الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدارقطني الشيخين بإخراجها؛ لثبوته على شرطهما.
وإذا قالوا: إن الحكم في الواقعة جزئي لا يتعدى إلى أمثالها من الوقائع، فللمجتهد أن ينظر في واقعة صدر فيها حكم مجتهد من قبل، فإنما يريدون: حكم من قد يخطئون، ولا ينبهون من قبل الشارع لخطئهم، أما إذا حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في واقعة، فليس لمجتهد بعده أن يعيد النظر في أمثالها إلا من جهة التحقق من الأسباب والشروط التي وقع عليها قضاؤه، وهذا أمر جرى عليه علماء الإِسلام باتفاق، ودليله واضح لا تحوم عليه شبهة، قال ابن حزم في كتاب "الأحكام":"اتفق العلماء على أن القرآن، وما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قاله، أو فعله، أو أقره وقد علمه- مواضع لوجود أحكام النوازل".
*
ماذا يترتب على الشخصيات الأربع
؟
قال كاتب المقال: "هذه شخصيات أربع صارت إليه صلى الله عليه وسلم وأثراً من آثار تلك الهجرة الميمونة، وإنا لنلمح هذه الشخصيات في جميع ما أثر عنه، ودوِّن في الكتب، ومنه ما تظهر الشخصية التي صدر عنها دون أن يخالف فيه أحد، ومنه ما تخفى شخصيته خفاء تتفاوت الأنظار، وتختلف الآراء في تقديره".
ذكرنا سابقاً أن بعض الأصوليين نبهوا لهذه الجهات الأربع في تصرفه عليه الصلاة والسلام ونذكر هنا: أنهم أشاروا إلى أن من تصرفاته عليه الصلاة والسلام ما اتفق العلماء على الجهة التي يرجع إليها من الإمامة أو الفتوى أو القضاء، ومنه ما اختلفت فيه الآراء والأنظار.
قال الشهاب القرافي: "إن تصرفه عليه الصلاة والسلام ينقسم أربعة أقسام:
قسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالإمامة؛ كالإقطاع، وإقامة الحدود،
وإرسال الجيوش، ونحوها.
وقسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالقضاء؛ كإلزام أداء الدين، وتسليم الودائع، وفسخ الأنكحة، ونحو ذلك.
وقسم اتفق العلماء على أنه تصرف بالفتيا، كإبلاغ الصلاة وإقامتها، وإقامة المناسك، ونحوها.
وقسم وقع منه عليه الصلاة والسلام متردداً بين هذه الأقسام، فاختلف العلماء فيه على أنحاء".
وذكر لهذا القسم المختلف فيه أمثلة، منها: قوله عليه الصلاة والسلام: "من أحيا أرضًا ميتة، فهي له"، وقوله:"من قتل قتيلاً، فله سلبه".
فقول الكاتب: ومنه ما تظهر الشخصية التي صدر عنها
…
إلخ يشابه هذا التقسيم الذي نقلناه عن القرافي، غير أن القرافي يجعل الفتوى والتبليغ - من جهة ما يترتب عليهما من الآثار - متساويين، ولهذا نراه عندما جعل الأقسام أربعة، اكتفى بذكر الفتوى عن التبليغ، وقد قال في أثناء بحث هذا التقسيم:"وأما تصرفه عليه الصلاة والسلام بالفتوى أو الرسالة والتبليغ، فذلك شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين".
قال كاتب المقال: "ولو أننا تتبعنا المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطيناه نظرة فاحصة يتميز بها ما كان صادراً عن كل شخصية من هذه الشخصيات، ولم نخلط بعضه ببعض، ورتبنا على كل منها آثاره، وأعطيناه حقه، لسهل على المسلمين أن يتفاهموا فيما شجر بينهم من خلاف، ولتصافح المتخالفون، ولما رمى أحد سواه بالكفر والزندقة، ولعلم الجميع ما هو شرع دائم عام لا سبيل إلى مخالفته أو الخروج عنه، وما هو تشريع خاص أو مؤقت لهم أن
يتصرفوا فيه بما تقضي به المصلحة، وبما توحي به الظروف والأحوال".
يريد الكاتب أن يضع في ذهن القارئ أن علماء الإِسلام لم يتتبعوا المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يعطوه نظرة فاحصة يتميز بها ما كان صادراً عن كل شخصية من هذه الشخصيات، وخلطوا بعضه ببعض، فنقول له: قد قلت في صدر مقالك تذكر عناية المسلمين بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتصرفاته: "دونوها، وشرحوها، وضبطوا ألفاظها، وألفوا المعاجم في شرح غريبها، واهتموا بتفهم أسرارها، وتبين أغراضها، حتى كان من آثار ذلك أن نشأت علوم خاصة تعرف بعلوم السنة".
