المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العظمة (1) نود من صميم أفئدتنا أن نفرغ بأقلامنا ومحاضراتنا للعمل - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٣/ ١

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(4)«مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الإمام محمد الخضر حسين

- ‌أديان العرب قبل الإسلام

- ‌ بعثة هود عليه السلام

- ‌ بعثة صالح عليه السلام لثمود:

- ‌ دعوة صالح لثمود:

- ‌ آية نبوته:

- ‌ بعثة إسماعيل عليه السلام للعرب:

- ‌ بعثة شعيب عليه السلام إلى مَدْيَن:

- ‌ الشرك في بلاد العرب:

- ‌ عبادتهم الأصنام:

- ‌ مظاهر تعظيمهم للأصنام:

- ‌ عبادتهم لبعض الأشجار:

- ‌ عبادتهم بعض الحيوان:

- ‌ عبادتهم الكواكب:

- ‌ عبادتهم للملائكة:

- ‌ عبادتهم الجنَّ:

- ‌ عبادتهم للكواكب:

- ‌ البرهمية في العرب:

- ‌ دين الصابئة في العرب:

- ‌ المجوسية في العرب:

- ‌ الدهرية في العرب:

- ‌ اليهودية في جزيرة العرب:

- ‌ أثر اليهودية في العرب:

- ‌ النصرانية في العرب:

- ‌ الموحدون من العرب:

- ‌محمد رسول الله وخاتم النبيين

- ‌ حال العرب قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام

- ‌ نشأته عليه الصلاة والسلام وسيرته الطاهرة قبل البعثة:

- ‌ دلائل نبوته:

- ‌ القرآن الكريم

- ‌ بشارات الأنبياء والرسل به قبل مجيئه:

- ‌ سيرته:

- ‌ المعجزات المحسوسة:

- ‌ عموم بعثته عليه الصلاة والسلام

- ‌ دوام شريعته وختمه للنبوة:

- ‌ خلقه عليه الصلاة والسلام وآدابه:

- ‌ اجتهاده عليه الصلاة والسلام في عبادة ربه:

- ‌ أثر دعوته في إصلاح العالم:

- ‌صبر محمد عليه السلام ومتانة عزمه

- ‌الهجرة النبوية

- ‌ لماذا جعلت الهجرة النبوية مبدأ التاريخ في الإسلام

- ‌رفقه وحكمته البالغة في السياسة

- ‌ رفقه بمن يسيئون إليه على جهالة:

- ‌ رفقه بالمرأة:

- ‌ حكمته البالغة في السياسة:

- ‌نظرة في دلائل النبوة

- ‌ القرآن الكريم:

- ‌ بلاغته:

- ‌ السيرة النبوية:

- ‌ المعجزات المحسوسة:

- ‌عظمة رسول لله صلى الله عليه وسلم وهدايته

- ‌شجاعته عليه الصلاة والسلام

- ‌منقذ العالم من الظلمات

- ‌آداب الدعوة وحكمة أساليبها

- ‌رجاحة عقله صلى الله عليه وسلم وحكمة رأيه

- ‌هجرة الصحابة إلى الحبشة وأثرها في ظهور الإسلام

- ‌ الهجرة الأولى إلى الحبشة:

- ‌ كيف سافر المهاجرون الأولون من مكة

- ‌ اغتباط المسلمين بهجرتهم:

- ‌ خروج أبي بكر بقصد الهجرة إلى الحبشة:

- ‌ سعي قريش في رجوع أولئك المهاجرين:

- ‌ دعوة النجاشي الصحابة وسؤالهم:

- ‌ نصب عمرو لهم مكيدة عند النجاشي:

- ‌ رجوع المهاجرين إلى مكة:

- ‌ الهجرة الثانية إلى الحبشة:

- ‌ هجرة الأشعريين إلى الحبشة:

- ‌ رجوع فريق من مهاجري الحبشة إلى المدينة:

- ‌ وفد الحبشة:

- ‌ إسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي:

- ‌ تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبة وهي بأرض الحبشة:

- ‌ قدوم بقية المهاجرين من الحبشة:

- ‌ من ولد من المسلمين بأرض الحبشة

- ‌ فضل المهاجرين إلى الحبشة:

- ‌ إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بوفاة النجاشي، وصلاته عليه:

- ‌ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي إلى الإسلام:

- ‌ أثر الهجرة في ظهور الإسلام:

- ‌إبادته للأصنام صلى الله عليه وسلم

- ‌حياة الدعوة الإِسلامية كجزيرة العرب

- ‌ حكمة ظهورها في العرب:

- ‌ حياتها بمكة:

- ‌ حياتها بالمدينة:

- ‌ انتشار الإسلام بالجزيرة:

- ‌قضاء البعثة المحمدية على المزاعم الباطلة

- ‌البلاغة النبوية

- ‌الاحتفال بذكرى الهجرة النبوية

- ‌لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة

- ‌الهجرة مبدأ التأريخ العام في الإسلام

- ‌المعجزات الكونية

- ‌من آداب خطب النبي عليه الصلاة والسلام

- ‌في الهجرة بركة

- ‌العظمة

- ‌الهجرة وشخصيات الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌ اتجاه الوحي بمكة:

- ‌ اتجاه الوحي بالمدينة:

- ‌ نزول الوحي بخلاف اجتهاده:

- ‌ رجوعه عن اجتهاد باجتهاد:

- ‌ قضاؤه عليه الصلاة والسلام

- ‌ شخصياته الأربع:

