الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إبادته للأصنام صلى الله عليه وسلم
- (1)
كان العرب على ملة إبراهيم عليه السلام، ثم دخلهم الشرك، ومن المعروف في التاريخ أن أول من غيَّر دين إبراهيم، وزَّين للعرب عبادة الأصنام عمرو بن لحي بن عامر، وسبب ذلك -فيما يقال-: أنه دخل مدينة البلقاء من أرض الشام، فرأى قوماً يعبدون الأصنام، ويقولون: هذه أرباب نتخذها، نستنصر بها فننصر، ونستسقي بها فنسقى، وكل من سألها يعطى. فطلب صنماً يدعونه:"هبل"، فسار به إلى مكة، ونصبه على الكعبة، ودعا الناس إلى تعظيمه وعبادته، ففعلوا.
تفشت في العرب عبادة الأوثان، فأقاموا في جوف الكعبة تماثيل، وكان أعظمها عندهم الصنم المسمى بهبل، ووضعوا حول الكعبة نحو ستين وثلاث مئة نصب (على عدد أيام السنة)، واتخذ أهل كل دار من مكة صنماً يعبدونه في دارهم؛ زيادة على ما يعبدون من التماثيل القائمة في الكعبة، والأنصاب الموضوعة حولها.
وللعرب أصنام في غير مكة يبالغون في تعظيمها نحو: "اللات"(2)،
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" الجزء التاسع من المجلد الثامن - ربيع الأول 1355 هـ.
(2)
صنم لثقيف.
و"العزَّي"(1)، و"مناة"(2)، و"فلس"(3)، و"نهم"(4)، و"ذي الخلصة"(5)، و"الأقيصر"(6)، و"ذي الكفين"(7)، و"ذي الشرى"(8)، و"رضا"(9)، و"عميانس"(10).
ومن أصنامهم: "ود"، وسواع"، و"يغوث"، و"يعوق"، و"نسر" (11).
وقد ذكر القرآن الكريم هذه الأصنام في الحديث عن قوم نوح عليه السلام.
ويروى عن ابن عباس رضي الله عنه: أن هذه الأصنام كانت لقوم نوح، ثم انتقلت إلى العرب من بعدهم، ومن المحتمل أن تكون أسماء هذه الأصنام قد بقيت إلى ما بعد نوح، ثم اتخذ العرب أصناماً، وسمّوها بهذه الأسماء.
(1) سمرة كانت لغطفان.
(2)
كان منصوباً على ساحل البحر بقديد "بين مكة والمدينة"، وأشد تعظيماً له الأوس والخزرج.
(3)
صنم لمزينة.
(4)
بضم النون وسكون الهاء.
(5)
صنم لدوس وخثعم وبجيلة.
(6)
صنم لقضاعة ولخم وأهل الشام.
(7)
كان لأوس أيضاً.
(8)
صنم لدوس أيضاً.
(9)
بيت صنم لربيعة.
(10)
صنم لخولان.
(11)
ود: في قبيلة كلب، وسواع: في قبيلة هذيل، ويغوث: في قبيلة مراد، ويعوق: في قبيلة همدان، ونسر: في قبيلة آل ذي الكلاع.
ومن هذه المعبودات ما يتخذونه من بعض الأحجار النفيسة؛ كهبل؛ فإنه كان من عقيق على صورة إنسان، ويقال: إن قريشاً أدركته مكسور اليد اليمنى، فجعلوا له يداً من ذهب.
ومنها ما يتخذ من نحاس، كصنم خزاعة الذي أقاموه فوق الكعبة، ومنها ما يتخذ من حجارة؛ كمناة؛ فإنه كان صخرة مربعة، ونحو ذي الخلصة؛ فإنه كان مروة بيضاء عليها نقش كهيئة التاج، ومنها من خشب؛ كذي الكفين.
وقد يعبدون شجرة قائمة كالعزّى، فإنها كانت سمرة، أو ثلاث سمرات.
