المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فتح مكة وتوحيد الجزيرة العربية - مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم

[أحمد إبراهيم الشريف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

-

- ‌جغرافية الجزيرة العربية والتشكيل القبلي

- ‌شبه جزيرة العرب

-

- ‌أقسام شبه الجزيرة العربية

- ‌الحجاز

- ‌أودية الحجاز:

- ‌مدن الحجاز:

- ‌مكة:

- ‌الطائف:

- ‌يثرب:

- ‌المناخ:

- ‌القبيلة العربية

- ‌مدخل

- ‌النظام السياسي للقبيلة العربية

- ‌مدخل

- ‌التشكيل الاجتماعي للقبيلة العربية:

- ‌دستور القبيلة

- ‌مستويات العصبية الاجتماعية

- ‌مهمة الدفاع لدى القبائل

- ‌الوضع الاقتصادي

- ‌مدينة مكة

- ‌مدخل:‌‌ مكة قبل الإسلام

- ‌ مكة قبل الإسلام

-

- ‌ نشأة مكة

- ‌قصي بن كلاب وعودة قريش إلى مكة:

- ‌حكومة مكة وسياستها الداخلية

- ‌مدخل

- ‌النزاعات العشائرية ووحدة القبيلة في مكة

- ‌قوة الزعامة في مكة وأثرها

- ‌ قوة قريش الحربية وعلاقتها بالقبائل الخارجية

- ‌علاقات مكة الخارجية

- ‌مدخل

- ‌علاقة مكة بالجنوب:

- ‌علاقة مكة بالشمال:

- ‌علاقة مكة بالفرس والحيرة:

- ‌الحج وأثره

- ‌مدخل

- ‌الكعبة البيت الحرام:

- ‌الحج

-

- ‌طقوس الحج وتقاليده

- ‌ثياب الإحرام:

- ‌الوقوف بعرفة:

- ‌الهدي والقلائد:

- ‌الحلق والتقصير:

- ‌آثار الحج الاقتصادية والاجتماعية:

- ‌الأشهر الحرم وأهميتها

-

- ‌ الحالة الاقتصادية

-

- ‌تجارة قريش الداخلية والخارجية

- ‌الربا:

- ‌النقد:

- ‌الأعداد والحساب:

- ‌المكاييل والموازين والمقاييس:

- ‌النشاط الزراعي والرعوي:

- ‌النشاط الصناعي:

- ‌الحالة الاجتماعية

- ‌مدخل

- ‌ طبقة الصرحاء:

- ‌ طبقة الموالي:

- ‌ طبقة الأرقاء:

-

- ‌الجاليات الأجنبية:

- ‌ النصارى:

- ‌ اليهود:

- ‌استعداد العرب للنقلة

- ‌مدخل

- ‌ظهور المصلح النبي

- ‌المفاهيم الجديدة في الدعوة:

- ‌الدعوة إلى الإسلام ومسايرة التنظيم العربي

- ‌أساليب قريش لمقاومة الدعوة

- ‌الهجرة في سبيل الدعوة:

- ‌مدينة يثرب

- ‌نشأة يثرب

- ‌مدخل

- ‌سكان المدينة

- ‌مدخل

- ‌اليهود

- ‌العرب

- ‌الأوس:

- ‌الخزرج:

- ‌التنظيم الداخلي والعلاقة بين السكان

- ‌مدخل

- ‌ العلاقات بين اليهود

- ‌ العلاقات بين العرب واليهود

- ‌ العلاقات بين الأوس والخزرج

- ‌ قوة يثرب وعلاقاتها الخارجية

-

- ‌ الحالة الاقتصادية

- ‌النشاط الزراعي

-

- ‌النشاط الرعوي

- ‌الصيد:

-

- ‌النشاط التجاري

- ‌التجارة الداخلية:

- ‌التجارة الخارجية:

- ‌المكاييل والموازين:

- ‌العملة:

