الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونسيئ الجوار، ويأكل القويُ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا، وحزَمنا ما حَرم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا، وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، فلما قهرونا وظلمونا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على مَن سواك، ورجونا أن لا نظلم عندك.
فلما انتهى جعفر من هذا الخطاب، قال له النجاشي: هل عندك مما جاء به من الله شيء؟ فقرأعليه جعفر صدراً من سورة {كهيعص} [مريم: 1]، فخشع النجاشي لتلاوة القرآن (1)، وقال: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرجُ من مشكاة واحدة، ثم أقبل على عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، وقال لهما: لا أسلِّمهم إليكما، ولا يُكادون.
وكذلك تكون عاقبة الحق متى وجد عقولاً تتلقاه في أوضح صورة، وألسنة تعرضه في أصدق عبارة.
*
نصب عمرو لهم مكيدة عند النجاشي:
يبذل المبعوث في أمر جهده، وشملك للوصول إليه كل مسلك ممكن
(1) ذكر السهيلي في "الروض الأنف" قصة تدل على أن النجاشي يعرف اللغة العربية.
متى بلغ في التعلق به مبلغ من بعثوه فيه، وأشرب ما أشربته قلوبهم من الحرص عليه، فليس من الحكمة أن يعهد في إلغاء البغاء إلى من لا يبغض فاحشة البغاء، ولا أن يبعث إلى مؤتمر المسكرات من يعاقر الصهباء، ولا أن يندب للتحدث عن شريعة الإسلام من يجحد كثيراً من حقائقها، ولا أن يتولى الدفاع عن حقوق الوطن من عرف بموالاة غاصبها، وقد كان عمرو بن العاص في ذلك الوقت يشعر بشعور كفار قريش، وينظر بمثل أعينهم، ويحمل في صدره من الحقد على أولئك المهاجرين ما تحمل صدورهم، فلا عجب أن يخيب سعيه من ناحية، فيدبِّر من نفسه كيف يبلغ الغرض من ناحية أخرى.
بعد أن صرف النجاشي عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، فكَّر عمرو في مكيدة تثير سخط النجاشي على أولئك المهاجرين، وهو أن جاء من الغد، وقال له:
أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فاسألهم عما يقولون فيه.
فأرسل إليهم النجاشي ليسمع ماذا يقولون، فدخلوا عليه، فقال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟
فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.
فضرب النجاشي بيده، وأخذ عوداً ثم قال:
- والله! ما زاد عيسى على هذا، ولا هذا العود.
ثم إن النجاشي رد على عمرو بن العاص ومن معه هداياهما، فخرجا يتعثران في أذيال الخيبة، ورجعا إلى كفار قريش بخفي حنين.