الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على الوجه الأكمل. وقد تحرج المسلمون من أكل الصيد الذي استعين عليه بالجوارح المعلمة، فأحلَّ الله لهم ذلك على شريطة ذكر اسم الله عند الرمي، أو عند إرسال الجارح. كما أن العرب كانوا يستخدمون الرماح في الصيد كما كانوا يستخدمون النبل أو الشراك1.
وكان العرب قبل الإسلام يحرمون الصيد بريًّا وبحريًّا في الأشهر الحرم تبعًا لما كانوا عليه من عادة تحريم سفك الدماء في هذه الأشهر؛ فرفع القرآن عنهم هذا الحرج بالنسبة لصيد البحر؛ وذلك لشدة الضرورة والحاجة المعيشية الماسَّة والخاصة للمسافر بحذاء البحر، وهذا يفيد أن صيد البحر كان مرتزقًا، وضرورة معيشية أوسع نطاقًا من صيد البر.
وليس في القرآن تخصيص للذين كانوا يعملون بالصيد، مما يمكن أن يقال معه إن أهل المدن والبدو كانوا يشتغلون به؛ إلا أنه من المتبادر أن البادية أكثر اشتغالًا به، وأن أهل السواحل أكثر اشتغالًا بصيد البحر. وقد شارك أهل مكة في أعمال الصيد، ومنهم من كان يستفيد منه في معاشه وبخاصة قريش الظواهر، كما كان منهم من يتخذه رياضة من سادات مكة2.
1 انظر سورة المائدة 94.
2 ابن هشام 1/ 312، المبرد: الكامل 2/ 493 "تحقيق أحمد محمد شاكر".
النشاط الصناعي:
ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة مكية ومدنية احتوت مسميات كثيرة ومتنوعة لمصنوعات هي من وسائل حياة أهل المدن. فقد ذكرت الآيات البيوت والغرف والحجرات والأبواب والسقوف والقواعد والمعارج1، والخيام التي تصنع من جلود الأنعام، كما ذكرت الأثاث الذي يصنع من الصوف والأوبار والأشعار2، والأسرَّة والأرائك والنمارق والزرابي والفرش وبطائنها3. والأواني المتنوعة من قدور وجفان وصحاف وأكواب وأباريق وكئوس4، ومصابيح ومشاك وزجاج5. والحلي والزينة
1 انظر سورة الطور 1-5، الحجرات 4، الزمر 20، النحل 29.
2 انظر سورة الرحمن 23، النحل 80.
3 انظر سورة الغاشية 12-16، الرحمن 54، الكهف 31.
4 انظر سورة الإنسان 16، الواقعة 15-18، الزخرف 71.
5 انظر سورة النور 35.
بأنواعها1، والثياب من الحرير وغير الحرير2 والجلابيب والخُمر والسراببيل والقمصان والنعال3: والسلاح من رماح وسكاكين ودروع4. والسلاسل والأغلال5. وأدوات الكتابة من قرطاس وقلم ومداد ورقوق6 والشراب الذي يصنع من ثمرات النخيل والأعناب7. والمعادن من حديد ونحاس وذهب وفضة والصلصال والفخار8.
وورود هذه الأعيان ومسمياتها وأوصافها ووجوه استعمالها في القرآن، ويدل على أن أهل مكة وأهل الحجاز ومدنه كانوا يستعملونها ويملكونها قبل نزول القرآن، حتى ولو جاء ذكرها في معرض الإخبار والتمثيل ووصف نعيم الجنة؛ لأن القرآن لا يمكن أن يخاطب الناس بما لا يفهمونه ولا يعرفونه. ويضاف إلى هذه الأشياء المكاييل والموازين التي كانت موجودة ومستعملة في البيع والشراء.