- ‌النشاط الصناعي

-

- ‌ الهجرة وتأسيس الدولة الإسلامية في يثرب

- ‌تكوين الدولة في يثرب

- ‌الصحيفة

- ‌الصراع بين يثرب وخصومها

- ‌مدخل

-

- ‌ الصراع بين مكة والمدينة

- ‌الحالة الداخلية في يثرب "المدينة

- ‌الحالة الداخلية في مكة

-

- ‌بداية الصراع بين المدينتين

- ‌موقعة بدر سنة 2 ه

- ‌آثار موقعة أحد:

- ‌غزوة الأحزاب أو الخندق:

- ‌نتيجة الصراع

- ‌صلح الحديبية

-

- ‌ الصراع بين المسلمين واليهود

- ‌إجلاء بني قينقاع:

- ‌إجلاء بني النضير

- ‌القضاء على بني قريظة:

- ‌فتح خيبر والقضاء على قوة اليهود في جزيرة العرب:

-

- ‌ الصراع بين المدينة والقبائل العربية

- ‌غزوة مؤتة:

-

- ‌الخاتمة:

- ‌فتح مكة وتوحيد الجزيرة العربية

- ‌بيان براءة:

- ‌الخلافة الإسلامية وتثبيت دعائم الوحدة

- ‌مدخل

- ‌مشكلة الخلافة:

- ‌الردة:

- ‌الكشاف

- ‌أولًا: فهرس الأعلام

- ‌ثانيًا: الدول والقبائل والبطون والعشائر

- ‌ثالثًا: المواضع

- ‌رابعًا: الحروب والغزوات والوقائع

- ‌المصادر والمراجع

- ‌أولا: المراجع العربية

- ‌ثانيًا: المصادر والمراجع الأجنبية:

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌فتح مكة وتوحيد الجزيرة العربية

‌الخاتمة:

‌فتح مكة وتوحيد الجزيرة العربية

عاد جيش المسلمين بعد موقعة مؤتة لا منتصرًا ولا منهزمًا، وترك انسحابه أثرًا مختلفًا عند المسلمين بالمدينة، وعند الروم، وعند قريش بمكة.

فأما أثره بالمدينة؛ فقد كان المسلمون يرجون أن يحقق الجيش نصرًا كالانتصارات التي حققها من قبل، وساءهم أن ينسحب من أمام الروم دون أن يلحق بهم هزيمة، ولم يشفع لرجال الجيش عندهم أن كان العدو أضعافهم كثرة وسلاحًا، واتهموهم بالفرار في سبيل الله1 وبالغ شباب المسلمين المتحمِّس في هذا الاتهام حتى أرهقوا كبار رجال الجيش حتى ليلزم أحدهم بيته؛ كي لا يؤذيه صبيان المسلمين وشبابهم بتهمة الفرار، لكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو القائد البصير كان يدرك أن الانسحاب السليم أمام العدو المتفوق نصرٌ لا يقل قيمة عن دحر العدو في ميدان القتال، ولعله قُدِّر لخالد بن الوليد ضبطه نفسه وتغليبه الحكمة والحذر على الاندفاع والمغامرة في قتال قد يهلك الجيش ويؤدي إلى كارثة شديدة الأثر على موقف المسلمين، ولذلك رد على اتهام المسلمين بقوله:"بل هم الكرار إن شاء الله"2. ثم تلافى الموقف -كما ذكرنا من قبل- بما حفظ على المسلمين هيبتهم في الجبهة الشمالية وثبت سلطانهم.

وأما أثر الانسحاب عند الروم، فرحوا بانسحاب المسلمين وحمدوا الله أن لم يطل القتال بينهم، مع أن جيش الروم كان أضعاف جيش المسلمين، وسواء أكان فرح الروم راجعًا إلى ما أبداه خالد من الاستماتة في الدفاع والقوة في الهجوم، أم كان راجعًا إلى مهارته في توزيع جنوده وإيهام الروم بأن مددًا جاءه من المدينة، سواء أكان هذا أم ذاك فإن القبائل العربية المتاخمة للشام نظرت إلى فعال المسلمين بإعجاب شديد. حتى لقد أعلن أحد زعماء القبائل وهو فروة بن عرم الجذامي3 -وكان قائدًا من جيش الروم- إسلامه فقبض عليه بتهمة الخيانة، وحوكم، ولم يقبل عند محاكمته أن يرجع عن إسلامه، فأعدم وكان لهذا أثره في ازدياد انتشار الإسلام بين قبائل نجد المتاخمة للعراق والشام، فدخل في الإسلام ألوف من سليم وأشجع وغطفان وعبس

1 ابن كثير 4/ 252. ابن هشام 3/ 439.