- ‌ رسالته:

- ‌ إمامته:

- ‌ تصرفه بالفتوى:

- ‌ تصرفه بالقضاء:

- ‌ ماذا يترتب على الشخصيات الأربع

- ‌ملاحظات على مولد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌تحية المقام النبوي ومناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌ذكرى المولد

- ‌ذكرى المولد النبوي

- ‌مشاهداتي في الحجاز

الفصل: ‌ ‌العظمة (1) نود من صميم أفئدتنا أن نفرغ بأقلامنا ومحاضراتنا للعمل

‌العظمة

(1)

نود من صميم أفئدتنا أن نفرغ بأقلامنا ومحاضراتنا للعمل على رقي شعوبنا، وإصلاح شؤوننا، ونود من صميم أفئدتنا أن نقضي صباحنا ومساءنا في البحث عن وسائل خلاصنا من أذى السلطة الغربية عن أوطاننا، ولكن نفرًا جلسوا على رأس الفتنة وهي نائمة، وجلسوا يهمزونها بنزق وغرور، ولو صرفنا النظر عن ناحيتهم، وتركنا حبلهم على غاربهم، لهبطوا بكثير من شبابنا في خسار يهتز له قلب عدوهم شماتاً وفرحاً، والنفوس التي تتزحزح عن الإيمان قيد شعرة تبعد عن مراقي الفلاح سبعين خريفاً.

فلا بد إذن من أن نكون على مرقبة من دعايتهم، وننفق ساعات في التنبيه على أغلاطهم؛ لعلهم ينصاعون إلى رشدهم، أو لعل الأمة تحذر عاقبة هذا الذي يبدو على أفواههم.

ننسى ولا ننسى كاتباً صنع في العظمة مقالاً لا أصفه في مقامي هذا إلا أنه خواطر لم تبلغ من أدب البحث سؤلها.

(1) مجلة "الفتح" - العدد 68 من السنة الثانية 1346 هـ - 1927 م. محاضرة الإمام في دار جمعية مكارم الأخلاق الإِسلامية بالقاهرة يوم 12 ربيع الأول 1346 تضمنت الرد على مقالة على عبد الرازق التي كان نشرها في جريدة "السياسة"، ونشرف المحاضرة في رسالة مستقلة.

ص: 207

تحدث الكاتب عن العظمة، وعبادة الناس لها، ورجع يناقش في أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم عظمة، وتعلق في إنكار هذا بعلَّة أن محمداً - صلوات الله عليه - لم يكن ملكاً، ولا غنياً، ولا فيلسوفاً، ولا فاتحاً عظيماً، ولا مخترعاً أو مكتشفاً، ثم قال: من يبتغي عظمة محمد، فإنما هي كلمة واحدة جاء بها، وهي:"لا إله إلا الله".

ثم جعل يضع كلمة "لا إله إلا الله" ذات اليمين وذات الشمال، ويضعها على جانب البطلان مرة، وعلى جانب الصحة مرة أخرى، وقال: إن العلم والعقل سيقضيان في شأنها، فإما أن تكون باطلًا، وإما أن تكون حقاً، وأورد خلال هذا وعقبه كلمات مختلفاً ألوانها، وقد اخترنا أن نسوق إليكم قطعًا من هذا المقال، وننقدها بين أيديكم، لعلنا نزيح عن ذوي الفطر النقية سوء أثرها.

وحقيق علينا أن نفتح البحث بكلمة في مبنى العظمة حتى ندخل نقد المقال على بينة.

تضاف العظمة إلى الإنسان، فيرادفها: التجبر، والخُيلاء، وهذا المعنى لا يحوم على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيناً، ولا ينزل بساحته في حال، وقد يراد من العظمة: الجلال الذي هو أثر سمو القدر، وبلوغ المنزلة الكبرى في خصال الشرف، وهذا المعنى يتحقق في أكمل الخليقة، فقد كان جلاله يبهر العيون، ويذيب القلوب.

وقد يقصد من العظمة: عِظَم القدر، والتناهي في خصال السؤدد والكمال، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أوسع الناس في هذه العظمة مجالاً، وأبعدهم فيها أمداً، وأرسخهم فيها قدماً.

ص: 208

فلا جناح على من ينفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العظمة قاصداً معنى التجبر والأبهة، أما من ينفي عنه العظمة -يقصد الجلال، ويقصد بلوغه في الكمال الأمد الأقصى-، فقد تنكَّب عن الحقيقة جانباً.

ولنأخذ - بعد هذا - في عرض القطع الموعودة على أسماعكم، وانظروا ماذا ترون.

قال صاحب المقال: "اليوم يذكر الناس مولد محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يذكر الناس محمداً إلا اتجهوا في البحث عن عظمته، ودرجته بين العظماء".

يريد صاحب المقال من الناس "الذين يذكرون محمداً صلى الله عليه وسلم، فيبحثون عن عظمته" القوم المسلمين، فإنه وصل هذه الفقرة بالحديث عن إيمان الناس بالعظمة، وافتتانهم بها، وعبادتهم لها في صور من العبادات، يرمز بهذا إلى حال المسلمين في إيمانهم بعظمته - صلوات الله عليه -، ونظرهم إلى مقامه الكريم بعين التوقير والإجلال. والناس الذين يذكرون محمداً -صلوات الله عليه -، فيتجهون إلى البحث عن عظمته صنفان: مؤمنون برسالته، وغير مؤمنين.