انغمس العرب في عبادة الأوثان، وكانوا يملؤون قلوبهم بتعظيمها، يزورونها، ويطو فون بها، ويسجدون لها، ويتمسَّحون بها، ويتقربون إليها بالذبائح، ولا يتعرضون لمن التجأ إليها، وقد يلبسونها القلائد، ويعلقون عليها بيض النعام؛ كما كانوا يفعلون بذي الخلصة، قال كعب بن مالك رضي الله عنه:
وننسى اللات والعزّى ووَدّاً
…
ونسلبها القلائدَ والشنوفا (1)
وكانوا يرون أن سبّها يأتي بأمراض معضلة، جاء ضمام بن ثعلبة رئيس قبيلة سعد بن بكر، فأسلم، وعاد إلى قومه داعياً إلى الإسلام، وأول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزّى، فقالوا له: مه يا ضمام، اتق البرص والجنون والجذام. قال: ويلكم! إنهما لا يضران ولا ينفعان، إن الله قد بعث رسولاً، وأنزل عليكم كتاباً استنقذكم به.
(1) جمع شنف، وهو القرط.
ويحلفون بأسمائها؛ كما قال عبد العزيز بن وديعة المزني:
إني حلفت يمين صدق برة
…
بمناة عند محل آل الخزرج
ويؤلفون أسماء أبنائهم من أسمائها بقصد التبرك بها؛ نحو: عبد العزّى، وعبد يغوث، وعبد نهم، وعبد مناف، وزيد اللات، وزيد مناة.
وقد اشتد تعلق العرب بعبادة الأوثان، وكانوا يحبونها حب المؤمن لله.
ومن شواهد إغراقهم في حبها: أن أبا أحيحة بن العاص أدركه مرض الموت، فبكى، فقيل له: أمن الموت تبكي، وهو أمر لا بد منه؟ فقال: لا، ولكني أخاف أن لا تعبد العزّى بعدي.
وقد تنبه بعض العرب قبل الإسلام لما في عبادة الأصنام من باطل، وأدركوا أن عقيدة التوحيد حق لا ريب فيه؛ كزيد بن عمرو بن نفيل، ولكنه لم يقم بدعوة تعيد - ولو طائفة من عباد الأصنام - إلى سيرة التوحيد، ذلك لأن عماية الشرك التي استحوذت على القلوب مرض مزمن لا يبرئ منه إلا حكمة يوحي بها رب العالمين إلى رسول أمين ذي خلق عظيم.
ظلت الأمة العربية تتخبط في هذه العماية، فخسرت الحياة الطيبة، وضلت سبل السعادة، حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، فجاهد في إخراجها من ظلمات الوثنية إلى عقيدة التوحيد الخالصة، فأصبحت أمة راجحة الأحلام، صافية البصائر، شديدة الثقة بالله، حقيقة بأن تحمل الهداية العامة، والإصلاح الإلهي إلى الشرق والغرب.
وقد جاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الوثنية بوسائل كثيرة، أخذ يدعو إلى الاعتقاد بأن خالق الكون ومدبِّره هو الله الواحد القهار، ويقيم البراهين على أن عبادة الأوثان من انحطاط الفكر، وسفاهة الرأي. يقول هذا ويؤيده بالحجة، ويذكر
بما قصه القرآن من أنباء الأقوام الذين كانوا يعبدون الأوثان، وبما كان يعظهم به رسلهم عليهم السلام، وبما نزل بهم من عذاب.
وكان قريش لا يزيدون في مبدأ دعوته عليه الصلاة والسلام على أن يقابلوها بشيء من الاستهزاء والسخرية، حتى سمعوه يعيب أصنامهم، فثار غضبهم، وتحفزوا لمقاومة الدعوة، وانظر إلى أولئك النفر: أبي جهل، وأبي سفيان، والوليد بن المغيرة، ومن معهم إذ جاؤوا إلى أبي طالب، وقالوا له:"إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلَّل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه". ومشوا إليه مرة ثانية، وقالوا له:"إنا والله! لا نصبر على هذا؛ من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين".
كذلك كانت سيرته صلى الله عليه وسلم بمكة، يجاهد الوثنية بالدعوة والحجة، ولم يكن قد ملك من القوة ما يمكنه من تحطيم تلك الأصنام تحطيماً يقطع دابرها. ثم هاجر -صلوات الله عليه- إلى المدينة، ولم يكن بها أو من حولها -فيما نعلم- أصناماً ظاهرة تقصد بالعبادة، وكان غزوه صلى الله عليه وسلم إما لقريش في غير موضع أصنامهم؛ كغزوتي بدر وأحد، وإما لليهود؛ كغزوتي خيبر وبني قريظة، وليس لليهود أصنام، وإما لقبائل من العرب قد ينتهي غزوهم بالرجوع عنهم حيث يجدهم بحال من لا يخشى شره.