2 ابن كثير 4/ 203. ابن هشام 3/ 438.

3 ابن هشام 4/ 261، 262.

ص: 409

وذبيان وفزارة، فكأن غزوة مؤتة كانت بابًا دخل منه الإسلام في قلوب هؤلاء الذين كانوا من قبل يناصبون المسلمين العداء.

أما أثر مؤتة في قريش فكان أن اعتبرها بعضهم هزيمة على سلطان المسلمين؛ ولذلك يجب أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه من قبل عهد الحديبية، ولتُعِدَّ قريش حربًا على المسلمين ومن في عهدهم دون أن تخشى قصاص محمد.

وكانت خزاعة قد دخلت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وكان بين خزاعة وبني بكر ثارات قديمة، سكنت بعد صلح الحديبية؛ فلما كانت مؤتة خُيِّل لقريش وحلفائها أن المسلمين قد قضي عليهم، ظن بنو بكر أن الفرصة سانحة ليصيبوا ثأرهم من خزاعة، وحرضهم على ذلك رجال من شباب قريش لم يقدروا الموقف تقديرًا صحيحًا، منهم عكرمة بن أبي جهل وبعض سادات قريش، وأمدوهم بالسلاح، وبيتت بنو بكر خزاعة ذات ليلة وهم على ماء لهم يسمى الوتير، فقتلوا منهم، وهزموهم حتى ألجأوهم إلى الحرم، وإلى دار بُديل بن ورقاء الخزاعي بمكة1.

وخرج عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة حتى وقف على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمسجد، فقص عليه نقض بني بكر وقريش العهد، وشكا إليه ما أصاب قومه، واستنصره بالعهد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"نصرت يا عمرو بن سالم"2.

ثم خرج بديل بن ورقاء في جماعة من خزاعة حتى قدموا المدينة فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بما أصابهم وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم3، وعند ذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن ما قامت به قريش من نقض العهد، لا مقابل له إلا فتح مكة، وأنها فرصة لا يجب أن تفوت فقد كان فتح مكة هدفًا يعمل النبي صلى الله عليه وسلم لتحقيقه منذ أمد بعيد، ويهيئ له في أناة وصبر، ولذلك أرسل إلى المسلمين في أنحاء الجزيرة ليكونوا على أهبة الإجابة لندائه من غير أن يعرفوا وجهته بعد هذا النداء.

أما رجال الملأ من قريش فقد أدركوا ما عرضهم له عكرمة ومن معه من الشباب من خطر، فهذا صلح الحديبية قد نقض، وهذا سلطان محمد في شبه الجزيرة يزداد بأسًا وقوة، وقد انضمت إليه قبائل التي كانت تقاتل في صفوف قريش من قبل، وإنه إن فكر في الانتصار لخزاعة من أهل مكة تعرضت مكة لأشد الخطر؛ لذلك أوفدوا

1 ابن هشام 4/ 554. ابن كثير 4/ 278.

2 ابن هشام 4/ 10- 12.

3 نفسه 4/ 12.

ص: 410

أبا سفيان بن حرب قائدهم وحكيمهم إلى المدينة ليثبت العقد وليزيد في المدة، ولعل المدة كانت سنتين، فكانوا يريدونها عشرًا، ولقي أبو سفيان بديل بن ورقاء في الطريق، وبالرغم من أن بديلًا أنكر أنه لقي محمدًا؛ فإن أبا سفيان عرف أنه كان بالمدينة، ومن أجل ذلك آثر ألا يكون محمد أول من يلقى، فجعل وجهته بيت ابنته أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.

ولم تستقبله ابنته استقبالًا حسنًا، ولما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وكلمه في العقد وإطالة مدته لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه، ورفض كبار الصحابة من المهاجرين: أبو بكر وعمر وعلي أن يساعدوه، بل لقد أغلظ له عمر الجواب وقال:"أنا أشفع لكم إلى رسول الله!! فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به".

