الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوتهم المادية والمعنوية، والذي رأوا نتائجه تتجه إلى مصلحة محمد وتوشك أن تقر سلطان دولته في هذه المنطقة الحيوية من شبه جزيرة العرب إقرارًا نهائيًّا.
وكان اليهود الذين أخرجهم محمد من المدينة أبصرَ خصومِ محمد بتعاليمه وبتقدير مصير دعوته. وكانوا أكثر تقديرًا لما يصيبهم من انتصاره واستقرار دولته، ولما كان خصوم محمد قد عجزوا عن القضاء عليه فرادى؛ فقد فكر اليهود من بني النضير وأهل خيبر في تكوين جبهة قوية يجتمع لها كل الخصوم، حتى تكون الجولة فاصلة مع هذا الرجل، وعلى هذا عقدوا العزم، وأخذوا على عاتقهم تدبير هذا الأمر وإعداده ليكون يوم الأحزاب.
غزوة الأحزاب أو الخندق:
اختمرت فكرة تأليب العرب على المسلمين في يثرب، في نفوس اليهود من بني النضير الذين لجأوا إلى خيبر بعد إجلائهم عن المدينة. وأرادوا لها أن تكون محاولة نهائية ومعركة حاسمة يخوضونها ضد محمد. وفي سبيل ذلك لم يدخروا جهدًا من حيلة أو مكر أو مال، وحتى تعاليم التوراة داسوها في سبيل هذا الغرض.
وتنفيذًا لهذه الفكرة خرج نفر منهم، من بينهم حيي بن أخطب النضري وسلام بن أبي الحقيق وأخوه كنانة. ومعهم جماعة من يهود خيبر، حتى قدموا على قريش بمكة يحرضونها على قتال محمد، لكن قريشًا كانت قد بدأت تمل الحرب وبدأت جبهتها الداخلية تتضعضع وأخذ الحصار الاقتصادي يؤثر فيها تأثيرًا كبيرًا، جعلها تفكر في إعادة النظر في موقفها تجاه الدولة اليثربية التي أخذت عليها طريق تجارتها، وأثبتت حتى الآن أنها قادرة على الثبات والنمو؛ لذلك بدت مترددة غير واثقة من سلامة موقفها، ومن إحراز النصر على محمد، وظهر ذلك جليًّا من أسئلتها التي وجهتها لليهود، فقد سألتهم: أدينها خير أم دين محمد؟ وقد أجابها اليهود على ذلك بأن دينها خير من دينه وأنها أولى بالحق منه1. وبهذه الإجابة تنكر اليهود لمبادئ التوراة وكفروا بالوحدانية جريًا وراء حقدهم ومصالحهم، وقد نعى القرآن عليهم هذا الموقف ودمغهم بالكفر وأوجب عليهم اللعنة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} [النساء] .
وفي موقف اليهود هذا وتفضيلهم الوثنية على التوحيد، يقول ولفنسون المؤرخ اليهودي: "وكان واجب هؤلاء اليهود ألا يتورطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش وألا يصرحوا أمام زعماء قريش بأن عبادة الأصنام أفضل من التوحيد الإسلامي ولو أدى بهم
1 ابن هشام 3/ 229، 230.
الأمر إلى إجابة مطلبهم؛ لأن بني إسرائيل الذين كانوا منذ قرون حاملي راية التوحيد في العالم بين الأمم الوثنية باسم الآباء الأقدمين، والذين نكبوا بنكبات لا تحصى من تقتيل واضطهاد بسبب إيمانهم بإله واحد في عصور شتى من الأدوار التاريخية. كان من واجبهم أن يضحوا بحياتهم وكل عزيز لديهم في سبيل أن يخذلوا المشركين، هذا فضلًا عن أنهم بالتجائهم إلى عبدة الأصنام إنما كانوا يحاربون أنفسهم ويناقضون تعاليم التوراة التي توصيهم بالنفور من أصحاب الأصنام والوقوف معهم الخصومة"1
ثم أرادت قريش أن تستوثق من خطة اليهود فسألت حييًّا عن قومه من بني النضير، فقال:"تركتهم بين خيبر والمدينة يترددون حتى تأتوهم فتسيروا معهم إلى محمد وأصحابه. وسألوه عن قريظة فقال: "أقاموا بالمدينة مكرًا بمحمد حتى تأتوهم فيميلوا معكم2. ومازالوا بقريش يسهلون لها الأمر ويرغبونها حتى أخذوا وإياها موعدًا بعد أشهر يكونون قد جمعوا لها فيها الأحزاب من كل قبائل العرب.