فلا عجب أن نرى جهاد رسول الله للأصنام بالكسر والتحطيم قد ظهر عند فتح مكة، وتواصل حيث قويت شوكة الإسلام، وصارت يده فوق تلك الأصنام التي هي مبعث الوثنية في الجزيرة العربية.
ولما فتح صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة، أبى أن يدخل البيت وفيها تلك الأصنام القائمة، والصور المنقوشة على جدرانها، وأمر عمر بن الخطاب أن يخرج منها كل صنم، ويمحو كل صورة، فأخرجت الأصنام، ومحيت الصور، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم للبيت، وكبّر في نواحيه.
وفي إحدى روايات الصحيح: أنه رأى صورة إبراهيم، فدعا بماء، وجعل يمحوها، وتأويل هذه الرواية: أن هذه الصورة خفيت على من أمره بمحو الصور قبل دخوله.
ثم طاف رسول الله بالكعبة، وجعل يطعن بقضيب في يده تلك الأصنام الموضوعة حولها، ويقول:"جاء الحق وزهق الباطل، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد".
وأمر بهبل، فكسر وهو واقف، وأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يصعد إلى صنم خزاعة، وكان منصوباً فوق الكعبة، فصعد، ورمى به، وكسره.
وجاء في بعض الكتب المؤلفة في تاريخ (1) مكة: أن صورة عيسى وأمه عليهما السلام بقيت في الكعبة إلى أن هدمت في عهد ابن الزبير، والعقل يقف دون قبول هذا الخبر، ولا يجد له مساغًا، وكيف يبقي النبي صلى الله عليه وسلم صورة عيسى ومريم في الكعبة، وهو الذي ألح في محو صورة إبراهيم عليه السلام؟ ثم كيف يبقي هذه الصورة في بيت يستقبله المسلمون في اليوم خمس مرات، وهو الذي يشتد غضبه إذا رأى ستراً قائماً في بيته، وفيه صورة؟ وإذا نظرنا إلى أن عيسى ومريم عليهما السلام ممن بالغ بعض
(1)"تاريخ الأزرقي"، و"تاريخ عمر بن شبه".
الطوائف في تعظيمها إلى حدّ العبادة، ظهر لنا أن بقاء صورتيهما في الكعبة بعيد من سيرة الرسول الذي قطع كل وسيلة إلى عبادة الأوثان.
ثم بعث صلى الله عليه وسلم إلى الأصنام القائمة في بلاد العرب من يكسرها، ويهدم بيوتها، فبعث خالد بن الوليد إلى هدم العزّى، فهدمها، وقال:
يا عزّ كفرانك لا سبحانك
…
إني رأيت الله قد أهانك
وبعث المغيرة بن شعبة إلى اللات، فهدمها، وحرقها بالنار، فقال شداد ابن عارض الجشمي ينهى ثقيفاً عن العود إليها، والغضب لها:
لا تنصروا اللات إن الله مهلكها
…
وكيف نصركم من ليس ينتصر
إن التي حرقت بالنار فاشتعلت
…
ولم تقاتل لدى أحجارها هدر
إن الرسول متى ينزل بساحتكم
…
يضعن وليس بها من أهلها بشر
وبعث الطفيل بن عمرو الدوسي إلى ذي الكفين، فجعل يحثو النار في وجهه، ويحرقه ويقول:
يا ذا الكفين لست من عبادكا
…
ميلادنا أقدم من ميلادكا
إني حثوت النار في أحشائكا
وبعث علي بن أبي طالب لهدم فلس، وبعث سعيد بن عبيد الأشهلي لهدم مناة، وبعث عمرو بن العاص لهدم سواع، وبعث جرير بن عبد الله البجلي لهدم ذي الخلصة.
ومن الأصنام ما يتلفه أصحابه عندما يدخل الإيمان في قلوبهم، قدم جرير بن عبد الله البجلي المدينة، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حال من وراءه، فقال: قد أظهر الله الإسلام، وهدمت القبائل أصنامها التي كانت تعبد.
