الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
رسالته:
قال كاتب المقال: "فهو بشخصية الرسول مبلغ عن الله، لا يخرج فيما أوحى إليه عن حدود ما أمر به، أو نهى عنه، والمسلمون مكلفون به كما تلقوه عنه في عمومه أو خصوصه، وفي دوامه أو توقيته، وهذا يغلب فيما هو من العقائد وأصول الأخلاق والعبادات، ولا يعد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقيهاً، وإنما هو أعلى شأناً، وأجل مكانة من الفقيه".
ذهب الكاتب في الجمل السابقة إلى أن ما ينزل به الوحي، ولا يجتهد فيه النبي صلى الله عليه وسلم راجع إلى الشؤون التي تتعلّق بأساس الدعوة، أو الجانب الخلقي، أو العبادة، وعاد هنا فجعل ما ينزل به الوحى يغلب فيما هو من العقائد، وأصول الأخلاق، والعبادات، فهل يعد مثل هذا تخاذلاً في الإنشاء، أو هو رجوع عن رأي برأي؟
يقول كاتب المقال: إنه عليه الصلاة والسلام بشخصيته مبلغاً أعلى شأنًا، وأجل مكانة من الفقيه، ونحن نرى اجتهاده عليه الصلاة والسلام في استنباط حكم شرعي متى وقع، فإنما هو مستمد من نصوص الوحي أو أصوله، فهو عليه الصلاة والسلام لم ينزل عند اجتهاده عن مرتبة التبليغ، ومن هنا نقول كما قال أهل العلم من قبلنا: إن أوامره تتبع على الوجه الذي وردت فيه من وجوب أو ندب، لا فرق بين ما يكون صادراً عن وحي، وما يكون صادراً عن اجتهاد.
*
إمامته:
قال صاحب المقال: "وهو بشخصيته الإمام الأعظم رئيس المسلمين، وزعيم قوميتهم، يعمل على تركيز أمته، وطبعها بطابع تتميز به عن سائر
الأمم. ويلحق بذلك كل ما ورد عنه مما يتعلق باللباس والأزياء، والتشبه بقوم، ومخالفة اليهود والنصارى والمجوس والمشركين، وما إلى ذلك مما لا يمس ناحية من العقيدة، ولا يعقل فيه معنى التعبد، وإنما هو في الشؤون الاجتماعية البحتة التي تعرفها الأمم في كل العصور والأجيال، وينزع إليها الزعماء والقادة في القديم والحديث، والأمر فيها راجع إلى ما تراه الأمم، وتقدر فيه قوميتها ومصلحتها وسيادتها".
إمامة النبي صلى الله عليه وسلم تقررت بالوحي، فالوحي هو الذي أنشاها، واستمر يمدها بأوامر ونواه حتى قامت على قدم راسخ، وأصبحت المثل الأكمل الذي أقامه الله للأئمة من بعده، وأمرهم بأن يكونوا على آثاره مقتدين.
وكان الوحي ينزل في كثير من التصرفات العائدة إلى الإمامة؛ كإعداد القوة، وإعلان الحرب، والدعوة إلى الخروج إليها، والإذن في التخلف عنها، وأخذ البيعة على المناصرة فيها، والأخذ فيها بالحذر والحزم، والزجر عن الفرار من مواقعها، ومعاملة الأسرى، وإعطاء الأمان للمحاربين، وتقرير السلم، وعقد المعاهدات، وقسمة الغنائم، وضرب الجزية، وعقاب الذين يقطعون السبيل وشمعون في الأرض فساداً، والأخذ بالشورى.
فإمامة النبي صلى الله عليه وسلم وليدة الوحي، وهي - وإن كانت تصرفاً "في الشؤون الاجتماعية التي تعرفها الأمم في كل العصور والأجيال"- قد رسم لها الشارع محجة غير الطرق التي تمشي فيها أمم لا دينية، فيعترضها من الأشواك والعثرات ما يعوقها عن إدارك الغاية المنشودة من الأمن وسعادة الحياة.
فإمامة النبي صلى الله عليه وسلم خلافة عن الله فيما اختاره لسياسة الأمم، ومن هنا كان جزاء الذين يخرجون عليها عذاب الهون في الدار الآخرة، ولولا أنهم خرجوا
على سياسة رسم الوحي دائرتها، وفرض على الناس طاعتها، ما كان جزاء من يخالفها إلا جزاء من يخالف سلطانًا تقوم سياسته على آراء لا تتصل بالوحي في أصل ولا فرع، وهو عقوبة السلطان، أما عقوبة الله، فإنما يستحقها من كان لله عليه حجة، قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُول} [الإسراء: 15].
وسمَّى كاتب المقال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الجمل: رئيس المسلمين، وزعيم قوميتهم؛ ليقرر في نفس القارئ أن ما يصدر عنه بصفة الإمامة لا علاقة له بالرسالة، وإنما هو بمنزلة ما يصدر عن غيره من الزعماء والقادة في القديم والحديث.