فأما الذين أشربوا في قلبهم الإيمان بأنه رسول الله حقاً، فإنهم يرفعون مقامه الأسمى عن أن يعقدوا بينه وبين العظماء -في نظر كاتب المقال- مقارنة ومقايسة، والميزان الذي يحمل في إحدى كفتيه النبوة والرسالة، تبقى كفته الأخرى طائشة إلا أن تحمل فيه سيرة نبي أو رسول.

وإنما ينظر المؤمنون في سيرة محمد - صلوات الله عليه -؛ ليزدادوا إيماناً فوق إيمانهم، أو ليكون لهم فيها أسوة حسنة، أو ليلقوا الارتياح الذي تلقاه النفوس الزكية تجتلي شيئاً من مظاهر الكمال والعظمة.

ص: 209

وأما من لم يهتدوا بدلائل، فإنهم يتجهون للبحث عن عظمته ودرجته بين العظماء، ولا نشك في أن الذين يدخلون البحث عن طريقه الحر لا ينصرفون عنه إلا وقد شهدوا من سيرة المصطفى - صلوات الله عليه - عظمة فائقة.

قال الفيلسوف (تومس كارليل) في كتاب "الأبطال": "وظنّي أنه لو أتيح للعرب بدل محمد قيصرٌ من القياصرة بتاجه وصولجانه، لما كان مصيبًا من طاعاتهم مقدار ما ناله محمد في ثوبه المرقع بيده، فكذلك تكون العظمة، وكذلك تكون الأبطال".

فالصنفان من المؤمنين وغير المؤمنين يبحثان عن عظمة محمد -صلوات الله عليه-، غير أن المؤمنين يبحثون عن وجوه عظمته؛ ليزدادوا إيمانًا، أو ليظفروا بموضع قوة، أو ليسلكوا قلوبهم في لذة، وغير المؤمنين يبحثون عن وجوه عظمته؛ ليتعرفوا عظمته ودرجته بين العظماء.

قال صاحب المقال: "ذلك بأن الناس ما برحوا منذ القدم يؤمنون بعظمة العظماء، ويعبدون في صور من العبادات، شتى مظاهر العظمة التي تخيلوها".

يؤمن القوم المسلمون بعظمة محمد - صلوات الله عليه -، ولا يكادون يتعدون بإيمانهم مقامه الذي شهدت به آثاره، ورسمت الآيات البيّنات حدوده، فهم ما برحوا يتهجدون بكتاب الله، ويتلون فيما يتهجدون أمثال قوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1].

قوله تعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188].

والسنة الصحيحة مملوءة بالأحاديث التي تعلم المسلمين أن لا يغلوا

ص: 210

في عظمته، وأن لا يبالغوا في تعظيمه ساحة ما يسمى عبادة، فهم يدرسون فيما صحت روايته مثالَ قوله صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن عثمان بن مظعون -:"أما هو، فقد جاءه اليقين، والله! إني لأرجو له الخير، وما أدري والله وأنا رسول الله ما يُفعل بي".

فالناس يتخيلون لمحمد - صلوات الله عليه - عظمة غير العظمة التي يَسَّره الله لها، وخلع عليه رداءها، فذكر العظمة المتخيلة وعبادتها غير لائق بمقام الحديث عن عظمة رسول الله، واتجاه الناس إلى البحث عنها عندما يذكر مولده الكريم.

وإن وجد في الناس من يكبو في غلو، أو تصدر عنه كلمات جامعة عن السبيل، فهذا لا يسيغ لكاتب المقال أن يطلق القول في الذين يؤمنون بأن لمحمد - صلوات الله عليه - عظمة؛ فإن السواد الأعظم من المسلمين يشهدون بعظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم على النحو الذي سنلقي إليكم حديثه بعد قليل، وما كانوا يعبدونه في أي صورة من صور العبادات، ولعل الكاتب اشتهى أن يرمي المسلمين بشأن أهل ملة أخرى، فلم يتحرج من أن يذكر بحث الناس عن عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلصق به على وجه التعليل الحديث عن إيمانهم بالعظمة المتخيلة، وعبادتهم لمظاهرها في صور من العبادات.

ذكر صاحب المقال أن هذه العبادة المتخيلة على أشكال متباينة، وقال: "فلكلٍّ في فهمها مذهبه، وله ما يهديه إليه الخيال، فللحكم ونفاذ الكلمة عظمةٌ يؤمن بها الملوك والحكام، ويعبدها الأذلاء والطامعون، وللغنى عظمة يؤمن بها الأغنياء، ويعبدها أشياعهم وأتباعهم، وللعلماء عظمة، ولها أيضاً عبادها، وللجمال عظمة يؤمن بها الغواني، وتهوي الجباه لها سجداً، وللصّ

ص: 211

الفاتك عظمة تخشع لجلالتها قلوب الملتفين من حوله، وبقيت بعد ذلك عظمة يؤمن بها أهل النبوغ في كل فن، وفي كل صفة، ولكل منها عبادها".

من ينازع المسلمين في أن لمحمد - صلوات الله عليه - عظمة لا سبيل له في البحث إلا أن يستبين المعنى الذي يسميه المسلمون عظمة، ويقيم الدليل على أنه خارج عن حد العظمة الصادقة؟.

وهل استبان كاتب المقال المعنى الذي يسميه المسلمون عظمة عندما يُذكر محمد - صلوات الله عليه -، ثم أقام الدليل على أنه ليس بعظمة؟!