وواضح أن وجود هذه الأدوات والحاجيات يتطلب وجود طبقة من العمال والصناع: في أعمال البناء ونحت الحجارة، وفي الحدادة والنجارة والتنجيد والصياغة والحياكة والنحاسة والسروجية، وغير ذلك مما تتطلبه حياة المدن مهما كانت درجتها من الحضارة9. وقد ورد ذكر لأناس كانوا في مكة يقومون بهذه الأعمال، منهم من يقوم بالحدادة أو الصياغة، ومنهم من كان يقوم بالنجارة10 أو النسيج أو الخياطة أو الحجامة11.
1 انظر سورة النور 31، 60.
2 انظر سورة الحج 25، الكهف 31، سبأ 13.
3 انظر سورة الأحزاب 50، طه 12، يوسف 18.
4 انظر سورة النحل 81، المائدة 97، يوسف 31، النساء 101.
5 انظر سورة الحاقة 32، غافر 71، سبأ 11.
6 انظر سورة لقمان 37، الأنعام 7.
7 انظر سورة النحل 67.
8 انظر سورة الحديد 25، الرحمن 14، 35، الحج 25، الكهف 31.
9 دروزة عصر النبي ص 69- 71.
10 أسد الغابة 1/ 43.
11 البخاري 3/ 60- 63.
ومهما تكن أسفار الحجازيين البرية أو البحرية، ومهما يكن ما يجلبونه من الخارج؛ فليس من المعقول أن يجلبوا كل ما يحتاجون إليه من هذه الأدوات والحاجيات مصنوعًا جاهزًا؛ بل لا بد أن يصنع بعضها إن لم يكن معظمها محليًّا؛ إذ لا يمكن أن يكونوا أو يظلوا عيالًا على الخارج في هذه المواد الكثيرة التي يستعمل كثير منها استعمالًا عامًّا ويوميًّا، ولا سيما وأن المواصلات بينهم وبين البلاد التي تقدمت عليهم في الحضارة، والتي يمكن أن يجلبوا منها احتياجاتهم -غير سهلة ولا قريبة-. كما أنه يوجد من الأشياء ما لا يمكن جلبه من الخارج، كأعمال البناء والنحت والنجارة؛ وإذن فلا بد من وجود طبقة من الصناع والعمال في المدن الحجازية يقومون بكثير من هذه الأعمال الصناعية، وأن أهل هذه المدن، وإن اعتادوا أن يجلبوا شيئًا مما يستعملونه من الخارج، فإن هذا الشيء كان مقصورًا على ما لا تستطيع البيئة المحلية إنتاجه، أو لا تستطيع إجادته، وخصوصًا حاجيات الترف الكمالية الدقيقة الصنع، من أدوات الزينة والزخارف والحرير والأواني الدقيقة وبعض أنواع الأسلحة والنسيج.
ولقد كان في مكة وفي سائر المدن الحجازية جاليات أجنبية يهودية ونصرانية، سورية ومصرية وحبشية ورومية وعراقية. ومن الراجح أن هؤلاء الأجانب كانوا يقومون بكثير من هذه الأعمال الصناعية، وأنهم كانوا نواة ومعلمين لطبقات من الصناع المحليين، وأن منهم من كان يعمل لحسابه الخاص، كما كان الحال في يهود يثرب، ومنهم من كان يعمل لحساب سادته1. وقد أشار أصحاب السير إلى عامل رومي استخدم في بناء الكعبة عند تجديدها، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وجد في الكعبة صورًا ورسومًا للملائكة والأنبياء، لا بد أنها كانت من صنع أمثال هذا العامل الرومي ومن عمل معه من بني جنسه من النصارى، كما وجدَ بها تمثالًا لحمامة من الخشب؛ الأمر الذي يدل عل وجود صناع يتقنون هذه الأعمال في مكة، وأنهم لم يكونوا من العرب ولكنهم كانوا من الرقيق أو من الموالي الأجانب 2. كما كان بعض النساء يشتغلن بالأعمال الصناعية وبخاصة صناعة الغزل والنسيج3.
1 الأغاني 1/ 65.
2 الطبري 2/ 39- 40.
3 البخاري 3/ 61.