الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من عظماء الرجال فقط، دون أن يكون مبعوثاً من الله هادياً ونذيراً، لما أودع في الكتاب آية:{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 1 - 10].
وقد كان لمحمد - صلوات الله عليه - أن يعتذر لابن أم مكتوم حين انصرف عنه بوجهه بأنه كان يرجو هداية أولئك الغاوين الذين تصدى لدعوتهم، وكل أصحابه يتلقون هذا العذر بقبول، ولكن الله تعالى يريد أن يعلمنا أن للنفوس الزاكية مزيداً وفضلاً على النفوس الطاغية، فليس لأحد أن يعبس في وجه نفس تطلب الخير، ملتفتاً عنها إلى نفس مضروبة في الغواية.
*
السيرة النبوية:
سنَّة الله في الخليقة: أن من تظاهر بغير ما هو واقع، وادعى لنفسه ضرباً من ضروب الكمال زوراً ورياء، فلا بدَّ أن يفتضح أمره، ولو بعد أمد، ثم لا تكون عاقبته إلا خساراً وهواناً، والشأن في فضيحته ووخامة عاقبته أن تكونا على قدر ما يدعيه لنفسه من كمال واصطفاء، ولا كمال ولا عظمة للإنسان فوف مقام الرسالة والنبوة، فمن ادعى هذا المقام، فقد ادعى أقصى ما يمكن للبشر إدراكه، وادعى أنه أقرب الناس، أو من أقربهم إلى رب العالمين.
فلو أن محمداً - صلوات الله عليه - ادعى الرسالة بغير صدق، لاستبان لمن اتبعه من ذوي العقول الكبيرة شيء مما ينقض هذه الدعوى، وقد عاش نبي الله بعد دعوى الرسالة نحواً من ثلاث وعشرين سنة، وهي مدة بالغة من الطول ما فيه كفاية لمن أراد أن ينظر في هذه الدعوى من كل ناحية، ويرقب
سيرة صاحبها؛ لعله يقف على أثر يدلّه على أنه يظهر غير ما يبطن، أو أنه يقول على الله ما لا يعلم. ومن شواهد أن سيرته عليه الصلاة والسلام كانت نقية من كل ما يخدش في دعوى الرسالة: أن أشد الناس إيماناً به، وأملأهم قلوباً بمحبته وإجلاله، هم أطول الناس صحبة له، ومن لا يكادون يفارقونه إلا قليلاً؛ كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
ليس في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم ما يدخل الريب في صحة رسالته، فسيرته من أعظم الدلائل على أنه يحمل نفساً بالغة من العظمة ما لا يبلغه الإنسان الذي يطلب العلا من نفسه، ولو بلغ من العبقرية ما بلغ، ولقن من الحكمة ما شاء أن يلقن.
نرى في محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً نهض بأمة عظيمة في نحو عشرين سنة، كانت متفرقة متشاكسة، فأصبحت متحدة متآلفة. كانت الأمم تنظر إليها بعين الازدراء، فاصبحت معزَّزة الجانب، تفتح البلاد، وتضرب على هذه الأمم بسلطانها الكريم. كانت في ظلمات من الجهل، فأصبحت في نور من العلم دون أن يجلب إليها من بلاد أجنيية، وإنما هو ذلك الرجل الناهض بها يلقي إليها الحكمة بنفسه، ويزكيها بما يتحلى به، أو بما يدعوها إليه من خصال الشرف والحمد.
نرى في محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً أقام بين هذه الأمة شريعة تقرر حقوق الأفراد والجماعات، وتشتمل بتفاصيلها وأصولها على كل ما تحتاج إليه في فصل القضايا من أحكام هي مظهر العدل والمساواة، ولم يعقد لهذه الشريعة لجنة تتألف من أشخاص درسوا قوانين بعض الأمم، وإنما هو ذلك الرجل الناهض بها، يملي عليها أحكام الوقائع، مدنية كانت أو جنائية، يمليها عليها في
الحضر والسفر، يمليها عليها في يوم السلم، أو في مواطن القتال.
نرى من محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً يستخف بأشياع الباطل، ولا تأخذه الرهبة من كثرة عددهم، ووفر أموالهم، فيلاقيهم بالفئة القليلة، ويفوز عليهم فوزاً عظيماً، ولم يكن بالرئيس الذي يبعث بالجيش إلى مواقع القتال، ويقعد خلافهم حذراً من الموت، بل ترونه يقود الجند، ويدبر أمر القتال بنفسه، ويقابل الأعداء بوجهه، ولا يولّيهم ظهره، وإن تزلزل موقف جنده، وانصرفوا من حوله جميعاً.
نرى من محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً يصرف عنايته في تزكية الأمة، وتدبير شؤونها، والقيام بجهاد عدو هاجم، أو عدو متحفز للهجوم، ولم تشغله هذه الأعمال الخطيرة عن أن يقوم الليل قانتاً لله متهجداً، ثم يملأ جانباً من النهار في عبادة ربه متطوعاً.
نرى من محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً زاهداً في متاع هذه الحياة، ولو كان للشهوات عليه من سبيل، لذهبت به في ابتغاء العيش الناعم مذهبَ أولئك الذين يتظاهرون بالزهد إذا لم يجدوا، حتى إذا ما أيسروا، ورأوا زهرة الحياة الدنيا طوعَ أيمانهم، خلعوا ثوب الزهد، وتحولوا إلى طبيعة الشره كثيراً أو قليلاً.
أما تعدد زوجاته عليه الصلاة والسلام، فقد كان لمصالح جليلة، ومقاصد نبيلة، ندع تفصيل القول فيها إلى محاضرة أخرى.
وهل في ميسور ذلك البائس (1) الذي يجحد عظمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يدلنا على رجل ألَّف بين أمة متفرقة، ثم أفاض عليها حكمة بالغة، وأقام فيها
(1) المقصود: علي عبد الرازق - انظر: الرد على مقالة (العظمة) في هذا الكتاب.