فانصرف محنقًا يفيض أسى مما لقي من هوان، وعاد إلى مكة يحمل لقومه نتيجة سفارته الفاشلة1، وقد أدرك أن الموقف تحول نهائيًّا إلى غير صالح مكة، وأخذ رجال مكة يتناقشون في موقف أصبح ميئوسًا منه.

أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم ير أن يترك لهم فرصة حتى يتجهزوا للقائه؛ لذلك أمر فنادى بالتجهز فاحتشد له جيش قوي لم تشهد الجزيرة مثله من قبل عدة ونظامًا، فلقد بلغت عدته أكثر من عشرة آلاف، وبلغت قوة الفرسان فيه أكثر من ألفين2، وإذا كان جيش الأحزاب في موقعة الخندق قد بلغ مثل هذا العدد أو نحوه فإنه كان مفكك القيادة متنازع الأهواء، أما هذا الجيش فكان تحت قيادة موحدة حازمة، وكان هدفه واضحًا محددًا، ولم تكن القبائل التي اشتركت فيه مدفوعة بالكسب المادي مأجورة كما كانت حال غطفان في يوم الخندق. ولما اكتملت عدة الجيش أعلن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد، ودعا الله أن يأخذ العيون والأخبار عن قريش حتى لا تقف عن سيرهم على نبأ3.

وتحرك الجيش الكبير في عدته التي لم تشهدها الجزيرة من قبل عدة وسلاحًا ونظامًا وحسن طاعة، يملأ نفوس رجاله الإيمان بأن لا غالب لهم من دون الله، وسار محمد على رأس هذا الجيش وكل تفكيره أن يدخل البلد الحرام من غير أن يريق قطرة

1 ابن هشام 3/ 12- 14. ابن كثير 4/ 280، 281.

2 إمتاع 17/ 364، 373.

3 ابن هشام 4/ 14.

ص: 411

دم واحدة وبلغ مر الظهران -على أربعة فراسخ من مكة- دون أن يحس أي استعداد من قريش للقائه، فهل عميت الأخبار على قريش حقيقة؟ أم أنها كانت غافلة غير متوقعة قدوم محمد لغزوها، أم تراها كانت في اضطراب لا تستطيع معه أن تحسم أمرها؟ إننا إذا تتبعنا الحوادث فربما يمكن الوصول إلى تقرير الأمر تقريرًا صحيحًا.

وأول ما يطالعنا في هذا الشأن أن العباس بن عبد المطلب لقي النبي صلى الله عليه وسلم بالجحفة ومعه أهله قد خرج إلى المدينة1، وحين لقي النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أهله إلى المدينة وعاد مع جيش المسلمين، ثم إن الأمر لم يقف عند العباس وحده، وإنما خرج رجال من بني هاشم: منهم من كان يعادي الإسلام عداء شديدًا من أمثال أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فلقوا النبي صلى الله عليه وسلم في الطريق وأخذوا منه الأمان لأنفسهم2.

والأمر الثاني: هو أن أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء قد خرجوا من مكة والتقوا بالعباس الذي أوصل أبا سفيان للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أجاره، فأسلم أبو سفيان3، وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم أن من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

والأمر الثالث: هو أن بعض رجال مكة قد استعدوا للقتال وجمعوا قوتهم في مدخل من مداخل مكة واشتبكوا مع قوات المسلمين، حتى هزموا وفروا4.

ونحن إذا بحثنا هذه الأمور الثلاثة أمكننا أن نخرج برأي: فأما العباس بن عبد المطلب؛ فقد درج على أن يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم دائمًا يعلمه كل تحركات قريش ضده، فقد كتب له حين استعدت قريش لغزوه في موقعة أحد، وكتب بشأن استعدادها لغزوة الأحزاب، وتتحدث بعض المصادر أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، بعد أُحُد وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالبقاء في مكة، فإن بقاءه في مكة أكثر فائدة للمسلمين5.

