الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
دلائل نبوته:
الكلام في دلائل نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم خوض في بحر لا يصل فيه الكاتب إلى شاطئ، فليس في استطاعتي استيعابها، ولا الإلمام بمعظمها. وغاية ما يسعني في هذا المقام: أن أسوق منها طائفة إذا اتصلت بعقول سليمة، لم ياخذها ريب في أنه عليه الصلاة والسلام رسول رب العالمين.
لدلائل نبوته عليه الصلاة والسلام أصول، هي:
القرآن الكريم
، ثم بشارات الأنبياء والرسل به من قبل ظهوره، ثم سيرته التي لا تقاس بكمال بسيرة، ثم ما جرى في حضرته من المعجزات المحسوسة.
* القرآن الكريم:
نزل القرآن الكريم على النبي صلى الله عليه وسلم يحمل حقائق صادقة، ومعجزة باهرة.
أما الحقائق، فهي ما أرشد إليه من العقائد السليمة، والآداب النبيلة، والأحكام العادلة، والموعظة البالغة.
وأما المعجزة، فهي ارتفاعه في حكمة المعاني، وسمو المقاصد، وفصاحة الكلم، وجودة النظم، وروعة الأسلوب، إلى مرتبة يقف دونها فطاحل البلغاء بمراحل.
ومن المعروف أن معجزات الأنبياء تجيء مناسبة لحال أقوامهم، ففي زمن موسى عليه السلام كانت الغلبة للسحر، فكانت معجزته قلب العصا ثعباناً، وذلك ما يعجز عنه كل سحّار عليم، وفي زمن عيسى عليه السلام كان التنافس في الطب، فجاء بما لا يصل إليه الأطباء، وهو: إحياء الموتى. وفي زمن خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كان التفاخر بالبلاغة وحسن البيان، فجاء بما أعجز كل خطيب مصقع، وشاعر مفلق، وهو القرآن الكريم.
والحقيقة أن دلالة القرآن على صدق من جاء به لا تقف في ناحية واحدة، بل القرآن يدل على صحة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من وجوه مختلفة، فمن هذه الوجوه: بلوغه في حسن البيان منزلة يحسها البلغاء بعقولهم وأذواقهم، ولا تنالها ألسنتهم ولا أقلامهم.
يشهد لك ببلوغه مرتبة الإعجاز: ذوقك السليم، وبصيرتك النقية، ويؤيد هذه الشهادة: أن الله تعالى قد تحدى به العرب على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88]،. وقال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]،. تحداهم بالقرآن، ونادى عليهم بالعجز عن أن يأتوا بسورة من مثله، ولم يستطع أحد منهم، وهم المجلون في حلبة البلاغة، أن يتصدى لمعارضته، ولو بمقدار سورة، بل جنحوا إلى مقابلته بالسخف من القول، ووصفه بأنه أساطير الأولين. ولما عرفوا أنه يمتلك ببلاغته النفوس، ويستولي بحكمته على القلوب، لم يكن منهم إلا أن حاولوا صرف الناس عن سماعه، وكانوا يقولون لأوليائهم:{لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
ومن مزايا القرآن: أنه لا يتناول فناً من فنون الكلام إلا أتى باللفظ الرائع، والأسلوب الفائق، وقصارى الواحد من بلغاء البشر أن يبرع في بعض فنون القول، وإذا وجه قريحته إلى فن آخر، أدركه الضعف، ولم يتجاوز فيه المنزلة المتوسطة أو السفلى.
وإذا حققت النظر في حال الخطباء والشعراء الذين يصبح كل واحد منهم علماً في الفصاحة والبلاغة يشار إليه بالبنان، لم تجد منزلتهم بعيدة من
منازل البارعين من غيرهم بعداً يبلغ بها حد الإعجاز؛ كالبعد ما بين منزلة القرآن ومنازل غيره من منثور الخطباء، ومنظوم الشعراء.
ومن وجوه دلالة القرآن على صدق النبوة المحمدية: أنه أخبر عن أمور من قَبيل الغيب، ووقعت كما أخبر. ومن المعروف في هذا القبيل قوله تعالى:{لم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 1 - 5].
وبيان هذا: أن حرباً كانت قد وقعت بين الفرس والروم، وكانت عاقبة الفوز للفرس، وكان قريش يتشيعون للفرس؛ لأنهم لا يدينون بكتاب، والمسلمون يودون انتصار الروم؛ لأنهم أهل كتاب، فنزلت الآية مخبرة أن الروم سيغلِبون الفرس في بضع سنين، والبضع في لغة العرب يستعمل في التسع فما دون. وقد وقع ما أخبر به القرآن، فعاد الروم والفرس إلى الحرب لسبع سنين من الحرب الأولى، وكان الظفر للروم. ويروى أن انتصار الروم على الفرس في هذه الحرب كان سبباً لإسلام كثير من الناس؛ لوقوعه كما أخبر القرآن.
ومن الآيات المنبئة عن أمر مستقبل: قوله تعالى خطاباً لنبيه الكريم: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]؛ فقد كان أعداؤه صلى الله عليه وسلم من المشركين وغيرهم حريصين على قتله، وكان عليه الصلاة والسلام يخرج لكل من يريد لقاءه، ويجلس مع كل من يبغي الجلوس معه، ولا تنس أن حوله منافقين يحملون له أشد البغضاء، ويتصلون به اتصال الأصحاب والأقرباء، ومع كثرة أعدائه، وتهالكهم على الكيد له، ومع ظهوره للناس في أي وقت شاؤوا، ومشيه
في الطريق والأسواق وحده، أو مع من لا يستطيع أن يدفع عن نفسه، لم تمتد إليه يد بسوء، ولم يمت إلا على فراشه، وذلك مصداق قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].
ومن وجوه دلالة القرآن على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام: ورود معانيه كلها على الوجوه المعقولة، وعدم مخالفتها للعلوم الصحيحة، وإنما كان محمد صلى الله عليه وسلم أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجتمع بذي علم أو فلسفة، فلو لم يكن القرآن من الله حقاً، لوجد في كثير من آياته ما تنكره العقول السليمة، ووجد في كثير من آياته ما يخالف الآراء المسلَّمة أو الراجحة، شأن ما يتكلم به غيره من البشر، وإن لم يكن أمياً. بل ظهر في كثير من آياته معان لم تنكشف لأهل العلم إلا منذ عهد قريب.
فانظر إلى قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس: 36]؛ العلم الحديث أن في كل نبات ذكراً وأنثى.
ثم انظر إلى قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [لحجر: 22]؛ فقد ثبت في علم النبات أن الرياح تنقل اللقاح إلى عضو التأنيث من النبات.
واعتبر في قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 3 - 4]، فالآية مسوقة للرد على من أنكر جمع العظام بعد بلاها وتفرقها، على معنى إنكار إعادة الشخص بعينه. ووجه تخصيص البنان بالذكر مطابق لما أثبته العلم من أن لبنان كل إنسان هيئة خاصة لا تماثلها هيئة بنان إنسان آخر من كل وجه.
ومن نظر إلى أن محمداً صلى الله عليه وسلم نشا في أمية، ثم أمعن النظر في قوة أدلة