الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصراع بين يثرب وخصومها
مدخل
…
ما كادت الدولة التي أنشأها النبي صلى الله عليه وسلم في يثرب تقوم، حتى بدأ بينها وبين خصومها صراع عنيف استعمل فيه اللسان كما استخدم فيه السيف، وقامت فيه الدبلوماسية بدورها إلى جانب القوة المسلحة، وظهرت فيه قوة الأحلاف القديمة بترابطها ومصالحها المشتركة. كما ظهرت آثار الخصومة القديمة بين القبائل والطوائف سواء في داخل المدينة أو خارجها. ولعب تشابك المصالح أو تعارضها دورًا مهمًا في توجيه الصراع وتقرير مصيره.
ولقد ظهر للدولة اليثربية خصوم في داخلها وفي خارجها. ولم يمضِ وقت كبير حتى اتفقت مصلحة الخصوم في الداخل والخارج. وتضافرت جهودهم على سحق قوة المدينة والقضاء عليها، وخنق الدين الجديد الذي قامت الدولة على أساسه. ومحاولة القضاء على صاحب هذا الدين حتى تعود الحالة إلى ما كانت عليه من قبل.
ولم يكن خطر الخصوم الداخليين بأقل أثرًا من خطر الخصوم الخارجيين؛ بل إنه أحيانًا يكون أشد على الدولة. فإنه يربك داخليتها ويفكك جبهتها ويجعلها عرضة للسقوط أمام أي هجوم خارجي. وقد تمثل هذا الخطر في طائفتين من طوائف يثرب. فأما الطائفة الأولى فهم اليهود الذين رحبوا بالنبي صلى الله عليه وسلم أول الأمر ظنًّا منهم أنهم يستطيعون استمالته إلى جانبهم ليستفيدوا منه في تقوية مركزهم في يثرب وتدعيم مصالحهم بها؛ ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان صاحب هدف أكبر من الأغراض المحلية. ومن هنا بدأ تعارض المصالح واضحًا بين الطرفين، فأخذ اليهود يكيدون للدين الجديد وللوحدة
الجديدة التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم بين عرب يثرب، ثم اتصلوا بالعدو الخارجي ونظموا معه قوة كبيرة لسحق المدينة.
وأما الطائفة الثانية فكانوا جماعة من الأوس والخزرج دخلوا في الإسلام مراعاة لدخول عشائرهم، لكنهم كانوا مسلمين في الظاهر يستخفون بالكفر في باطنهم، وكان على رأس هذه الجماعة بعض الزعماء الذين فاتتهم مصالح عاجلة، وعجزوا عن مقاومة الوضع الجديد، وكان وجود هذه الجماعة غير المخلصة أمرًا بالغ الخطورة في كيان الدولة؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم عالج الموقف بالحكمة والأناة، وَوَكَل أمر هذه الجماعة إلى عشائرها وقد ظل يتقي خطرها حتى ضعف أمرها شيئًا فشيئًا.
وأما خصوم الدولة الخارجيون، فكانوا قريشًا ومن ارتبط بها من قبائل العرب على أساس المصلحة المشتركة. وقد عملت قريش منذ الهجرة على إحباط مشروعات النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بالاتصال بالطوائف المناوئة في الداخل، كما عملت على كسر شوكة الدولة اليثربية بانتهاك حرمة أراضيها ثم بالهجوم عليها بغية سحقها وتدميرها. وقد شاركت القبائل الموالية لقريش في هذا العمل إما بمحاولة الإغارة على أطراف الدولة وإما بالمشاركة في جيوش قريش؛ لكن موقف القبائل كان دائمًا مرتبطًا بمصالحها وكان من الممكن تحويلها من جانب إلى آخر حسب مصالحها؛ ولذلك لم يكن موقف القبائل ثابتًا، وقد استطاع النبي صلى الله عليه وسلم تدريجيًّا أن يحولها إلى جانبه، حتى إذا ما مضت ثماني سنوات كان موقف القبائل قد تعدل نهائيًّا لصالح يثرب. وفي كل أدوار هذا الصراع استخدم الطرفان المتنازعان -ونعني بهما المدينة ومكة التي هي العدو الأول وحولها التف كل الخصوم- كل ما يملكان من قوة مادية وأدبية، وكان النصر معقودًا لمن يستطيع أن يتفوق على الآخر في توجيه الأمور توجيهًا سليمًا مبنيًّا على إدراك قوي للموقف الداخلي والخارجي في المدينتين، وعلى فهم طبائع النفوس وتوجيهها لمصلحته.