الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاحتفال بذكرى الهجرة النبوية
(1)
أيها السادة!
نحتفل الليلة بذكرى قصة خطيرة، كان لها أثر عظيم في إصلاح العالم، وإخراجه من ظلمات الجهالة إلى نور العلم، ومن الهمجية القاتمة إلى المدنية الزاهرة، وهذه القصة هي هجرة الرسول الأعظم - صلوات الله عليه - من مكة المكرمة إلى طيبة الغراء.
بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مشركي قريش، وقد ملئت صدورهم غواية، ولبسوا من تقليد آبائهم الضالين سرابيل غليظة خشنة، فقام يدعو إلى نبذ عبادة الأوثان، والعود إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهي التوحيد الخالص، ويهديهم سبيل العمل الصالح. فقاموا في وجه هذه الدعوة الصادقة يصدون عن سبيلها، ويبالغون في إيذاء من يتقبلها، فكانت مناوأتهم لها، وبذل الجهد في صرف الناس عن قبولها، من أسباب قلة انتشار الإسلام وظهوره أيام مقامه صلى الله عليه وسلم بأرض مكة، والآذان التي تألف دعوة الحق لأول ما تطرقها، أو الفطر السليمة التي تعرف من لهجة صاحبها أنه محق، ليس بكثير.
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الثامن من المجلد الثاني عشر الصادر في شهر صفر 1359 - مارس 1940.
وما زال المشركون يحاولون أن يطفئوا نور هذه الدعوة النبوية، ويبسطون ألسنتهم وأيديهم في إيذاء معتنقها، أو المتقبل لها، حتى وفق الله تعالى وفوداً من الأوس والخزرج لقبولها، ومبايعة النبي عليه الصلاة والسلام على أن يكونوا أنصاره إلى الله، وعند هذا أذن الله لنبيه الكريم وأصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة.
لم يرض النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر قبل أصحابه، ويدعهم يقاسون عذاب المشركين ألواناً، بل أمرهم بالهجرة قبله، فهاجروا فرادى وأرسالًا، ونبهت لهجرتهم المشركون لما ينويه النبي الأعظم من التحول إلى المدينة، وخافوا أن يعظم هنالك أمره، وتسري دعوته في القبائل، ويقضي على وثنيتهم، فائتمر المشركون به ذلك الائتمار المشار إليه بقوله تعالى:
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، واستقر رأيهم على قتله، فما كان إلا أن تخلص عليه الصلاة والسلام من مكة مهاجراً، ودخل المدينة آمناً.
ويين خروجه من مكة، ودخوله المدينة، فروق واضحة: خرج عليه الصلاة والسلام من مكة في سواد الليل مختفياً، ودخل المدينة في بياض النهار متجلياً، وخرج من مكة وأهلها يحملون له العدواة والبغضاء، ودخل المدينة وقد استقبله المهاجرون والأنصار بقلوب ملئت سروراً بمقدمه، وابتهاجًا بلقائه، وخرج من مكة ومَنْ حوله يفكرون كيف يصلون إلى قتله، والقضاء على دعوته، ودخل المدينة ومَنْ حوله يتنافسون في الاحتفاء به، والقرب من مجلسه، وقد هيؤوا أنفسهم لفدائه بكل ما يعز عليهم.
أما فضل هذه الهجرة المباركة، فإنها آتت ثمراً طيباً، وأفاضت على
العالم خيرات تنفد الأيام ولا ينفد الحديث عنها.
فالهجرة هيأت للإسلام أن تكون له حكومة ذات سلطان غالب، وكلمة فوق كل كلمة.
والهجرة مكنت الحكومة الإسلامية أن تقضي بشرع الله الحكيم، ويالسلطان الغالب يقهر الأعداء، ويالشرع الحكيم يعيش الناس في أمن وسعادة، وكذلك كان شأن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة؛ فقد كان من القوة وتأييد الله تعالى له أن أصبحت الجزيرة العربية في بضع سنين طوع يمينه، وموضع نفاذ أمره، وأصبحت الأمة بما شرعه الله من أحكام المعاملات والجنايات، وبما أنار به النفوس من الحكم السامية، تتمتع بسياسة عادلة، وحياة زاهرة.
وإذا شئتم مثلاً واضحاً لما جاءت به الهجرة من الخير العظيم، فانظروا كيف خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرًا، وكيف دخلها فاتحًا، فما ذلك الفتح المبين إلا وليد الهجرة التي نحتفل بذكراها هذه الليلة، وبفتح مكة انكسرت شوكة خصوم الإسلام في الجزيرة، وأقبل العرب على الدخول في الدين أفواجًا، حتى تألفت أمة مسلمة رفعت راية سيادة في أقصى الشرق، وأخرى في أقصى الغرب.
وانظروا إلى القرآن المجيد إذ أشار إلى ما أنعم الله به على نبيه الكريم من النصر والتأييد، تجدوه ابتدأ بنصره وقت الهجرة، وعطف على ذلك ما اتصل بالهجرة من ظهوره على أعدائه، وبلوغ رسالته غايتها؛ من اعتلاء ذكر الحق، وانحطاط الباطل، فقال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ
تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40].
وما أصدق نظرَ عمر بن الخطاب إذ جعل سنة الهجرة مبدأ التاريخ في الإسلام، وقال:"الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها".
فإذا احتفلنا بذكرى الهجرة النبوية المباركة، فإنما نحتفل بذكرى الأساس الذي قامت عليه عزّة الإسلام وسيادته، بل نحتفل بذكرى اليوم الذي خرج فيه كوكب الإصلاح من سراره، وألقى أشعته على العالم شرقاً وغرباً، والسلام عليكم ورحمة الله.