الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ابن القيم في "زاد المعاد" على وجه آخر: هو أنه عليه الصلاة والسلام سار حتى نزل عشاء أدنى مياه بدر، فقال:"أشيروا علي في المنزل"، فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله! أنا عالم بها وبقُلُبها، إن رأيت أن نسير إلى قُلُب قد عرفناها، فهي كثيرة الماء عذبة، فننزل عليها، ونسبق القوم إليها، ونغوِّر ما سواها من المياه.
وروى ابن سعد: أن الوحي نزل على وفق ما أشار به الحباب.
فلنصرف النظر عن البحث في سند هذه القصة التي قال ابن إسحاق في سندها: فحدثت عن رجال من بني سلمة: أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر ابن الجموح قال: يا رسول الله! أرأيت هذا المنزل منزلًا أنزلكه الله
…
إلخ الرواية" ولنصرف النظر عن الوجه الذي أوردها عليه ابن القيم من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أشيروا علي في المنزل"، ولنصرف النظر عن رواية ابن سعد من أن نزول النبي عليه الصلاة والسلام بأدنى منازل القوم كان اتباعًا للوحي، ولنأخذ بالوجه الذي أوردها عليه ابن إسحاق من أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن نزل بأدنى مياه بدر أشار عليه الحباب بأن النزول بأدنى منازل القوم هو الذي تقتضيه سياسة الحرب، ولكنا نقول: ليس في هذا الوجه أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل على اجتهاد غيره في تقرير حكم شرعي، وإنما هو أمر اختيار منازل الجيش، وقد أريناك قبل أن هذا من أمور الحرب التي ترجع إلى رئيس الجيش، ومن يشق بآرائهم من أعوانه في الحرب.
*
نزول الوحي بخلاف اجتهاده:
قال كاتب المقال: "وكان يجتهد، ثم ينزل الوحي بخلاف اجتهاده، وقد يسكت عنه، فلا يعرض له بتصويب ولا تخطئه".
يقف القراء أمام هذه العبارة متسائلين؛ لماذا قال الكاتب: "وقد يسكت عنه، فلا يعرض له بتصويب ولا تخطئه" فدل على أن الوحي يسكت عنه في بعض الأوقات، ولم يدل على حال النبي صلى الله عليه وسلم عند هذا السكوت: أهو الإصابة في الاجتهاد أو الخطأ؟.
فإن قال الكاتب: أردت أن الوحي يسكت عنه في حال الإصابة، قلنا: حال الإصابة ليست في حاجة إلى أن يقال: إن الوحي يسكت عنها، ثم ما الذي دعا عضو جماعة كبار العلماء، وهو يتكلم باللغة العربية أن يعبر عن سكوت الوحي حال إصابة الاجتهاد بقوله:"وقد يسكت عنه الوحي، فلا يتعرض له بتصويب ولا تخطئة؟ ".
وإن قال: أردت أن الوحي قد يسكت عنه في حال الخطأ، قلنا: غير معقول أن يخطئ الرسول عليه الصلاة والسلام ، ويسكت عنه الوحي، وكيف يسكت عنه، وقد أمر باتباعه؟!.
والذين يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد يجتهد في الأحكام الشرعية فريقان: فريق يقولون: يجتهد، ولا يخطئ، ولا يكون اجتهاده إلا مصيباً لكبد الحقيقة، وفريق يقولون: يجتهد، وقد يخطئ ولكنه لايقَر على الخطأ، بل ينبهه الله لذلك، ولم يقل أحد: إنه يجتهد، وقد يخطئ، ويسكت عنه الوحي، بل عدم إقراره على الخطأ - لو صدر منه - مجمَع عليه.
قال الشهاب الخفاجي في "شرح الشفا" بعد أن حكى مذهب القائلين: إنه قد يخطئ، ولكنه لايقر:"وعدم الإقرار بالاجماع لوجوب اتباعه المقتضي لعصمته".
وتعرض ابن حجر لمذهب القائلين باجتهاده، واختلاف هؤلاء في أنه
يجوز عليه الخطأ، أو لا يجوز، ثم قال:"وقد اتفق الفريقان على أنه لو أخطأ في اجتهاده، لم يقر على الخطأ".