كاتب المقال سرد أمثلة يتخيلها بعض الناس عظمة؛ كجمال الغواني، واللصوصية، ولم يستبن معنى العظمة في نظر المسلمين حين يضيفونها إلى المصطفى - صلوات الله عليه -.

والحقيقة أن الناس الذين يذكرون محمداً صلى الله عليه وسلم، إنما يتجهون إلى البحث عن العظمة التي هي فخامة القدر، وبلوغ المنزلة الباهرة في الشرف والكمال. فعدُّ كاتبِ المقال اللصوصية، وجمال الغواني في مظاهر العظمة، وهو يتحدث عن العظمة التي يتجه إليها الناس عندما يذكر المصطفى - صلوات الله عليه - تظاهرٌ بذوق غير مألوف، وغفلة أو تغافل عن معنى العظمة التي تتجه إليها أنظار الباحثين عن سيرة نبي عظيم كسيرة محمد عليه الصلاة والسلام.

قال صاحب المقال: "لعل أحداً لا يستطيع أن يحدد ذلك المعنى المبهم المضطرب الذي يسميه الناس عظمة، ولكنه -على ذلك- لم يزل منذ القدم فتنة الناس كلهم، يتخذونه غاية يعملون لها، ويحسبونه ميزانًا يزنون به بين الرجال".

إذا فسدت أذواق فريق من الناس، فضلُّوا عن حقيقة العظمة الصادقة

ص: 212

حتى أصبحوا يتخيلونها في الخصال الدّنيئة كاللصوصية، فإن الناس الذين يبحثون عن عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما يذهبون إلى وجوه السيادة والكمال، والفرق بين ما يعدّ كمالًا وشرفًا في الإنسان، وبين ما لا يدخل في هذا القبيل، سهل المأخذ، وما هو من الباحث المنصف ببعيد.

توصف الأشياء بالفضل، فيقال: هذا السيف أفضل من ذلك السيف، وهذه اللؤلؤة أفضل من تلك، وهذا الإنسان أفضل من ذلك الإنسان، ووجوه الفضل بين هذه الأنواع الثلاثة مختلفة. والمعروف لدى أهل العلم أن الفضل في كل شيء زيادته فيما هو كمال فيه، وكل شيء يكمل بالوصف الذي يمتاز به، ويراد منه، فكمال السيف في صرامته، وكمال اللؤلؤة في إضاءتها وصفائها، وكمال الإنسان في علمه الصحيح، وعمله الحكيم، ومنطقه البليغ.

فالعظمة التي يسمو بها قدر الإنسان بين العقلاء، وتوجُّه الناس إلى البحث عنها عند ذكر محمد - صلوات الله عليه - هي العظمة القائمة على الحكمة، وفصل الخطاب.

وإذا التبس الحال على بعض الناس، فحسب شيئاً من الآراء الباطلة علماً صحيحاً، أو تخيل بعض الأعمال المكروهة عملاً مستقيماً. أو عدَّ بعض الهذيان قولًا بليغاً، فقد وضعت النظم المنطقية، وفتحت بعض المناظر لكشف مثل هذا الالتباس.

على أن من الخصال والأعمال ما لا يختلف أولو الأحلام في كماله وحكمته، ومن هنالك رأينا كثيراً ممن لم يهتدوا بنبوة محمد - صلوات الله عليه - يشهدون بعلو شأنه، ويذكرون عظمته بمنتهى الإعجاب.

جرى ذكر (لوثر) لدى الفيلسوف (فولتير)، فقال: "إنه لا يستحق أن

ص: 213

يكون صانع أحذية عند محمد".

وقال الفيلسوف (توماس كارليل) في كتاب "الأبطال": "أتبين في محمد عقلاً راجحاً عظيماً، وعيناً بصيرة، وفؤاداً صادقاً، ورجلاً قوياً عبقرياً".

قال صاحب المقال: "لولا أن الناس قد فتنوا بدين العظمة، وعبادة العظماء، لما ساغ إذا ذكرت رسل الله، ومحمد خاصة، أن يبحث باحث في أنهم من العظماء، فذلك بحث ليس له موضع في مقام التحدث عن رجال النبوة والرسالة، والدعوة الخالصة إلى الله".

لو أراد صاحب المقال أن يخوض البحث في سيرة أهل العلم، لشرح معنى العظمة، ثم أقبل على الناس يبين لهم كيف لم يتحقق هذا المعنى في رسل الله، أو في محمد خاصة، وقد عرفتموه بأنه لم يزد على أن ذكر أن هناك عظمة متخيلة، وساق عليها أمثلة بعضها يدخل في حد العظمة؛ كالعلم، وبعضها لا يتصل بأسباب العظمة؛ كاللصوصية، ثم قال: إن معنى العظمة مبهم مضطرب، ليس في استطاعة أحد أن يحده، ووثب من هنا إلى دعوى أنه لا يسوغ لباحث أن يبحث في أن رسل الله، ومحمدًا خاصة من العظماء، وزعم أن هذا البحث ليس له موضع في مقام التحدث عن رجال النبوة والرسالة والدعوة إلى الله.

لنتساءل عن العظمة التي يحاول كاتب المقال أن ينفيها عن رسل الله، وعن محمد صلى الله عليه وسلم خاصة.

لا يصح تأويل هذه العظمة بمعنى: التجبر والخيلاء؛ إذ لم يبحث باحث في أن محمداً - صلوات الله عليه - من العظماء، ويعني: العظماء الجبارين المتكبرين، فكاتب المقال ينفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العظمة التي يتجه

ص: 214

إليها الناس حين يذكرون مولده الكريم، وما كان ليخفى عن كاتب المقال أن العظمة التي يتجه إليها الناس في ذلك الحين إنما هي البلوغ في خصال الكمال وعظم القدر مرتبة قصوى.

