3.
1 انظر عبد الوهاب عزام: موقع عكاظ.
2 اليعقوبي 1/ 227.
3 الأغاني 19/ 105.
وكذلك كانت توجد في منطقة مكّة سوق مجنة وذي المجاز، ويقضي العرب في هذه الأسواق حوائجهم، ثم يرتحلون إلى مكة لحجهم1، كما كانت توجد أسواق أخرى في أنحاء شبه الجزيرة العربية منها دومة الجندل وصحار والشحر وعدن وصنعاء وعدة أسواق أخرى محلية تأتيها القبائل للامتيار2.
وقد كانت عكاظ، كما قلنا، أعظم هذه الأسواق وأشهرها، وطالمَا خرجت السوق عن وظيفتها الأصلية التي يفهمها الإنسان من السوق، وهي البيع والشراء، إلى أمور أخرى لا علاقة لها بالسوق التجارية، وهي المفاخرات والمباهاة والمسابقات في قول الشعر، وافتداء الأسرى، وكثيرًا ما كانت تعتقد فيها مجالس الصلح والتحكيم بين القبائل فتحلّ المشاكل المعقّدة، والناس مطمئنون إلى حرمة الأشهر الحرم التي تنعقد فيها السوق. فهي مجتمعات سياسية ذات أهمية، ومؤتمرات تقرّر فيها كثير من الأمور التي لها صلة بسياسة القبائل وبصلاتها بعضها ببعض، كما كانت القبائل تعلن فيها تبرأها ممن تخلعهم لجرائم ارتكبوها وأعمال أتوها لم ترضَ عنها، ليعرف الناس ذلك فلا يؤاخذوها على جرائم يقترفها هؤلاء الخلعاء3. وفي عكاظ كانت تحمّل الديون والإتاوات إلى أصحابها، فيذكرون مثلًا أن هوزان تحمل إتاوتها إلى عكاظ لتدفعها إلى زهير بن جذيمة العبسي4، وأن حيًّا من الأزد كان يحمل إتاوته إلى عبد الله بن جعد 5 على أن العرب؛ وبخاصة الخلعاء والصعاليك، من لم يرعَ حرمة الأشهر الحرم، كان يغشى هذه الأسواق يلتمس الرزق السهل، بسلب الناس والاعتداء عليهم عند قدومهم إلى السوق أو ارتحالهم منها؛ ومنهم من كان يجرؤ على السلب والنهب حتى في عكاظ نفسها6 كما لم ينجُ موقع عكاظ من الحروب، فوقعت فيه عدة أيام أهمها حرب الفجار، ولا يمكن أن ينجو مثل هذا المكان من الفتن والمعارك وهو
1 اليعقوبي 1/ 227.
2 نفسه. جواد 4/ 226.
3 نفسه 4/ 223- 255.
4 الأغاني 10/ 11. ابن الأثير 1/ 337. العقد الفريد 1/ 135.
5-
الأغاني 5/ 24.
6 اليعقوبي 1/ 217. جواد 4/ 225.
محل يجتمع فيه الناس من مختلف القبائل والعشائر، ومنهم الخصوم والأعداء والقتلة والسفاكون.
وكما كانت عكاظ مجالًا للنشاط الاقتصادي والاجتماعي، كذلك كانت مجالًا لتبادل الأفكار وتصفية اللغة وتوحيدها: فقد كان يأتي إلى هذه السوق الشعراء والخطباء والحكماء، يعرضون شعرهم ويخطبون ويتساجلون. ويلقي الحكماء بحكمهم. وكان كل صاحب رأي وفكرة يجد في مجالها فرصة لعرض رأيه أو الدعاية لفكرته. وكان بعض المبشرين يغشون هذه السوق وغيرها للدعاية لدياناتهم. فكانت في الحقيقة منتدى عامًّا يحوي كل نواحي الناشط الإنساني في الجزيرة العربية من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية.
وتدلّ كثرة هذه الأسواق، وتدل الحاجة إلى تنظيمها في كل مناطق الجزيرة العربية، ويدل النشاط المتنوّع الذي كانت تقوم به هذه الأسواق -على أن الثروات القبلية كانت قد استطاعت أن تنظم لنفسها نطاقًا أكبر من النطاق القبلي، بل سنرى فيما بعد أنها استطاعت أن تنظم نشاطها على نطاق دولي.