ثم أشار كاتب المقال إلى ثلاث آيات يستشهد بها على أن النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد، ثم ينزل الوحي بخلاف اجتهاده، فقال:"عاتبه الله على الإذن للمنافقين، وعلى أخذ الفداء من أسرى بدر، وعلى إعراضه عن الأعمى، فكان ذلك إيذانًا من الله بتخطئته في اجتهاده".
ونحن نحدثك عن هذه الآيات التي أشار إليها الكاتب، والوقائع التي نزلت الآيات في شأنها ليتضح لك أنه عليه الصلاة والسلام لم يجتهد في تقرير حكم شرعي، وجاء الوحي بخلاف اجتهاده، وإنما هي أفعال فعلها النبي صلى الله عليه وسلم يظن أنها الأَولى، فجاء الوحي ببيان أنها خلاف الأولى، وفي هذه الوقائع والآيات حكمة أطلعنا الله على شيء منها هو: أن العصمة لله وحده، وأن الأنبياء عليهم السلام معصومون من المعاصي كبائرها وصغائرها، وأنهم بالغون في الكمال النفسي والعملي أقصى غاية، ولكنه قد يقع منهم ما شأنه أن يبعد النفوس مما وقعت فيه بعض الطوائف من اعتقاد إلهيتهم، وأنهم مظهر من مظاهر الإله الحق، وما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم في الوقائع الثلاث يصح حمله على هذا الوجه من الحكمة، وهو وجه - فيما أحسب - جدير بالقبول، والمجتهد يقرر أصولاً يرجع في تقرير كل أصل منها إلى ماَخذ من الأدلة السمعية؛ نحو: القياس، وسد الذرائع، ومراعاة العرف، ومراعاة المصالح المرسلة، ويستنبط الأحكام من الأصول، وتسمى هذه الأحكام بالفروع، ويطبق الحكم على الحادثة الجزئية حين تعرض.
وقد يقع للمجتهد الخطأ في تقرير أصل، أو استنباط حكم، أو تطبيق
حكم على واقعة، والخطأ في تطبيق الحكم على واقعة جزئية أهون وأخف من الخطأ في استنباط حكم أو تقرير أصل، ونبني على هذا: أن الوقائع التي نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه اجتهد فيها وأخطأ، ليس في واحد منها خطأ في تقرير أصل، ولا استنباط حكم عام، إنما هي واقعة تعرض، فيطبق عليها حكم غير الحكم الذي هو أولى بها.
أما واقعة إذنه للمنافقين في التخلف، فهو أنه عليه الصلاة والسلام أُعطي الخيار في أن يأذن لمن شاء في التخلف، قال تعالى:{فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62]، ومعنى هذا الخيار: أن يأذن لمن يبدي عذراً صحيحاً، أو يبدو له أن ليس في التحاقه بالجيش مصلحة، ومن هذا القبيل إذنه للمنافقين في التخلف؛ أخذًا بالظاهر من أعذارهم، وقد أشار القرآن الكريم إلى أن خروجهم في جيش المسلمين مفسدة، قال تعالى:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47]، فالله لم يعاتبه على نفس الإذن للمنافقين، وإنما عاتبه على أنه أذن لهم في التخلف عندما اعتذروا، والأَولى تأخير الإذن لهم ريثما يتبين من كان له عذر حقيقي ممن كان اعتذاره غير صادق، ففي ظهور كذبهم في الاعتذار افتضاح أمرهم، وقطع لهم عن أن يتحدثوا فيما بينهم، أو يناجوا شياطينهم بأنهم استطاعوا أن يخادعوا الرسول عليه الصلاة والسلام، ويرضوه ببهرج أقوالهم، وقد أومأ إلى موضع العتاب: قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَم الْكَاذِبِينَ} [التوبة: 43].
