الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة
(1)
هذه الآية الكريمة من جوامع الكلم التي تحمل تحت ألفاظها القليلة معاني جميلة غزيرة؛ فقد أرشدت إلى الاقتداء برسول الله - صلوات الله وسلامه عليه -، وأومات إلى أنه أقوم الخليفة منهجاً، وأشرفهم حالاً، وأطيبهم كلماً، وأفضلهم أعمالاً.
وإذا نظرنا إلى ما كان عليه من صفات الشرف وأفعال الحمد، وجدناها على قسمين: قسم لا يدخل في الأمر بالاقتداء به فيه، إما لكونه غير داخل في اختيار الإنسان، وإنما هو موهبة من الخالق -جلَّ شأنه-؛ كجمال طلعته، وشرف نسبه، ويراعة بيانه، وإما لكونه معدوداً في خصائصه؛ كجمعه بين تسع زوجات، وإما لكونه عائداً إلى أمر الجبلَّة أو العادة، ولم يظهر فيه معنى التشريع؛ نحو: جلوسه، أو وقوفه في بعض الأمكنة، وتناوله لبعض المطعومات، وامتناعه من تناول بعضها؛ كما امتنع من أكل الضب، وقال:"ليس بحرام، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه". ففعْله عليه الصلاة والسلام لما كان من هذا القبيل - وإن دل على الإباحة - لا يدخل فيما يطلب التأسي فيه، ولا يتناوله قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الثالث عشر. الصادر في رجب 1359 هـ أغسطس 1940 م.
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].فالمقصود في الآية: التأسي به صلى الله عليه وسلم في الأحوال والأفعال الاختيارية غير الجبلية والعادية، وغير ما قام الدليل الواضح على أنه من خصائصه.
نتأسى به عليه الصلاة والسلام فيما كان يتقرب به إلى الخالق من العبادات، وهذا يقتضي البحث عن العبادات التي كان يؤديها تقرباً إلى الخالق تعالى؛ مثل: الصلوات، والصيام، والحج، والأذكار؛ حتى نتبين كيفيتها، وأوقاتها، ومبلغ اجتهاده في القيام بها، وبهذا يسلم الرجل من أن ينحدر في البدع، أو يضع العبادة في غير وقتها، أو يقع في حرج التنطع (1) في الدين.
فالبدع إنما دخلت في الدين على أيدي قوم لم يدرسوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم دراسة تكسبهم تمييز فاسد العبادات من صحيحها.
ويتأسى به - صلوات الله وسلامه عليه - في احتماله لما كان يصيبه من صروف الأقدار، وتلقيه لها بصبر تتزلزل الجبال الرواسي ولا يتزلزل، وقد اقتدى به المستقيمون من المؤمنين في هذا الخلق العظيم، فيتلقون الخطوب من نحو: فَقْد المال، أو موت الولد بمتانة عزم، ورسوخ في الصبر، وقد عرفت أستاذاً في تونس يقال له: الشيخ محمد بن عيسى، توفي له ولده الوحيد البالغ سن العشرين، فتركه مسجًّى في المنزل، وجاء على عادته لإقراء درس في الأصول بين المغرب والعشاء (2)، وبعد أن أتم الدرس، قال للطلاب: إن أخاكم فلاناً قد توفي، وغداً صباحاً تشيع جنازته.
(1) التشدد.
(2)
في جامع الزيتونة.
ويتأسى به عليه الصلاة والسلام في احتماله لما كان يلاقيه في سبيل الدعوة إلى الحق من العناء والمكاره؛ كما لاقى من المشركين في مكة أذى كثيراً، ولم يفلَّ ذلك من عزمه فتيلًا. وانظر ماذا ناله في واقعة أحد؛ من شج وجهه، وكسر رباعيته، وجرح شفته السفلى، حتى صلّى الظهر من الجراح التي أصابته قاعداً، ومن الغد نادى بطلب العدو، وقال:"لا يخرج معنا إلا أحد حضر بالأمس". ودرسُ هذه الناحية من سيرته السنية، يرفع همم علماء الدين ودعاة الإصلاح عن التملق لأولي الأمر، ومجاراة أهوائهم الجامحة عن قصد السبيل؛ إذ يجعل رضا الله، وظهور الحق والفضيلة، هما الغاية التي يعملون لها في حياتهم، فلا ييالون سوء العذاب، أو العزل من المناصب الذي ينذرهم به المستبدون الظالمون.
غضب أحد أمراء تونس على أحد علمائها، فقال له: عزلتك من الإمامة والفتوى والتدريس، فقال له العالم: بقيت لي وظيفة لا تستطيع أن تعزلني منها أنت ولا غيرك، هي مكانتي العلمية، وهذه المكانة أعزّ لدي من كل وظيفة.
وظهر لرئيس محكمة أهلية في عهد وزارة (نوبار باشا) الأرمني كشفُ وجه امرأة من المخدَّرات، فامتنعت عن الإسفار؛ محتجة بعدم إباحته في الشريعة الغراء، واستفتى الشيخ محمد العباسي المهدي شيخ الأزهر والمفتي الأكبر لذلك العهد، فأفتى بعدم الجواز، وشدد في المسألة، فسعى (نوبار باشا) في عزل الشيخ المهدي قائلاً: إن الشيخ أصبح عقبة أمام القضاة معارضاً لأحكام القضاء، ولما فهم الشيخ المهدي أن مساعي (نوبار باشا) قد أصبح لها أثر، استقال من مشيخة الأزهر والفتوى في مجلس واحد
غير آسف عليهما (1).
ويتأسى به عليه الصلاة والسلام في صلته بالأفراد والجماعات، ومعاملته لهم؛ من نحو: الرفق بهم، والإحسان إليهم، ودعوتهم إلى الحق، وإرشادهم إلى وجوه الخير، وسبل السعادة، ومعاقبة الجناة على قدر جناياتهم، ودرس هذه الناحية من سيرته الطاهرة يفتح أمام الناظر الطريق التي يتوسل بها إلى امتلاك قلوب فضلاء الناس على اختلاف طبقاتهم، وتباين مواطنهم، بل يفتح أمامه الطرق التي تعرف بها كيف يسوس النفوس الواقعة في أسر الشهوات، ويعيدها إلى سيرة الطهر والعفاف؛ إذ يجد الناظر في حكمة أساليب دعوته، وحسن معاملته حتى لخصوم دينه، معالم لا ينجح صاحب دعوة صادقة إلا أن يهتدي بها.
ويتأسى به - صلوات الله عليه - في احتماله الأذى من الناس، ومقابلته بالعفو، وهو قادر على مقابلته بالانتقام. ومن درس هذه الناحية في السيرة، عرف أن لحلمه وعفوه عليه الصلاة والسلام مواضع، ولأخذه بالحزم مواضع. وقد أشارت عائشة رضي الله عنها إلى ذلك بقولها:
"وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله عز وجل" وفي. رواية: "إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل ".
وصفوة المقال: أن هذه الآية أرشدت إلى التأسي بأفضل الخليقة - صلوات الله وسلامه عليه-، وهذا يقتضي البحث عن سيرته، وفي البحث عن سيرته مرقاة إلى معرفة خصال الشرف الإنساني، وصالح الأعمال التي يعرج بها الإنسان إلى الحياة الطيبة في الأولى والآخرة.
(1) كتاب "تراجم أعيان القرن الثالث" للمرحوم أحمد تيمور باشا (ص 75).