قال صاحب المقال: "وما أبعدَ رسلَ الله الداعين إليه، وما أبعدَ محمداً خاصة، من أن يبالوا بتلك العظمة التي يعبد الناس، ومن أن يبالوا أكانوا عند الناس في مقام العظماء، أم دون ذلك".

لا تبالي رسلُ الله - ومحمد خاصة - بالعظمة التي تُتخيل في نحو اللصوصية، أما العظمة التي تتمثل في خصلة من خصال الشرف؛ كالعلم والشجاعة، فعظمة داخلةٌ في هداية الرسل عليهم السلام، وقد سمعتم كاتب المقال يذكر في مظاهر العظمة: العلم، وهذا المظهر مما عني به الإِسلام جهد العناية، فلا يليق برجل فتح بصره في القرآن - ولو قليلاً- أن يزعم أن محمداً - صلوات الله عليه - لا يبالي بعظمة العلم، ففي التنزيل الحكيم:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ولتجدن محمداً صلى الله عليه وسلم عظيماً في علمه، وما علمه النافع إلا مظهر من مظاهر عظمته البالغ حد الإعجاز.

قال صاحب المقال: "ومحمد هو الذي أبى للناس إلا أن يكونوا سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، وإلا أن يكونوا على قدم المساواة، فكلهم لآدم، وآدم خلق من تراب، وأبى أن يكون في الناس عظماء وغير عظماء، وسواء فيهم من تزدريه الأعين، ومن يروق مناظره، وسواء فيهم السوقة والملوك".

ما كان لكاتب المقال أن يجلس للفصل في العظمة قبل أن يولي وجهه

ص: 215

شطر العظمة، يقول: إن محمداً أبى للناس إلا أن يكونوا سواسية، وإلا أن يكونوا على قدم المساواة، وسواء فيهم السوقة والملوك، وهذا القول لا يتصل بالعظمة التي يتجه الناس إلى البحث عنها عندما يذكر المصطفى -صلوات الله عليه- ولا يقوم دليل أو شبه دليل على أنه عليه السلام لا يبالي بالعظمة الداخلة في حدود الشرف والكمال، بل كان - صلوات الله عليه - يجل هذه العظمة، ويدعو إلى التنافس في مثل هذه العظمة، وإنما كان ليمقت العظمة التي هي الزهو والأبهة، وهي التي كان ينهى عنها، وينذر سوء عاقبتها.

فمن الافتراءات على الإِسلام: أن يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم يأبى للناس أن يكون فيهم عظماء على معنى: أنه يكره أن تكون فيهم العظمة التي يمتاز بها بعض الرجال، ويسميهم الناس من أجلها عظماء، فصاحب المقال نفسه يذكر في مظاهر العظمة: العلم، والنبوغ في الفنون والصنائع، أفيصح بعد هذا أن يزعم أن رسول الله عليه الصلاة والسلام يأبى للناس أن يكون فيهم عظماء؛ أي: بالغون في العلم مراتب سامية، أو نابغون في بعض الفنون والصنائع؟!.

لا يزعم هذا إلا من يجهد فكره بحشر حجج يطمع في أن يغير حقيقة الإِسلام، ويعرضها في صورة خالية من كل حكمة وعظمة.

نعم، جاء الإِسلام ليجعل الناس على قدم المساواة، ويجعل الملوك والسوقة في مستوى واحد، ومعنى هذا، أن يتمتع الناس بالحرية في نفوسهم وأموالهم، وأعراضهم وسائر حقوقهم، وأن يكون السوقة والملوك في نظر السلطة القضائية أو التنفيذية على السواء، وليس من المعقول أن تحمل المساواة في الإِسلام على معنى عدم التمايز بالعظمة التي تدرك بنحو العلم

ص: 216

النافع، والعمل الجلل، والخلق الكريم. فالإِسلام ليس هو الدين الذي يرضى لمعتنقه أن يكون كعجوز في محرابها بيدها سبحة، بل هو الدين الذي يسير بأوليائه في سبيل العزة والسيادة والعظمة، وقد جرت سنة الله بأن يكون الناس في هذا السبيل على درجات متفاوتة.

يسوق كاتب المقال حديث: "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى" مستشهدًا به على أن محمداً عليه الصلاة والسلام يأبى أن يكون في الناس عظماء، والحديث إنما ورد في مقام النهي عن العظمة التي هي بمعنى الفخر والكبرياء، وذلك لم يرده كاتب المقال؛ لأنه يجعل مدار حديثه على العظمة التي يبحث عنها الناس عند ذكر محمد عليه الصلاة والسلام، لقد عرفتم وجوه هذه العظمة، ومن تفقه في التقوى، عرف أنها الوسيلة الكبرى للعظمة الصادقة؛ فإنها بذل الإنسان جهده وسعيه في طرق الفلاح، ومن تقوى الرجل الذي رزق ألمعية متوقدة، وهمة سامية: أن يقتحم الأخطار، ويقذف بنفسه في معالي الأمور، فإذا هو في جلال وعظمة، وإن لم يجد الزهو والكبر إلى نفسه منفذاً.

قال صاحب المقال: "لم يكن محمد بن عبد الله يؤمن بتلك العظمة الأرضية التي يؤمن الناس بها، وهي ذل للنفوس العالية، وشرك بالله رب العالمين".