وقدم وفد خولان المدينة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"ما فعل صنم خولان الذي كانوا يعبدونه؟ "، قالوا: بدلنا الله به ما جئت به، إلا أن عجوزاً وشيخاً كبيراً كانا يتمسكان به، وإن قدمنا عليه، هدمناه - إن شاء الله تعالى -، ولما رجعوا إلى قومهم، بادروا إلى هدمه، وهذا الصنم هو الذي يسمى: عميانس.
تختلف العقول في التنبه لباطل الأصنام، والمبادرة إلى البراءة منها، فهذا سادن "نُهْم" بلغه أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وما فعل بالأصنام، فقام إلى ذلك الصنم، فكسره، وقال:
ذهبت إلى نهم لأذبح عنده
…
عقيرة نسك كالذي كنت أفعل
فقلت لنفسي حين راجعت عقلها
…
أهذا إله أبكم ليس يعقل
ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، ودخل في الإسلام.
وذلك عمرو بن الجموح: كان قد اتخذ صنماً من خشب، فلما أسلم فتيان من قومه، أخذوا الصنم، وربطوا به كلبا ميتاً، وألقوه في بئر، فخرج عمرو يبحث عن معبوده، حتى وجده في البئر مقروناً بالكلب، فقال:
والله لو كنت إلهاً لم تكن
…
أنت وكلب وسط بئر في قرن
وأسلم كما أسلم الفتيان.
وقد عرفتم كيف كسر إبراهيم عليه السلام أصنام قومه، وجعلها جذاذاً؛ ليدلهم على ضعفها، وعجزها عن دفع الأذى والمهانة عن نفسها، فزادهم ذلك طغيانًا، وأسرعوا إلى عقاب إبراهيم، وقالوا:{حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68].
وكذلك كان جهاده صلى الله عليه وسلم في هدم الأصنام، ومحو أثرها على الفور، ويأبى أن يبقي مظهراً من مظاهر الشرك بين قوم مسلمين، وهم قادرون على تحطيمه.
قدم عليه وفد ثقيف، وشرح الله صدورهم للإسلام، ولكن سألوه أن يدع لهم صنم اللات مقدار ثلاث سنين؛ مخافة أن يغضب لهدمه سفهاؤهم وبعض نسائهم، فأبى عليهم ذلك، وأرسل المغيرة بن شعبة لهدمه؛ كما ذكرنا آنفاً.
وقال راشد بن عبد الله السلمي يذكر ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه بالأصنام:
قالت هلمَّ إلى الحديث فقلت لا
…
يأبى الإله عليك والإسلام
أو ما رأيت محمداً وقبيله
…
بالفتح حين يكسر الأصنام
ورأيت نور الله أضحى ساطعاً
…
والشرك يغشى وجهه الإظلام
طهر محمد صلى الله عليه وسلم جزيرة العرب من عبادة الأوثان، وجرى أصحابه صلى الله عليه وسلم على هذه الطريقة في كل وطن نسجت فيه عناكب الشرك، فأبادوا الأصنام، وما يشبه الأصنام؛ كمعابد النار، وتفقهوا في الدين، فأخذوا في إبعاد الناس عن عقيدة الشرك بطريق الحزم، وسد الذرائع التي قد تفضي إليه، وشاهد هذا: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه أن قوماً يأتون الشجرة التي وقعت تحتها بيعة الرضوان، فيصلون عندها، فتوعدهم، ثم أمر بقطعها، فقطعت.
وإنما قطع عمر هذه الشجرة؛ خشية أن يصير الأمر إلى الجهلة، فيبالغوا في تعظيمها إلى حد الاعتقاد بأنها تنفع أو تضر، خصوصاً أن العهد بعبادة
الأشجار لا يزال قريباً.
وختام هذه الكلمة: أن الدعوة إلى التوحيد الخالص أساس كل إصلاح، فمن واجب دعاة الإصلاح أن يجاهدوا في تقويم العقائدث فإن العقائد السليمة مصدر كل خير، والعقائد الزائغة منشا كل فساد.
وإذا كان في الأنابيب حيفٌ
…
وقع الطيش في صدور الصِّعاد
* * *