وقال كاتب المقال في هذه الجمل: "يعمل على تركيز أمته، وطبعها بطابع تتميز به عن سائر الأمم"، وهذا كلام صحيح متى فهمنا أن أمته كل من دخلوا في دينه من العرب والعجم، وأن ما يقوله لتركيزها وطبعها بطابع تتميز به عن غيرها من الأمم، لا يختص بخطابه قوم دون قوم، ولا عنصر دون عنصر، ذلك أن ما يقوله في هذا الصدد إما أن يكون عن وحي، وإما أن يكون عن اجتهاد يتصل بالوحي.
وقال الكاتب في هذه الجمل: "ويلحق بذلك كل ما ورد عنه مما يتعلق باللباس والأزياء والتشبه بقوم، ومخالفة اليهود والنصارى والمجوس والمشركين".
ترك الشارع أمر اللباس إلى العادات، ولكن التشريع دخل في اللباس من بعض الجهات؛ كان يكون طاهرًا نظيفاً ساترًا لما يجب أو يحسن ستره، ولا أظن أحداً يستطيع أن يقول: إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير والذهب إنما هو من قبيل ما يصدر عنه بصفته رئيس المسلمين، وزعيم قوميتهم، فقد
قال عليه الصلاة والسلام: "حُرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي"، ولا شبهة في أن الذي حرم لباسهما هو الله تعالى، وقال:"ومن لبس الحرير، في الدنيا، فلن يلبسه في الآخرة"، وإن لم يكن مثل هذا الحديث وحياً، فمن أين علم النبي صلى الله عليه وسلم أن من لبس الحرير في الدنيا لا يلبسه في الآخرة؟
يقول كاتب المقال في هذه الجمل: "إن كل ما ورد عنه مما يتعلق بالتشبه بقوم، ومخالفة اليهود والنصارى والمجوس والمشركين، صادر عنه صلى الله عليه وسلم بصفته رئيس المسلمين، وزعيم قوميتهم".
ونقول: وردت أحاديث في النهي عن التشبه بالمخالفين، ويلغت هذه الأحاديث أن تقررت بها قاعدة يرجع إليها الفقهاء في بعض ما يتجدد من الحوادت العائدة إلى هذا القبيل.
وكل أحد يتفقه في هذه الأحاديث، ويبحث عن أسرارها، يرى رأي الحق: أن شريعة الإِسلام تكره للمسلمين أن يتشبهوا بغيرهم من أهل الملل والمذاهب الأخرى، ولا يرتاب في أن النهي عن هذا التشبه داخل في دائرة أحكامها.
والأحاديث الواردة في كراهة التشبه بالمخالفين نوعان:
أولهما: أحاديث وردت في النهي عن أشياء تشتمل على وجوه من الفساد، ويقول فيها عليه الصلاة والسلام: هذا من فعل المشركين، أو اليهود - مثلاً -، أو يقول فيها: وخالفوا اليهود أو المجوس. فالمقتضي الأول للنهي عنها: هو ما في الفعل من مفسدة، والإخبار بأنها من أفعال أهل ملة باطلة يراد منه: زيادة التنفير منه، وتكيد كراهة الشارع له، ومثال هذا: قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى
الجاهلية"، فالنياحة والندبة عند المصيبة هي المعبر عنها بدعوى الجاهلية. والنياحة والندبة ينهى عنها ولو لم تكن من شأن الجاهلية، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أضافها إلى الجاهلية؛ لزيادة التنفير منها، حيث إن المتقين يتحامون أن يتشبهوا بالضالين والمبتدعين، وقد ورد هذا النوع في كثير من الآيات؛ كقوله تعالى:{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33].
ثانيهما: أحاديث وردت في النهي عن التشبه بالمشركين، أو غيرهم من أهل الملل الباطلة في أشياء لا يظهر فيها وجه مفسدة، ولا وجه مصلحة، فيكون المقتضي للنهي هو مجرد التشبه، ويساق مثلاً لهذا حديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -إذا أَتبع جنازة، لم يقعد حتى توضع في اللحد، فتعرض له حبر (1)، فقال: هكذا نصنع يا محمد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:"خالفوهم (2) ".
ومن حقق النظر فيما يترتب على نفس التشبه بالمخالفين من آثار، ودخل إلى هذا التحقيق من باب دراسة علم النفس، أدرك وهو على بصيرة أن النهي عنه يقوم على مراعاة مفاسد هي من نوع المفاسد التي تشتد عناية الشارع بإزالتها، ومن ذا الذي يرى شخصا يترك زياً من أزياء إخوانه المسلمين، ويتزيا بزي يهودي أو نصراني، ولا يتبادر إلى ذهنه أنه ضعيف الإيمان، أو منحل العقيدة؟!
يقول كاتب المقال في هذه الجمل: "وما إلى ذلك مما لا يمس ناحية العقيدة، ولا يعقل فيه معنى التعبد، وإنما هو في الشؤون الاجتماعية البحتة التي تعرفها الأمم في كل العصور
…
إلخ".
(1) من أحبار اليهود.
(2)
"صحيح البخاري".