ثم ها هو يخرج للمدينة والجيش متجه إلى مكة لفتحها، مما يوحي بأن مهمته في البقاء بمكة قد انتهت، ثم إن العباس كان صديقًا شخصيًّا لأبي سفيان بن حرب وبينهما من الود ما يسمح بالتكاشف بين الرجلين إذا استقر رأي أبي سفيان على التسليم، وقد عرف عن العباس دائمًا البر بقومه والحرص على مصلحة قريش؛ ولذلك كان اهتمامه كبيرًا بأن يأخذ الأمان لقريش. ثم هل كان خروج بني هاشم إلى لقاء النبي صلى الله عليه وسلم حين

1 ابن كثير 4/ 287. إمتاع 1/ 367.

2 ابن هشام 4/ 18. إمتاع 1/ 269. ابن كثير 4/ 287.

3 ابن هشام 4/ 18- 21. إمتاع 1/ 368- 371.

4 ابن هشام 4/ 26- 27.

5 أسد الغابة 3/ 110.

ص: 412

قدومه محض صدفة؟ أم أنهم كانوا على علم بنوايا النبي صلى الله عليه وسلم نحو مكة وخروجه لفتحها؟ وإذا كانوا على علم فهل خفي هذا الأمر على قريش؟ ثم خروج الزعماء الثلاثة إلى حيث لقوا العباس، هل كان صدفة كما تصوره الروايات؟!

إننا إذا درسنا شخصيات هؤلاء الثلاثة نقطع بعدم الصدقة في هذا الخروج، فأبو سفيان كان قد أدرك الموقف حين ذهب إلى المدينة وفشلت سفارته في تأكيد العقد وزيادة المدة، وهو كقائد لقريش في صراعها قد أدرك أن الموقف في غير صالح مكة، ثم إن خروج قائد مثله للتجسس أمر فيه خطورة، إذ من المحتمل أن يقع في يد العدو ثم هي مغامرة لا مبرر لها إلا أن تكون لأمر مقصود، ولقاؤه مع العباس في مكان معين غادر العباس الجيش وذهب إليه في الليل أمر يوحي بتدبير متفق عليه، وحين لقي أبو سفيان العباس ركب معه مباشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يلبث أن أسلم وقبل أن يكون داعية سلام.

وحكيم بن حزام رجل اشتهر منذ معركة بدر بأنه ضد الحرب1 وكان حريصًا على ألا يقع الاشتباك الأول بين المسلمين وقريش، وهو من قبل كان يعطف على موقف بني هاشم حتى كان يمدهم بالطعام حين كانوا محصورين بالشعب في مكة، ثم كان ضمن العاملين على نقض صحيفة المقاطعة، ثم هو ابن أخي خديجة زوجة النبي، فهو يرتبط به برابطة الصهر فوق رابطة القرابة.

ثم إن بديل بن ورقاء الخزاعي قد خرج يستنصر النبي صلى الله عليه وسلم على قريش وهو لا بد عالم بنية النبي صلى الله عليه وسلم في غزو مكة، وأبو سفيان كان يعلم عنه خروجه إلى -النبي صلى الله عليه وسلم فاستصحابه في هذه الليلة لا يمكن أن يكون للتجسس إذ كيف يتجسس بديل وقد طلب من النبي النصرة؟ وإذن فلا سبب لخروجه مع أبي سفيان غير تسهيل الاتصال بالنبي صلى الله عليه وسلم.

إذا تأملنا كل هذا؛ قطعنا بأن قريشًا كانت تتوقع الغزو، وأنها لم تستطع أن تعد قوة كافية لمواجهة المسلمين، وأنها كانت على خلاف من أمرها، بدليل أن بعض رجالها استعد للمقاومة، وقام بها فعلًا، ويعزز هذا ما روته المصادر من أن قريشًا بعثت أبا سفيان يتجسس الأخبار، وإن لقي محمدًا يأخذ لهم منه جوارًا، فإن رأى رقة من أصحابه آذنه بالحرب2.

1 الواقدي 45- 47.

2 إمتاع 1/ 368.