لا نفتأ نذكر أن كاتب المقال يتحدث عن العظمة التي يتجه الناس إلى البحث عنها عندما يذكر محمد - صلوات الله عليه -. والناس لا يتجهون عندما يذكر محمد إلا إلى العظمة القائمة على معالي الأمور، وعظمة هذا شأنها، عظمة يأذن بها الله، ويدعو إليها رسله، وسموها بعد هذا أرضية إن شئتم، أو سماوية،

ص: 217

وليست هذه العظمة ذلاً للنفوس العالية، ولا شركاً بالله رب العالمين، وإنما ذلك شأن العظمة بمعنى: الكبرياء أو الأبهة، وهذا المعنى لا يتجه الناس إلى البحث عنه عندما يذكر المصطفى - صلوات الله عليه -.

ولا ننسى أن كاتب المقال قد ذكر في مظاهر العظمة: العلم، والنبوغ في فن أو صناعة، ومن ذا يستطيع أن يقول أو يتصور أن العلم والنبوغ في الفن أو الصناعة ذلّ للنفوس العالية، وشرك بالله رب العالمين؟!

كلا، ليس العلم والنبوغ في فن أو صناعة ذلاً للنفوس العالية، وشركاً بالله رب العالمين. وهذا شأن كل عظمة تقوم على شرف وخير.

قال صاحب المقال: "من كان يريد من عبَّاد الملْك وعظمته أن يضع محمداً بين عظماء الملوك، فما كان محمد ملكاً، ولا رضي أن يكون ملكاً، فإن أصر العائدون من أشباه العلماء على أن يعدُّوه مع الملوك، فهل يستطيعون أن يعدوا مملكة محمد إلا تلك الجزيرة الصغيرة جزيرة العرب؟ وأين جزيرة العرب من ملك الأقاصرة والأكاسرة؟ وأين ملك تلك الجزيرة بين ملوك الإمبراطوريات العظمى الذين بسطوا أيديهم فوق مشارق الأرض ومغاربها، وبحورها وجزائرها؟! ".

الناس في واد، والكاتب في واد، يرى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بعقائد وآداب وشريعة، وإن هذه العقائد والآداب والشريعة هي سبيل الله الذي قام عليه الصلاة والسلام يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة.

وكانت بعثته تتناول القيام على هذه الآداب والنظم الاجتماعية، وحمل الناس عليها بالقضاء والتنفيذ، قال الله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]. وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ

ص: 218

فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقال تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

جاء الرسول عليه الصلاة والسلام بآداب ونظم اجتماعية، وكان يسوس الناس بهذه الآداب والنظم، ومن يدبر شؤون أمة، ويجري عليها قانون شريعة، فهو ولي أمرها، وبيده مقاليد سياستها، وهذه حقيقة جلية جلاء الشمس في رونق الضحى، ولكن كاتب المقال يرغب في أن تكون الأذهان خالية من هذه الحقيقة، فما كان إلا أن جاء إلى كلمة عهدها الناس محفوفة بالأبهة والزينة، وهي كلمة (ملك)، وأخذ يدعي أن أشباه العلماء يعدون رسول الله صلى الله عليه وسلم ملكاً، ونحن لا نعلم في العلماء أو أشباه العلماء من قال: إنه كان ملكاً، أو أطلق عليه اسم ملك. بل كان الناس يتحامون بهذا الاسم خلفاءه الراشدين.

وإنما كانوا يذكرون تلك الحقيقة الثابتة بالقرآن والسنة والإجماع، وهي أن محمداً - صلوات الله عليه - مبعوث بشريعته، وأنه كان يقوم على تنفيذ هذه الشريعة.

ذهب كاتب المقال ينفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عظمة الحكم؛ بعلة أنه لم يكن له سلطان إلا على تلك الجزيرة الصغيرة جزيرة العرب. يقول هذا، كأنه لا يدري أن العظمة التي يتجه الناس إلى البحث عنها في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول إنما هي العظمة التي تطمح إليها همم الفضلاء، وتجلها قلوب الحكماء.

يعلم الناس أن محمداً - صلوات الله عليه - لم يقم ليشيد ملكاً، ولم

ص: 219

يخطر على باله أن ينافس الملوك في عظمتها الأرضية، ولكن بعثه الله بالدين القيم، والشريعة الوسطى، وجعله القائم على هذه الشريعة لعهد نزول الوحي، وبعد أن تناسق عقدها، وتكاملت نجوم هدايتها، التحق عليه السلام بالرفيق الأعلى، وقد أورث القوم المسلمين شريعة قيمة، وسياسة رشيدة، فكانت دولتهم ذات عظمة تتضاءل أمامها كل عظمة.

أراد الله تعالى أن تكون حياة رسوله الأكرم بمقدار ما تدرك الهداية غايتها، وتملك الأمة قوة تحمي الدعوة من خصومها، واتفق أن جمعت الهداية أمرها، وبلغت القوة الكافية نصابها، يوم أصبحت راية الإِسلام تخفق على ربوع تلك (الجزيرة العربية) يوم نزل قوله تعالى:{الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

وإذا خطر على بال أحد أن يضع بين محمد - صلوات الله عليه -، وبين بعض الملوك مقايسة، فإنه يذهب إليها من طريق العدل والمساواة، وينظر فيها من ناحية إخلاص الرعية، وما تحمله لولي أمرها من حسن الطاعة، مع رعاية بيئة الأمة وطبائعها، وتقدير السبيل الذي سلكها والي الأمر حتى أصبحت مقاليد أمة من الناس في قبضته.

