الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعجزات الكونية
(1)
نحتفل بذكرى مولد أفضل الخليفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جرت عادة المحتفلين بهذه الذكرى الطيبة أن يتحدثوا عن سيرته الزاهرة، أو دلائل صدق رسالته الشاملة الخالدة، أو عما أفاضته على العالم من هداية وإصلاح، ولو كان في وقت سعة، لأرسلنا القول في كل ناحية من هذه النواحي الثلاث، فنزداد يقينًا بأن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم أكمل من كل سيرة، وأن دلائل نبوته أوفر من دلائل كل نبوة، وأن آثار دعوته أوسع مدى من آثار كل دعوة، فأكتفي بكلمة موجزة أخص بها ناحية من نواحي دلائل رسالته، وهي آيات نبوته الكونية، فأقول:
ترجع دلائل رسالة المصطفى - صلوات الله عليه - إلى أربعة وجوه: القرآن المجيد - وبشارة الرسل والأنبياء من قبله ببعثته - وسيرته البالغة في الكمال حداً تقف دونه سيرة كل عظيم - وخوارق عادات هي من جنس المعجزات على صدق الرسالة من وجوه كثيرة.
ومن هذه الوجوه: ما يوجد في بعض آياته؛ كإخباره عن أمور مستقبلة، ووقوعه على نحو ما أخبر به.
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن العاشر والحادي عشر من المجلد الخامس عشر والصادران في ربيع الثاني وجمادى الأولى 1362 هـ.
ومنها: ما يوجد في كل سورة، أو ما يكون بمقدار سورة، وهو بيانه البديع، وأسلوبه الرائع، ونظمه الحكيم.
وأما بشارات الأنبياء، فقد أخبرت التوراة والإنجيل بمجيء رسول عظيم، ووصفت هذا الرسول العظيم بصفات لا تنطبق إلا على حال محمد - صلوات الله عليه -، ونبه لهذا قوله تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157].
وأما سيرته، فقد بلغت من الكمال حداً لا تبلغه سيرة من يطلب الكمال بنفسه، ولو فاق الناس عبقرية، وقضى في تلقي الحكمة العشرات من السنين، وإلى هذا يشير حسان رضي الله عنه بقوله:
لو لم تكن فيه آيات مبينةٌ
…
كانت بديهته تأتيك بالخبر
وأما دلائل نبوته من خوارق العادات، فقد ورد منها في الأحاديث الصحيحة وقائع كثيرة؛ كنبع الماء من بين أصابعه الشريفة، وتكثير الطعام القليل، وإشباعه نحواً من سبعين أو ثمانين رجلاً. وانشقاق القمر حتى رآه المشركون بمكة رأي العين، وحنين الجذع الذي كان يخطب عليه عندما اتخذه عليه الصلاة والسلام منبراً.
وقد ظهر في هذا العصر إنكار هذا النوع من دلائل النبوة، وممن سبق إلى إنكاره طائفة القاديانية اللاهورية؛ فإنا نرى زعيمهم محمد علي الذي ألَّف ترجمة القرآن إلى اللغة الإنكليزية، يأتي إلى كل معجزة يقصها الله تعالى في أنباء الرسل عليهم السلام ويعلق عليها بآخر الصحيفة متأولاً لها على وجه يخرجها عن أن تكون معجزة. ونحا بعض الكاتبين في مصر
هذا النحو من تأويل آيات المعجزات، وخف على آخرين أن يتكلموا في الدين بآراء لا تمت إلى أصوله الصحيحة بصلة، فأنكروا الأحاديث المتضمنة لبعض خوارق من عادات جرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم دون أن ينقدوها بقوانين علم الحديث، أو قوانين المنطق السليم.
ولمنكري المعجزات وخوارق العادات شبهتان:
إحداهما: أن الله تعالى وضع هذا الكون على سنن لا تتبدل، وربط أسبابه بمسبباته ربطاً لا يتغير، وربما استشهدوا على هذا بقوله تعالى:{وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62].
ويرد هذا: بأن الذي خلق الأسباب والمسببات، وعقد بينهما رابطة السببية والمسببية، هو الفعال لما يريد سبحانه وتعالى فله أن ينزع من بعض الأسباب وجه سببيتها؛ كأن ينزع من النار حرارتها التي كانت سبباً في الإحراق، وله أن يخلق سبباً آخر يخفى عن أعين الناس، ويظهر له مثل أثر السبب المعروف في العادة؛ كأن يخلق في العصا ما يكون سبباً لانقلابها ثعباناً، كما خلق في ماء الرجل ما يكون سبباً لتحول ذلك الماء حيواناً.
وإذا لم ير الفيلسوف سبباً تخلف عن سببه، أو لم ير سبباً لم يترتب عليه مسببه، فعدم رؤيته لذلك لا يدل على عدم إمكانه، فتخلف المسببات عن أسبابها الظاهرة، أو وجود المسببات مع فقدان أسبابها، هو في مرتبة الإمكان لا محالة، وإذا كان ممكناً في نفسه، وورد الخبر الصادق بوقوعه، أصبح الاعتقاد به ضربة لازب، ولم يكن لمنكره من الأدلة النظرية ولي ولا نصير.