ص: 413

وقد كان كبار الزعماء في قريش يرون التسليم دون قتال، وكان على رأيهم أكثرية قريش، والدليل على ذلك أن الذين اشتبكوا مع قوات المسلمين كانوا قلة وكان على رأسهم بعض الشباب وهم الذين أعانوا بني بكر من قبل، ولذلك فإن الثلاثة الذين خرجوا لا بد أنهم كانوا وفد التسليم وكانوا على اتفاق سابق مع العباس الذي خرج من مكة؛ ليمهد لهذا اللقاء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم على علم بهذا الأمر، ولذلك قال لأصحابه وهو بالجحفة:"ذهب كلبهم وأقبل درهم، هم سائلوكم بأرحكامكم، وأنتم لاقون بعضهم، فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه"1، الأمر الذي يقطع بأن العباس أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بنية أبي سفيان والاتفاق معه.

ومع ذلك فقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم لدخول مكة أهبته وأعد للنصر كل عدته فقسم قواته إلى عدة فرق وأمرها أن تدخل مكة من كل مداخلها، وأمر رجاله بعدم القتال إلا إذا أكرهوا وحين بدا من بعض القادة ميل إلى العنف من أمثال سعد بن عبادة الأنصاري عزله عن القيادة وأحل ابنه محله2. ودخلت قوات المسلمين مكة دون حرب، إلا ما كان من فرقة خالد بن الوليد التي تعرض لها من أجمعوا على القتال بقيادة عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمر الذين ما لبثوا أن تفرقوا بعد مناوشات بسيطة3، وبدخول جيش النبي صلى الله عليه وسلم مكة سقط معقل المقاومة الأكبر وعفا النبي صلى الله عليه وسلم عن قريش عفوًا تامًّا4، وحتى الذين منع عنهم الأمان لشدة خصومتهم ولؤم نكايتهم ما لبث أن منحهم إياه حين أعلنوا بالطاعة.

وهكذا استطاع النبي صلى الله عليه وسلم أن يكسب أكبر معركة في تاريخ الدعوة الإسلامية بغير حرب وبغير إراقة دماء.

وكان لفتح مكة صدى بعيد الأثر في الجزيرة العربية وآثار بعيدة المدى من الناحيتين الدينية والسياسية على السواء.

فأما من الناحية الدينية: فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين تم له دخول البلد الحرام بدأ بالكعبة فطاف بها سبعًا، ثم أمر فحطمت الأصنام المقامة جميعًا. ثم دخل الكعبة فأزال ما بها من صور وتماثيل5. وبهذا قضى على الوثنية في معقلها الأكبر قضاءً رسميًّا. ثم إنه

1 نفسه.

2 ابن هشام 4/ 26. ابن كثير 4/ 292. إمتاع 1/ 375.

3 ابن هشام: نفسه.

4 نفسه 32.

5 ابن هشام 4/ 22- 27. إمتاع 1/ 383، 384.

ص: 414

تتبع بيوت الأصنام في الحجاز وفي الجزيرة العربية كلها يرسل إليها من يحطمها ويعلن للقبائل جميعًا انتهاء عهد الوثنية1. ولم تقاوم القبائل هذا العمل وكان سكوتها يعني إقرار منها بزوال عهد الوثنية، بل إن كثيرًا من القبائل تولت أصنامها بنفسها. وقريش التي كانت في موضع الزعامة الدينية في الجزيرة العربية، لم تلبث أن اعتنقت الإسلام بعد دخول جيوش النبي صلى الله عليه وسلم مكة. واستمسكت به ونصرته حين بدأت كثير من القبائل العربية ترتد عن الإسلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.

أما الآثار السياسية؛ فمنها القريب ومنها البعيد: فأما الآثار القريبة: فقد حدثت بسرعة كبيرة لا تزيد على الأسبوعين عدًّا، وذلك أن قبائل ثقيف وهوازن وهي القبائل التي تقيم قريبًا من مكة وتملك مدينة الطائف قد رأت في فتح مكة، ضربة موجهة لها واعتقدت أن دورها قريب، فقد كانت الطائف مرتبطة بمكة ارتباطًا شديدًا في الجاهلية، ومن أجل ذلك تجمعت قبائل الطائف وقبائل هوازن واستعدت لضرب المسلمين، ولم يستطيع رجال ثقيف وهوازن أن يدركوا أن مكة حين ألقت لواء المعارضة إنما ألقته بعد أن آمنت بأن معارضاتها قد استنفدت كل إمكانياتها، وأن أهل مكة قد فتحت نفوسهم للإسلام قبل أن تفتح مدينتهم أبوابها لجيوش المسلمين، وأن الفتح لم يكن حربيًّا إلا في ظاهره، ومن أجل ذلك خرجت قوات مكة إلى جانب قوات النبي صلى الله عليه وسلم للوقوف في وجه ثقيف وهوازن في معركة حنين2، ثم في حصار الطائف بعد هزيمتها في حنين3.