فليبحث كاتب المقال هل يجد في تاريخ العالم رجلاً قام في أمة كهذه الأمة العربية في صعوبة مراسها، واختلاف قبائلها، وكثرة زعمائها، قام وليس بيده سلاح يفوق سلاحها، ولا جند أعرف بفن الحرب من رجالها، ولا مال أوفر مما في أيدي زعمائها. فجاهدها، وأخذها من جميع أطرافها في بضع سنين، ثم سار بها في خطة عدل ومساواة تشبه خطة سيدنا محمد الذي يقول:

ص: 220

"وأيْم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها". ثم هو بعد ذلك يملأ العيون جلالًا، وتلقي إليه القلوب بالمودة وحسن الطاعة. إلى مثل هذا ينظر الذين يعدون في وجود عظمة الرسول عليه الصلاة والسلام حكمه العادل، وسياسته الحكيمة، وهم أكيس من أن ينظروا إلى سعة المملكة، وكثرة الجنود.

قال صاحب المقال: "ومن كان يريد أن يضع محمداً بين عظماء أهل المال والغنى، فما كان فيهم إلا فقيراً مقلاً".

إن الذين يتجهون إلى البحث عن عظمة محمد صلى الله عليه وسلم، لا يعدون المال في مظاهر العظمة. وليس المال إلا وسيلة، إما إلى خير، وإما إلى شر، ولو أوتي رجل سعة من المال، فركض به في شهواته، ولم ينفقه إلا في لذة أو زينة، لكان البائسُ الفقير الذي يزيد عليه بمثقال من علم أو فضل أقربَ منه إلى العظمة.

وإذا لم يكن المصطفى - صلوات الله عليه - في ثروة وأموال تحف به في كل وقت، فإن الحال التي تمر عليه، وهو في كفاف من العيش، لا تختلف عن حاله يوم تنساق إليه الأموال ركامًا، فهو في حالتي كفافه ويساره يمثل الصبر والسكينة، والزهد والسخاء.

فالذين يبحثون عن عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدونها في حال كفافه بمقدار ما يجدونها في حال يساره، شبرًا بشبر، وذراعاً بذراع. ولا يخدش الفقر والإقلال في عظمة الرجل إذا نهضت به الحكمة والعزم والإخلاص، وأرغم أنوف الطغاة أو الأغنياء الذين يمشون في الأرض مرحاً.

قال صاحب المقال: "ومن كان يريد أن يضعه بين القواد الفاتحين،

ص: 221

فإنما بلده مكة، وهي أكبر ما فتح محمد من البلاد".

يتجه أولو الأبصار إلى البحث عن عظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يخطر لهم على بال أن يوازنوا بينه وبين الفاتحين في عدد ما فتحوا من المدن أو الممالك، وإذا عدوا فتح مكة من مواقفه الشريفة، ومظاهر عظمته السامية، فلأنه عاقبة جهاد وصبر وثبات، ولأنه الفتح الذي أخذ به الإِسلام مهيباً به، وقطعت به الدعوة إلى الحق شوطاً واسعاً. والذي يفتح مدينة، فيملؤها إيماناً بعد شرك، وعدلاً بعد جور، وإصلاحًا بعد فساد، تكون عظمته في قلوب سراة الناس وحكمائهم فوق عظمة من يفتح المشرق أو المغرب، وهو يحمل في نفسه غطرسة، وفي يده إرهاقاً.

قال صاحب المقال: "ومن كان يريد أن يعده من كبار الفلاسفة والمخترعين والمكتشفين، فقد كان محمد أميًا لا يقرأ ولا يكتب، وما كان بمخترع ولا مكتشف".

الاختراع والاكتشاف مما يناله الناس بالذكاء والمثابرة على البحث، وإنما جاء محمد - صلوات الله عليه - بحكمة وقفت دونها أنظار الأذكياء، وتخبطت في البحث عنها عقول الفلاسفة، وهي هذه الحقائق والآداب والنظم التي هي قوام الحياة الراقية، وملاك السعادة الخالدة، هذه هي العلوم التي اختار الله لها محمداً، فألقاها على الناس دروساً زكية، وليس من زينتها سيرة غراء، ولا يضره بعد هذا العلم وهذه السيرة أن لا يخترع من الحديد غواصة، أو لا يستكشف أثراً كان تحت الأرض غائباً.

وإذا اعترف الناس للفيلسوف الكاشف عن شيء من غوامض الطبائع المادية بالعظمة، فإن عظمة من يكشف عن الحقائق العقلية والفضائل النفسية

ص: 222

والصلات الأدبية والقواعد العمرانية أسنى مطلعاً، وأجلى مظهراً.

وتمادى صاحب المقال يخوض في لهو، ويجادل بعنف، ثم عاد فقال:"من كان يبتغي عظمة محمد، فإنما هي كلمة واحدة جاء بها محمد، وفيها كل عظمة يلتمسها الباحثون: لا إله إلا الله".

عظمة المصطفى - صلوات الله عليه - في كلمة واحدة جاء بها، وهي لا إله إلا الله!!!.

إن صاحب المقال يحاول أن يريكم القمر الزاهر في شكل درهم، فدعوه يتحدث عن كرم الخليقة كيف يشاء، واتجهوا في البحث عن عظمة الرسول الأكرم إلى سيرته المشهودة في القرآن والأخبار الثابتة.