ثم خرج أولئك النفر من يهود من عند قريش ليتموا جولتهم في تأليب باقي قبائل العرب. خرجوا إلى غطفان، وبني مرة، وفزارة، وأشجع، وسليم، وبني سعد، وكل من له عند المسلمين ثأر يحرضونهم على الأخذ بثأرهم، ويذكرون لهم متابعة قريش إياهم على حرب محمد3 ويحمدون لهم وثنيتهم ويعدونهم النصر لا محالة.
ولما جاء الموعد المضروب خرجت الأحزاب التي جمعها اليهود لحرب المسلمين، وقد بلغ جيشهم عشرة آلاف مقاتل مسلحين أفضل تسليح تملكه القبائل العربية في ذلك الوقت، ولديهم قوة كبيرة من الخيالة4 وكانت القيادة العليا لأبي سفيان.
وبلغت أنباء هذا المسير محمدًا والمسلمين في المدينة ففزعوا له، إذ لم تكن المدينة تملك من القوة ما تستطيع به مواجهة هذا الحشد الكبير وبخاصة أن بطونًا منها لا تزال على شركها، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يطمئن تمامًا إلى بني قريظة وهم القبيلة الباقية
1 ولفنسون 143- 144.
2 الواقدي 290.
3 ابن هشام 3/ 230. الواقدي 790. الطبري 7/ 223.
4 ابن هشام 3/ 235. الطبري 2/ 246. إمتاع 1/ 210- 219.
من اليهود، ولم يكن يكفي التحصن بالمدينة وحدها، ولا بد من اتخاذ خطة أحكم لمواجهة المواقف، وقد جاء الحل من اقتراح تقدَّم به سلمان الفارسي، فقد أشار بحفر خندق حول المدينة1.
ووافق هذا الاقتراح هوىً في نفس النبي صلى الله عليه وسلم لسببين: الأول أنه يعوق تقدم العدو في هجوم عام، والثاني أنه يبرز نية النبي صلى الله عليه وسلم السلمية، فإنه لم يكن راغبًا في الحصول على مجد عسكري وإنما كانت الحرب عنده وسيلة لا غاية، فهو مع دقة تنظيمه ومهارته في القيادة يريد تسويد مبدأ السلم ما دام له عن القتال مندوحة، وكان تجمع كل هذه القبائل فرصة ليعلنهم جميعًا بنيته السلمية، ولكن في حيطة القائد وحذر المحارب، وَسَارَعَ فأمر بالبدء في حفر الخندق في شمال المدينة وهي الجهة التي يمكن أن تؤتى منها المدينة، أما باقي الجهات فهي حرات يصعب منها الهجوم ويسهل الدفاع، وعمل المسلمون بجد حتى أتموا حفر الخندق في ستة أيام، وحين أقبلت جموع العدو فوجئت بالخندق، فاستنكرت هذه الوسيلة التي لم تكن تعرفها من وسائل الدفاع واتهمت النبي صلى الله عليه وسلم والمسملين بالجبن، وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم بقواته من وراء الخندق، وكانت عدة من معه ثلاثة آلاف على قول بعض المصادر2 وتسعمائة على قول بعضها الآخر3.
ولما لم تجد الأحزاب سبيلًا إلى اجتياز الخندق اكتفوا بتبادل الرمي بالنبال ريثما يفكرون في خطة لمعالجة هذا الموقف.