وأما قوله تعالى: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} ، فحق لا غبار عليه،
وسنن الله منها ما عرفه الناس، ومنها ما لم يعرفوه، وإذا وقعت واقعة غريبة عند تحدي النبي لقومه، فهي جارية على سنة، ولكنها سنة خفية لا يعلمها البشر، ولا يستطيعون أن يأتوا بمثلها، ومن هنا كانت هذه الواقعة الغريبة علامة على أن هذا الداعي مبلغ عن الله.
وأخرى الشبهتين: أن العلوم في هذا العهد قد كشفت عن أسرار أمور كانت تُظن من خوارق العادات، فلو بلغ العلم بصاحبه أن يأتي بأشياء هي من أمثال ما كان يعد خارقًا للعادة، لم يبق ذلك الذي صدر على وجه التحدي معجزة.
وتدفع هذه الشبهة: بأن من معجزات الرسل عليهم السلام ما لم يصل إليه العلم، ولن يصل؛ كإحياء الموتى وإبراء الأكمه، ونبع الماء الحقيقي من بين أصابم الإنسان، وإذا وجد من المعجزات التي جرت على أيدي الرسل ما يمكن الوصول إلى مثله من طريق الفن؛ كما يدعى من الإخبار عن بعض الأشياء الغائبة، وكما ظهر من قطع المسافة البعيدة في وقت قريب، فإن أمثال هذه الأشياء نجدها قد صدرت عن الرسول مضمومة إلى معجزة أخرى لا يصل إليها العلم. ثم إن الفرق بين ما وقع عند التحدي، وما وقع من طريق الفن: أن الأول وقع بإذن الله من غير أن يكون للرسول فيه عمل، أما الثاني، فإنما يقع بعد اتخاذ الوسائل الفنية.
هذا هو الفرق بين ما كان معجزة، وما كان أثر حركة فنية، فما يذكره الله تعالى في كتابه الحكيم من هذا النوع من المعجزات إنما هو أمر واقع بإذنه تعالى من غير أن يكون للرسول فيه أثر؛ كما قال تعالى:{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12].
وأذكر أني كنت في الآستانة سنة 1231 نازلاً بدار المرحوم خالي الشيخ محمد المكي بن عزوز أستاذ علم الحديث بدار الفنون، فعاد من الدرس يوماً، وأخبرني أنه كان مع طائفة من المدرسين في غرفة ناظر المدرسة، فجرى ذكر هذه الآية الكريمة، فنسب بعض الحاضرين إلى سليمان عليه السلام العلم بفن الطيران، فقال له الناظر - وكان من الأتراك المؤمنين المستنيرين بهدى الله -:"تلك معجزة".
أما الذين أنكروا أن يكون للنبي- صلى الله عليه وسلم معجزة غير القرآن، فشبهتهم قوله تعالى:{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]، وقوله تعالى:{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 50 - 51].
وليس في هاتين الآيتين ما يثير إشكالاً؛ فإن كفار قريش كانوا يقترحون على النبي صلى الله عليه وسلم آيات يصفونها، وإنما يقترحونها على وجه التعنت؛ مثل: الآيات التي حكاها الله عنهم في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 90 - 93].
وذكر تعالى في جوابهم: أنه لا يرسل هذه الآيات التي اقترحوها تعنتاً؛ حيث علم أنهم سيلاقونها بالتكذيب، ودل على هذا: بأن قوماً يماثلونهم في طبائعهم النفسية قد أرسلت لهم آيات من جنس الآيات التي يقترحها
المشركون، وكانوا مطبوعين على التعنت، فتلقوها بالتكذيب، فقال تعالى:{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]. فهذه الآية تفهم على معنى أن الأولين قد كذبوا بآيات من جنس الآيات التي اقترحها هؤلاء الآخرون، فكان تكذيبهم كأنموذج لتكذيب أمثالهم المتعنتين من كفار قريش للآيات التي اقترحوها لو وقعت.
وأما الآية الثانية، فإن كفار قريش قالوا على وجه التعنت أيضاً:{لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [يونس: 20]. ولما كان المقصود من إنزال الآيات: توجيه النفوس إلى الإيمان بصدق الرسول من طريق الاستدلال، كان الأمر في اختيار الآيات يرجع إلى مشيئته تعالى؛ إذ هو العالم بما يوافق حكمة الدعوة، ويكفي في دلالة النفوس غير المتعنتة على أن دعوة الرسول حق، فقال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} [العنكبوت: 50]. وقد أراهم آيات كافية في الدلالة على أن محمداً رسول حق، فلو كان قصدهم الوصول إلى الحق، لاكتفوا بها، ولما كان القرآن الحكيم أعظم هذه الآيات وأوضحها دلالة، وأبقاها نصب أعينهم، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51].
وخلاصة هذه الكلمة: أن من دلائل النبوة خوارقَ عادات جرت على يد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اشتملت كتب السنة الصحيحة على نصيب منها، ولو سلمنا أن حديث كل واحد منها لم يبلغ حد التواتر، فإن مجموعها قد بلغ هذا الحد بلا ريب.