أما الآثار البعيدة: فإن قريشًا بعد أن القت لواء المعارضة لم يكن يوجد بين قبائل العرب من يستطيع حمله؛ فإن مكة تمثل النظام القديم في نظر الناس في الجزيرة العربية كلها، وهذه الزعامة القرشية كانت زعامة حقيقية قبل الإسلام، فإن الأمم في هذه العصور القديمة كانت تركز جميع مشاعرها القومية في الدين، وتجعله رمزًا

1 ابن هشام 4/ 64، 198.

2 ابن هشام 4/ 68- 92. ابن كثير 4/ 322- 340.

3 ابن هشام 4/ 122- 131. ابن كثير 4/ 345- 352.

ص: 415

لشخصيتها وعنوانًا على ثقافتها العامة وتقاليدها، فالدين الوثني الذي كانت قريش تحميه كان عنوانًا للقومية العربية ورمزً لها، ولهذا كان تسليم قريش وتحولها إلى الإسلام أمرًا بالغ الأهمية، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحس بهذا تمام الإحساس حين مال إلى السلم وتجنب أن يريق دماء المكيين مهاجمًا ومعتديًا؛ بل إنه حين انتصر على قريش لم يتبع معها ما يتبع عادة مع المغلوبين، بل قبل القرشيين في صفوفه دون شرط، وعفا عنهم وسماهم الطُّلَقَاءَ ومنحهم أعطيات من غنائم حنين وأراد بهذا أن يتألف قلوبهم فسموا: بالمؤلفة قلوبهم وهاتان التسميتان تدلان دلالة ظاهرة على سياسة النبي صلى الله عليه وسلم.

فلما انضمت مكة في العام الثامن الهجري في معسكر النبي صلى الله عليه وسلم اقترن التسليم بتحطيم الأصنام كما قلنا وهذا التحطيم في ذاته عمل له معنى خطير، فهو تحطيم للدين القديم والنظام القديم، وتسامع الناس بهذا الفتح وهذا التحطيم وتحدثوا به، وكان لهذا نتائج بعيدة المدى، كانوا يتسامعون أن قريشًا مالت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصبحت من حزبه، وأصبح الحجاز كله بذلك لرجل واحد، وعرفت القبائل أن تغييرًا سياسيًا قد طرأ على النظام القديم، وتسامعت في نفس الوقت بأن هذا النبي الجديد قد حطم الآلهة ولم ينله أذى؛ فكان بقاؤه بعد تحطيم الأصنام يحمل في ذاته نوعًا من الدليل على صدق النبوة في نظر هؤلاء الوثنيين، ولهذا سارعت القبائل المختلفة إلى الاتصال السياسي بهذا النظام الجديد وسعى بعضها إلى الاتصال السياسي والديني في نفس الوقت بهذا الرجل الذي ظهر في الحجاز وخالوه ملكًا ظهر على صورة نبي فتوافدت الرسل ممثلة للقبائل على يثرب في العام الثامن والتاسع وبعض العاشر، حتى لم تبق قبيلة إلا أرسلت للنبي صلى الله عليه وسلم وفدًا يعقد معه عهدًا1. هذه الوفود هي الصدى الملموس لنهاية الصراع بين النبي صلى الله عليه وسلم ومكة على هذا النحو السعيد.

ثم إن هذه الخطوة الجديدة التي تحققت بقدوم الوفود أتاحت للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتجه لتحقيق خطوة أخرى كبيرة، فقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يتجه إلى ما وراء الحجاز، إلى شبه الجزيرة العربية كلها، وكان هذا التحول مقرونًا بالصدى الهائل الذي تجاوب في جزيرة العرب بعد فتح مكة.

1 ابن سعد: 2/ 56- 121.

ص: 416