وأما واقعة بدر، فمحمولة على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخيراً في الأسرى بين الفداء والقتل، فطرح مسكله أسرى بدر على بساط الشورى؛ ليتبين له
من آراء أصحابه ما هو الأقرب إلى مصلحة هذه الحرب: أهو الفداء، أم القتل؟ فرأى بعضهم القتل، وأبدى لرأيه وجهًا، ورأى بعضهم الفداء، وأبدى لرأيه وجهًا، وبدا للنبي- صلى الله عليه وسلم أن الفداء أرجح، فأقره، وأخذ به، ونزل عقب هذا قوله تعالى:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 67].
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يستشر أصحابه في تقرير حكم شرعي، وإنما يكون استشارهم في تقرير حكم شرعي لو استطلع آراءهم في حكم أسرى الحرب، وهو إنما استشارهم في أسرى هذه الواقعة؛ ليستخلص من بين آرائهم ما هو الأرجح من الأمرين اللذين خيره الله فيهما، وتعيين أحد أمور جائزة له صلى الله عليه وسلم لا يعد استنباطاً لحكم شرعي مجهول.
فالآية الكريمة وردت للتنبيه على أن الأَولى هو القتل، والعتاب فيها لم يوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة؛ كما ورد في آية:{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُم} [التوبة: 43]، بل ورد في أسلوب خطاب الجمع، فقال تعالى:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} ، وأساليب المخاطبات العربية تسيغ أن تكون هذه الكلمة موجهة إلى طائفة ممن أشاروا بالفداء، وقد خطر في نفوسهم أن ينالهم شيء منه ينتفعون به في شؤونهم الخاصة، وليس من المعقول أن يكون هذا الخاطر قد وقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، أو في نفس مثل أبي بكر رضي الله عنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم، أو أبو بكر إذا رأى أن الفداء أصلح إنما يريد من ذلك الاستعانة به في أمور الدين، ومن البعيد أن يسمى صاحب هذه الإرادة مريداً للدنيا.
وقوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]، لا يدل على أن أخذهم الفداء مخالفة تستحق العذاب
العظيم، ذلك أن استحقاق العذاب لا يتحقق إلا عند توافر أسبابه، وانتفاء موانعه، وقد دلّ قوله تعالى:{لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] على أن أسبابه لم تتحقق؛ إذ يفسر الكتاب السابق بأنه تعالى لا يعاقب على أمر إلا بعد أن يتقدمه نهي، والقوم لم يتلقوا قبل هذه الواقعة نهيًا، وقصارى ما تدل عليه الآية: أن أخذ الفداء في هذه الواقعة بالغ في مخالفة ما هو الأولى إلى درجة ما لم يمنع من العقوبة عليه إلا عدم تقدم النهي عنه.
وأما واقعة عتابه على إعراضه عن الأعمى، فهي المشار إليها بقوله تعالى:{عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 1 - 2].
والآية الكريمة تضمنت عتابه عليه الصلاة والسلام على إعراضه عن ابن أم مكتوم، ولم تدل قط على أنه أخطا في تقرير حكم شرعي؛ إذ الحكم الشرعي في مثل هذا مقرر من قبل، وهو أن لقاء الناس بطلاقة وجه، والإقبال على من يسائل، موكولان له عليه الصلاة والسلام، يأخذ بهما حسب ما تقتضيه الحال، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يخاطب وجهاء مشركي قريش، وهو يرجو أن يجيبوا دعوته، وبينما هو مجد في دعوته، أخذ ابن أم مكتوم يجاذبه الحديث، ويسائله التعليم، فكان من رسول ال صلى الله عليه وسلم أن أعرض عنه، وكره منه أن يقطع مواصلته الدعوة لأولئك المشركين، حتى بدا أثر الكراهة في وجهه، فعتابه عليه الصلاة والسلام كان على أمر فعله ابتغاء الخير، وحرصا على انتشار الدعوة، ولكن الله تعالى أراد أن يريه أن إقباله على نفس مستقيمة على الطريقة، حريصةٍ على أن تتفقه في دين الله، خيرٌ من إقباله على تلك النفوس الطافحة بالشرك، المصرة على باطلها، وأراد الله أن يذكره بهذا العتاب: أن واجبه دعوة أهل الكفر إلى الإِسلام، وليس عليه أن يدخلوا فيه،