من يبتغي عظمة الرجل بحق، فليبحث عنها في ناحية عقله وعلمه، وخلقه وإخلاصه، وعزمه وعمله وحسن بيانه، ولقد كان محمد - صلوات الله عليه- راجح العقل، غزير العلم، عظيم الخلق، خالص الإرادة، صادق العزم، جليل العمل، رائع البيان.

أما رجحان عقله، فمن دلائله - بعد اختصاص الله له بالرسالة -: أنه نشأ بين قوم يعبدون الأصنام، يتنافسون في مظاهر الأبهة والخيلاء، ينحطون في شهواتهم إلى المنزلة السفلى، فلم يكن لهذه البيئة المظلمة من أثر في نفس محمد صلى الله عليه وسلم قليل أو كثير، فانتبذ بين هذه الظلمات المتراكمة مكاناً يخلو فيه بنفسه، ويقدح فيه زناد فكره، ويناجي فيه ربه، فإذا نور النبوة يتلألأ بين جنبيه، وحكمة الله تتدفق بين شفتيه.

وأما علمه، فهو ما يزكي النفوس، وينقي الأبصار، ويرفع الأمم إلى ذروة العز والشرف، حتى تحرز الحياة الطيبة في الأولى، والسعادة الباقية في

ص: 223

الأخرى. ومن يتدبر القرآن والأحاديث الثابتة حتى يتفقه فيما انطويا عليه من حقائق وحكم وآداب، يلف رأسه حياء من أن ينفي عن المصطفى صلى الله عليه وسلم عظمة العلم تحت اسم الفلسفة، متكئًا على أنه كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب. وقد خرج من بين يدي محمد صلى الله عليه وسلم رجال عظماء، ولم يتلقوا من العلم غير ما كانوا يتلقونه في مجلسه من حكمته، فكانوا منبع علم وأدب، وأدركوا في حصافة الرأي وقوة الحجة الأمد الأقصى.

وأما خلقه، فهذه السيرة المستفيضة في القرآن، وعلى ألسنة الرواة وأقلامهم تنطق وتلوح بأنه كان صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في كل خلق كريم، وبَسْطُ القول في هذا الصدد لا يغني فيه سفر، فضلاً عن محاضرة.

وأما إخلاصه، فقد كان صافي السريرة، لا يبغي إلا هدياً، ولا ينوي إلا إصلاحاً، والإخلاص روح العظمة، وقطب مدارها. وأقرب شاهد على إخلاصه في دعوته: أنه لم يحد عن سبيل الزهد في هذه الحياة قيد أنملة. فعيشه يوم كان يتعبد في غار حراء كعيشه يوم أظلت رايته البلاد العربية، وأطلت على ممالك قيصر من ناحية تبوك.

وأما صدق عزيمته، فقد قام صلى الله عليه وسلم يدعو إلى العدل ودين الحق، ويلقى من الطغاة والطغام أذى كثيراً، فيضرب عنه صفحًا أو عفواً، ويمضي في سبيل الدعوة، لا يأخذه يأس، ولا يقعد به ملل، ولا يثنيه جزع، وقد ظهر دين الله، وعلت حكمته بهذا العزم الذي تخمد النار ولا يخمد، وينام المشرفي ولا ينام.

وأما عمله، فتهجد وصيام، وتشريع وقضاء، ووعظ وإرشاد، وسياسة وجهاد، وهل من سيرة تبتغى لعظمة يرضى عنها الله، ويسعد بها البشر،

ص: 224

غير هذه السيرة؟!.

وهل يستطيع كاتب المقال أن يدلنا على رجل كان ناسكا مخلصاً، ومشرعاً حكيماً، وقاضياً عادلاً، ومرشداً ناصحاً، وواعظاً بليغاً، وسياسياً أميناً، ومجاهداً مصلحاً، وفاتحاً ظافراً، وسيداً تذوب في محبته القلوب، غير المصطفى عليه الصلاة والسلام؟.

وأما حسن بيانه، فقد أحرز عليه الصلاة والسلام من خصلتي الفصاحة والبلاغة الغاية التي ليس وراءها لمخلوق غاية، فانظروا إن شئتم إلى مخاطباته وخطبه، وما يضربه من الأمثال، وينطق به من جوامع الكلم، تجدوا جزالة اللفظ، ومتانة التركيب، وسهولة المأخذ، إلى رفعة الأسلوب، إلى حكمة المعنى.

عظمة انتظمت من هذه المزايا العالية، فبلغت حد الاعجاز، وكل درة في عقد حياة محمد عليه الصلاة والسلام معجزة.

وأذكر بهذه المناسبة بيتين ينسبان إلى صاحبنا الأستاذ محمد حبيب العبيدي مفتي الموصل لهذا العهد، وهما:

سيد الرسل ومن بعثته

كست الكون بهاء وفخارا

قم إلى النور الذي جئت به

أفترضى أن يصير النور نارا؟!

وكان أحد فضلاء الشام قد اقترح عليَّ تشطيرهما، فكان التشطير:

"سيد الرسل ومن بعثته"

سطعت فانقلب الليل نهارا

سُلبت أمتك العز وكم

"كست الكون بهاء وفخارا"

"قم إلى النور الذي جئت به"

والورى في غسق الجهل حيارى

ص: 225

تلق نار الغيِّ تسطو حوله

"أفترضى أن يصير النور نارا"

هذه منتهى المحاضرة، وندع دفع ما وسوس كاتب المقال في حكمة التوحيد إلى فرصة أخرى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]

ص: 226