وكيف يشرحون أقواله وأفعاله وتصرفاته، ويهتمون بتفهم أسرارها وتبين أغراضها، وهم لم يعطوها نظرة فاحصة يتميز بين تلك الشخصيات، ويخلطون بعضها ببعض؟
ينسب الكاتب إلى المسلمين أنهم لم يتتبعوا المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعطوه نظرة فاحصة
…
إلخ ما قال، وكذلك قال الدكتور زكي مبارك في مقاله المشار إليه فيما سلف:"إن شخصية النبي صلى الله عليه وسلم لم تدرس حق الدراسة إلى اليوم في البيئات الإِسلامية؛ لأن المسلمين يجعلونه رسولاً في جميع الأحوال".
والحق أن علماء السلف قد تتبعوا المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطوه نظرة فاحصة، وميزوا ما كان صادراً عن تبليغ، وما كان صادراً عن فتوى، وما كان صادراً عن قضاء، وما كان صادراً عن الإمامة، ورتبوا على كل منها آثاره، غير أن آثار الإفتاء هي آثار التبليغ، فما كان صادراً عن إفتاء أو تبليغ، فهو شريعة دائمة، وينفذ على النحو الذي ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
سواء أكان الإفتاء عن وحي، أم عن اجتهاد.
وما كان صادراً عن صفة الإمامة يصير الحق فيه إلى الإمام؛ أي: إن الله تعالى قد جعل ذلك إلى الإمام؛ ليجري فيه على ما تراءى له من المصلحة، فليس لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الإمام؛ كإحياء الموات، وحوز القاتل سلبَ القتيل في الحرب على مذهب من يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم تصرف في ذلك بصفة الإمامة.
وما تصرف فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء، فإنما هو تنفيذ لحكم شرعي على وجه الإلزام، وقالوا: ليس لأحد أن يقدم على مثل ما حكم فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا بحكم حاكم، ومعنى هذا: أنه لا يجوز لأحد يدعي حقاً على شخص أن يقدم على أخذ حقه من ذلك الشخص بقوة، وإن سبق أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حكم بمثل ذلك الحق لمثله، يقولون هذا وهم لا يريدون أن حق المدعي لا يثبت شرعاً إلا باجتهاد يتجدد من القاضي في الواقعة التي هي من نوع ما حكم فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ينحون نحواً آخر هو: أن إطلاق أيدي مدعي الحقوق ينتزعونها من أيدي المستولين عليها، يفضي إلى فتنة واختلال أمر، ويفتح للبغاة باب انتزاع الأموال من أيدي أربابها بدعوى أنها حقوق لهم. وما أدق عبارة ابن الشاط التي سقناها إليك من قبل؛ إذ جعل القضاء والإمامة من قبيل تنفيذ الحكم الشرعي، والفتوى من قبيل تعريف الحكم الشرعي.
يقول الكاتب: "لو أعطينا المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة فاحصة يتميز بها ما كان صادراً عن كل شخصية من هذه الشخصيات، لما رمى أحد سواه بالكفر والزندقة".
يرى الكاتب أن عدم إعطاء المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة تتمايز بها
هذه الشخصيات، هو السبب في رمي الأشخاص بالكفر والزندقة، والواقع أن الرمي بالكفر والزندقة قد ينشأ عن الضعف في العلم، وقد ينشأ عن هوى وضغن في النفس، وقد يقضي به الرسوخ في العلم، وقوة البصر بالحد الفاصل بين الإيمان والكفر، فالرمي بالكفر والزندقة قد يكون ظلماً، وقد يكون حقاً، وقد نظر العلماء فيما يسميه الكاتب:"شخصيات الرسول"، وميزوا ما كان صادراً عن كل شخصية منها، وما زال الناس يرمون الأشخاص بالكفر والزندقة، مرة بالحق، ومرة بالباطل، وإذا أراد الكاتب من إلقاء نظرة على المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تمييزاً لتلك الشخصيات غير تمييز أهل العلم، وترتيب آثار غير الآثار التي رتبوها عليها، فما يدرينا أن باب الرمي بالكفر والزندقة سيغلق، أو سيفتح بجانبه باب آخر أو أبواب؟.
وقال كاتب المقال في هذه الجمل: "لو ميزنا ما كان صادراً عن كل شخصية، لعلم الجميع ما هو شرع دائم عام لا سبيل إلى مخالفته أو الخروج عنه، وما هو تشريع خاص أو مؤقت لهم أن يتصرفوا فيه بما تقضي به المصلحة".
