الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الهجرة سبباً.
أحسّ زعماء قريش بهذه المبايعة ذات الأثر الخالد العظيم، وانتهى بهم الحال أن ائتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليعتقلوه، أو يقتلوه، أو يخرجوه، وقد جاء نبأ هذه المؤامرة في قوله تعالى:
أخرج كل ما في كنانته من رأي، وأجمعوا على أن يطلقوا سيوفهم تخوض في دمه الطاهر انتقاماً لأحجار ينحتونها بأيديهم، ويظلون لها من دون الله عابدين.
وأوحى الله إلى رسوله ما أوحى، فبارح مكة من حيث لا تراه أعينهم، وحل بالمدينةِ حلول القمر الزاهر في كبد السماء.
حل رسول الله بالمدينة حلول الغيث بالبلد الطيب، فإذا الحكمة تدني قطوفها، وإذا الخطب تأخذ المسامع بروعتها، وإذا صيحة الأذان تشق الجو حتى تبلغ غايتها.
وكذلك تكون عاقبة الحق حينما يشتد أعوان الباطل في إطفاء نوره، وقطع سبيله.
فإذا كان اليوم الذي خرج فيه رسول الله من مكة يوماً عابساً كثيباً، فإن اليوم الذي قدم فيه المدينة يوم مشرق الطلعة، باسم الثغر، واضح الجبين.
*
لماذا جعلت الهجرة النبوية مبدأ التاريخ في الإسلام
؟
شعر الناس في عهد الفاروق رضي الله عنه بالحاجة إلى تأريخ الرسائل وما يكتبون، فاستطلع عمر آراء ذوي الرأي منهم، فأشار بعضهم بأن يقام التاريخ على
عام البعثة؛ لأنه الحين الذي بزغ فيه كوكب الهداية والعلم. وأشار آخرون بأن يكون مبدأ التاريخ (1) عام الهجرة، فوقع اختيار عمر على هذا الرأي، وقال:"الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرخوا بها".
اختار الفاروق أن يقام التاريخ على الهجرة الشريفة، وذكر في وجه هذا الاختيار: أنها فرقت بين الحق والباطل، وهذه كلمة تومئ إلى فضل الهجرة، وما كان لها من الأثر في ظهور الإسلام، وإقبال الناس عليه جهرة لا يخشون إلا رب العالمين. كان الحق بمكة مغموراً بشغب الباطل، وكان أهل الحق في بلاء من أهل الباطل شديد، والهجرة هي التي رفعت صوت الحق على صخب الباطل، وخلصت أهل الحق من ذلك البلاء الجائر، وأوردتهم حياة عزيزة ومقاماً كريماً.
وإذا كانت البعثة مبدأ الدعوة إلى الحق، فإن الهجرة مبدأ ظهوره، والعمل به في حالتي السر والعلانية، ولا يبلغ قول الحق غايته، ويأتي بفائدته كاملة إلا أن يصبح عملاً قائماً، وسيرة متبعة، انظروا إلى عمر بن الخطاب كيف يقول لأبي موسى الأشعري في رسالة القضاء:"وإذا تبين لك الحق، فانفذ؛ فإنه لاينفع تكلم بحق لا نفاذ له".
فالهجرة راشت جناح الإسلام، فذهب يحلِّق في الآفاق ليمحو آية الضلالة، ويجعل آية الهداية مبصرة، اقرؤوا إن شئتم قوله تعالى:
{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ
(1) وهذا رأي علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه - فيما رواه الحاكم عن سعيد بن المسيب.
سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40].
فإنكم تجدون الآية الكريمة تذكر شيئاً من أمر الهجرة النبوية، وتعد في النعم الجليلة المترتبة عليها: جعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا.
علت كلمة الله حقاً، وإنما علت على كاهل تلك الدولة التي قامت بين لابتي (1) المدينة، وبسطت سلطاناً لا تستطيع يد المخالفين أن تمسه من قريب ولا من بعيد.
ومن حسنات الهجرة: تلك الأحكام المدنية، والنظم القضائية، والأصول السياسية؛ فإنها كانت تنزل بالمدينة حيث أصبح المسلمون في كثرة، وصاروا من المنعة بحيث يأخذونها بقوة، ويقومون على إجرائها يوم تنزل والناس يشهدون، ولو كان آخر عهد الوحي يشبه أوله، لم يزد الإسلام على أن يكون دعوة إلى عقائد وأخلاق، وشيء من العبادات.
فالهجرة النبوية كانت مبدأ عظمة الإسلام، ومطلع حرية الأمة الإسلامية، فإذا أقمنا لذكرها هذه الحفلة السنية، فإنما نحتفل بذكرى اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل، واليوم الذي استقل فيه المسلمون بأمرهم، ونالوا به الحرية في عبادة ربهم، وسعادة الأمة أن تسلم من كيد خصومها، وتقيم واجبات دينها، ولا تُغلب على حق من حقوقها.
(1) اللابة: الحَرّة، وهي أرض ذات حجارة نخرة سود - "القاموس".