واستطاع حيي بن أخطب أن يؤثر على بني قريظة، فأعلن هؤلاء قطع حلفهم مع النبي صلى الله عليه وسلم واستعدوا لمعاونة الأحزاب بفتح الطريق أمام جيوشهم أن تدخل المدينة من ناحية بني قريظة4 وهي جهة لم يشملها الخندق، ولكن النبي استطاع بمهارة أن يثبت الشك بين طوائف الأحزاب؛ فقد اتصل بغطفان وفاوضها على التراجع نظير ثلث ثمار المدينة، وإذا كان هذا الاتفاق لم يتم فإنه ثبط همم الغطفانيين، وألهب حماس الأنصار5، ثم بذر الشك بين اليهود والأحزاب6، وبذلك تفككت جبهة العدو،
1 الطبري 2/ 224. إمتاع 1/ 219، 220.
2 ابن هشام 3/ 230 الطبري 2/ 237. إمتاع 1/ 224.
3 جوامع السيرة 187.
4 ابن هشام 3/ 236- 238.
5 نفسه 3/ 239.
6 نفسه 3/ 247- 250.
والواقع أن هذه الجبهة كانت تحمل في ثناياها عوامل التفكك، فقد كانت أغراض الحلفاء غير متفقة، فقريش تريد أن تقضي على الدولة اليثربية بالقضاء على محمد والمسلمين، وغطفان إنما قدمت مأجورة فقد وعدها اليهود ثمار سنة من خيبر1 والقبائل الأخرى جاءت مشايعة وليس لها غرض واضح، واليهود كانوا يبغون استعادة سلطانهم بالمدينة وليس من غرضهم أن تقع يثرب في يد قريش أو إحدى القبائل الكبيرة، وإلا جرُّوا على أنفسهم خصمًا جديدًا قد يطمع في الاستيلاء على هذه المنطقة الخصيبة، ومن هنا كان التفكك بين صفوف الأحزاب، فوق أن وحدة القيادة لم تكن تامة فكل زعيم على جماعته لا تخضع خضوعًا مطلقًا لقيادة أبي سفيان. فما كادت عوامل الشك والريبة تأخذ طريقها إلى قلوب الزعماء حتى انفض جمعهم، وأعانت الطبيعة على انهزامهم وتراجعهم، فقد كان الجو شتاء والبرد قارسًا، وهَبَّتْ عاصفة شديدة وهطلت أمطار لا عهد لهم بمثلها، فانجفلوا جميعًا راجعين لبلادهم2.
وبذلك نجت المدينة من خطر شديد كان يتهددها، وكان تراجع الأحزاب هزيمة تمت بدون قتال، والهزيمة آتية لا عن طريق تحطيم الجيوش المعادية وإنما عن طريق تحطيم وحدتها وعن طريق بذر الشك بين رجالها، حتى لم يعد في الإمكان بعد هذا اليوم أن يتجمع خصوم المدينة على هذه الصورة، فقد أصبحت قريش تشك في ولاء القبائل العربية، كما أصبحت القبائل نفسها تشك في قدرة قريش وفي إمكانها التغلب على المسلمين، وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تمام الإدراك حين قال:"الآن نغزوهم ولا يغزوننا ونحن نسير إليهم" 3، كما أدرك رجاله هذا الموقف كذلك، ويتجلى ذلك في قول سعد بن معاذ زعيم الأوس الذي جرح في هذه المعركة:"اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخروجوه، اللهم وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقرَّ عيني من بني قريظة"4، وحين رجعت الأحزاب حاصر النبي بني قريظة حتى استسلموا فأوقع بهم عقوبة الإعدام جزاء خيانتهم العظمى.
1 السمهودي 1/ 214. هيكل: حياة محمد: 136. ولفنسون 143.
2 ابن هشام 3/ 250، 251.
3 البخاري 5/ 110.
4 نفسه 112، 113. ابن هشام 3/ 244.