لعلك أيها القارئ الكريم تذكر أن الكاتب قال في حديثه عما يصدر عنه عليه الصلاة والسلام بشخصية الرسول: "والمسلمون مكلفون به كما تلقوه عنه في عمومه أو خصوصه، وفي دوامه أو توقيته"، ولكنه هنا رتب معرفة ما هو شرع دائم عام، وما هو تشريع خاص أو مؤقت على تمييز ما كان صادراً عن كل شخصية! وظاهر من كلامه هنا أنه يريد بالشرع الدائم: ما كان صادراً عن وحي، ولهذا قال: لا سبيل إلى مخالفته، أو الخروج عنه، ويريد بما هو تشريع خاص أو مؤقت: ما كان صادراً عن الإمامة أو الفتوى أو القضاء؛ لأن
التصرف بالشخصيات الثلاثة في رأيه من قبيل الاجتهاد الذي قام به بحق بشريته، وهو على ما قاله قد يجتهد، ويسكت عنه الوحي فلا يتعرض له بتصويب، ولا تخطئة، فلغيره من الناس أن يتصرفوا فيما اجتهد فيه بما تقضي به المصلحة، وبما توحي به الظروف والأحوال.
والصواب ما حررناه فيما سلف من أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر بشيء، أو نهى عن شيء، أو قال: هذا حلال، أو هذا حرام، سواء كان هذا القول صادراً على وجه التبليغ أو الفتوى أو القضاء، فهو شرع دائم عام ما دامت أسباب الحكم قائمة، وشروطه متوفرة، فإن فقد السبب أو الشرط الذي ربط به الحكم، صار مناط الحكم واقعة أخرى، فيصبح للمجتهد الراسخ في أصول الشريعة، المتفقه في مقاصدها أن يستنبط للواقعة حكماً يناسبها، وقد حدثناك عن الإمامة، وأريناك وجه ارتباطها بالشريعة، وأن التصرف بها تنفيذ للسياسة التي رسم الوحي حدودها، وأقام قواعدها.
ورأى كاتب المقال في هذه الجمل أن إعطاء المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة فاحصة يتميز بها ما كان صادراً عن كل شخصية من هذه الشخصيات، يسهل على المسلمين أن يتفاهموا فيما شجر بينهم من خلاف، ثم قال:
"لو فعلنا ذلك، لما أبقينا على أسباب هذا الخلاف والتناكر بين أفراد الأمة وطوائفها، ولرجعنا إلى كلمة سواء في العبادات والمعاملات، والآداب والنظم الاجتماعية، وسائر شؤون الحياة، ولانتفع الناس بشرع الله ودينه، ولكنّا كما يريد خير أمة أخرجت للناس".
ادعى الكاتب أن التمييز بين الشخصيات الأربع يقضي على أسباب
الخلاف والتناكر بين أفراد الأمة وطوائفها، ويرجع بها إلى كلمة سواء في العبادات وسائر شؤون الحياة، ونحن نقول: قد فعل أهل العلم ذلك، ونظروا في المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وميزوا على ضوء العلم الراسخ ما كان صادراً عن كل شخصية من هذه الشخصيات، ورتبوا على كل شخصية أثرها، ولم يقضوا بما فعلوا على أسباب الخلاف والتناكر، ولم يرجعوا إلى كلمة سواء في العبادات والمعاملات، ذلك أن أسباب الخلاف في الأصول والفروع لا تنحصر في عدم تمييز نواحي تصرفه عليه الصلاة والسلام، وقد بحث الفقهاء عن أسباب الخلاف، وكشفوا عنها الغطاء، فذكروا أشياء غير عدم تمييز ما كان صادراً عن كل شخصية من تلك الشخصيات؛ كالاشتراك الواقع في الألفاظ، واختلاف الرواية، ودعوى النسخ، وتعدد الصفات المحتملة لأن تكون علة مناسبة للحكم.
ولو ذكر لنا الكاتب في صراحة وتفصيل وجوه تمييز ما كان صادراً عن كل شخصية من هذه الشخصيات، لعلنا نرى الرمي بالكفر والزندقة: كيف شمر أذياله، ولاذ بالفرار، ونرى الناس على تفاوت أنظارهم، واختلاف مذاهبهم يتصافحون، ويُجمعون في كل مسألة تعرض لهم على قول واحد.
ولكن الذي فعله الكاتب هو أنه أقبل يخوض في اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إنه اجتهد بحق بشريته، وأخذ يقول: إنه يرجع إلى اجتهاد غيره، وإنه يرجع عن اجتهاد باجتهاد، وإن الوحي يأتي بخلاف اجتهاده، وقد يسكت فلا يعرض له بتخطئة ولا تصويب، وإنه يحكم بين الناس، وقال: "إنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم،
…
إلخ".
جمع هذه الأشياء، وضم بعضها إلى بعض؛ ليؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يخطئ في الاجتهاد، ولم يقل للناس عندما تحدث عن خطأ اجتهاده: إنه لا يقر على الخطأ.
وبعد أن وضع في أذهان قراء مقاله أن النبي عليه الصلاة والسلام يخطئ في الاجتهاد، تخلص إلى أن له أربع شخصيات: الرسالة، والفتوى، والإمامة، والقضاء، وذكر أن إمامته من قبيل رياسة المسلمين، وزعامة قوميتهم، فهو يعمل من ناحية هذه الشخصية لطبع المسلمين بطابع يمتازون به على غيرهم من الأمم كما يفعل سائر الزعماء والقواد، ورأيتم كيف حاول أن يفتح في هذه الناحية بابًا لإخراج جانب كبير من أحكام الشريعة، وذكر أن القضاء وما يجيب عنه بسرعة من الفتاوى إنما هو عن اجتهاد.
ثم إن الكاتب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بشخصية الرسول المبلغ عن الله، وقال هنالك: إن المسلمين مكلفون بما بلغه كما تلقوه عنه في عمومه وخصومه، وفي دوامه وتوقيته، ثم ذكره بشخصية الإمام، وشخصية المفتي، وشخصية القاضي، ولم يقل كما قال في شخصية التبليغ: والمسلمون مكلفون بما صدر عنه في حال الإمامة أو الفتوى أو القضاء، بل دلّ على أن هذه الوظائف جاءت من ناحية اجتهاده الذي قام به بحق بشريته، وقد رأيتموه كيف قال عند حديثه عن اجتهاده عليه الصلاة والسلام:"كما هو الشأن في المجتهدين والحكام"، وقال عند حديثه عن إمامته:"إنما هو في الشؤون البحتة التي تعرفها الأمم في كل العصور والأجيال، وينزع إليها الزعماء والقادة في القديم والحديث". وقال عند حديثه عن إفتائه عليه الصلاة والسلام: "كما يفعل سائر المجتهدين، وبالطرق التي يألفها الناس في استنباط المجهولات"، وقال عند حديثه عن قضائه عليه الصلاة والسلام:"كما يفعل سائر القضاة".
فالمسلمون إذاً غير مكلفين بما أفتى به، أو قضى به كما تلقوه عنه، ومن هنا قال صديقه العالم في الكلمة التي صدرنا بها هذا البحث:"وخلاصة ما يرمي إليه المقال (يعني مقال الشيخ محمود شلتوت): أن الذي يعد شرعاً دائمًا هو ما يرجع إلى شخصيات الرسول من العقائد وأصول الأخلاق والعبادات، وما عدا ذلك مما يرجع إلى شخصيات الإمام، أو المفتي، أو القاضي، فليس بشرع دائم، وإنما هو شرع مؤقت يمكن أن يتأثر بالاجتهاد، وأن يترك العمل به لسبب من الأسباب".
أحكام الوقائع الواردة في الكتاب والسنة دائمة ما دامت الواقعة على الوصف الذي تعلق به الحكم، أما ما لم يدل عليه لفظ قرآن أو حديث، فذلك موضع الاجتهاد، والرجوع إلى ما تقتضيه أصول الشريعة والقواعد المستمدة من نصوصها.
ولم يأت صديق الشيخ شلتوت ولو بشبهة على هذا الغرض الذي كان أصْرح فيه من غيره، وهو أن الشرع الدائم ما يرجع إلى العقائد والأخلاق والعبادات، وما عدا ذلك، فإنما هو شرع مؤقت يمكن ترك العمل به لسبب من الأسباب.
وما رأي صديق الشيخ في آيات القرآن المجيد التي نزلت في إقامة الحدود، وأحكام المعاملات؟ أهي من قبيل الشرع الدائم، أو من قبيل الشرع المؤقت؟ فإن قال: هي من قبيل الشرع الدائم، قلنا: لماذا لا تكون أحكام المعاملات التي تجيء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم شرعاً دائماً، وقد قال الله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]؟ فإن قال: لأنه يجتهد، قلنا: قد أقمنا الدليل على أنه لا يقرر حكماً شرعياً عن اجتهاد خطأ،
ويقر على هذا الخطأ. وإن قال: إن تلك الآيات من قبيل الشرع المؤقت، قلنا له: لم يقل منزل القرآن، وهو علام الغيوب، أو من وكل إليه بيان القرآن، وهو الرسول الأمين: إنها أحكام مؤقتة، وعموم الشريعة وخلودها يقتضي أنها دائمة، وعلى ذلك انعقد إجماع المسلمين بعد أن فحصوا عن أسرارها، واستبانوا حكمتها.
وقد اعترف صديق الشيخ في مقاله بأن تقسيم التشريع إلى دائم ومؤقت "أمر جديد لم يظهر إلا في عصرنا"، وإذا صرفنا النظر عن الأهواء الطائشة، والأذواق السقيمة، والنفوس المتسرعة إلى التقليد في غير رشد، لم يعترضنا في التشريع الإِسلامي مشاكل، ولم تقم أمامنا عقبة كبيرة ولا صغيرة في سبيل العمل لسد حاجات المسلمين في هذا العصر، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.