الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونحن إذا قسنا حال المرأة في الجاهلية بحالها بعد نزول الوحي، عرفنا أن ما بيّنه الرسول الأكرم من حقوقها مبدأ من المبادئ التي عني بها الإسلام، وأخرج بها العالم من همجية قاسية إلى مدنية راقية فاضلة.
*
حكمته البالغة في السياسة:
لا يسعني المقام أن أطرق هذا الموضوع بشواهد كثيرة، وإنما أورد واقعة واحدة هي واقعة الحديبية؛ فإن في هذه الواقعة لآية على أن نظر محمد ابن عبد الله في السياسة لم يكن وليد أرض تهامة، إنما هو وليد تعاليم ينزل بها الروح الأمين من فوق سبع سماوات.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة في ألف وثلاث مئة مسلم من المسلمين، قاصداً زيارة البيت الحرام، لا يريد قتالاً، فبلغ المشركين بمكة خبره، فخرجوا ليصدوه عن الزيارة، فنزل بأقصى الحديبية، وسبقه المشركون، فنزلوا بأعداد مياهها (1)، ودارت الرسل بينه وبينهم، وانتهى الأمر على عقد صلح تمسكوا فيه بشروط لم يكن من رسول الله إلا أن قبلها. ومن أشد هذه الشروط على المسلمين: أن المشركين أبوا أن يخلُّوا بين النبي وبين البيت في ذلك العام، وإنما رضوا أن يأتيها في العام المقبل، وأخذوا عليه أن من جاءه من المشركين يرده عليهم، وهم إذا جاءهم أحد من المسلمين، لا يردونه عليه.
نرى في هذه الواقعة أن المسلمين امتعضوا من عقد هذا الصلح، ورأوا في شروطه ما يمس كرامتهم، ويخدش عزتهم، حتى بلغ بعمر بن الخطاب أن قال لرسول الله: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: "بلى": قال:
(1) الأعداد: جمع عِدّ - بكسر العين -، وهو الماء الذي له مادة لا تنقطع.
فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟! قال له: "إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري"، فزاد عمر أن قال: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: "بلى، أفأخبرتك أنّا نأتيه العام؟ "، قال عمر: لا، قال:"فإنك آتيه، ومطوِّف به".
رأى المسلمون أن في استطاعتهم حرب المشركين، وفي أملهم أن يكونوا هم الغالبين، ولا سيما بعد أن سمعوا الوعد الصادق بأنهم سيدخلون المسجد الحرام، ويطوفوا بالبيت العتيق، ولكن رسول الله رأى أن احتمال هذه الشروط التي تمسك بها المشركون أخف من أن يناجزهم الحرب وفيهم شيء من القوة، فلا يدخلها إلا بعد أن تراق دماء طاهرة، ودماء يجوز أن تطهر بالإيمان في السنة القابلة.
وقد دلت العاقبة على أن المسلمين كانوا ينظرون إلى قريب، وكان الرسول الله ينظر إلى أمد بعيدة إذ كان من عواقب هذا الصلح أن امتد الأمن بين مكة والمدينة، وجرى بين المسلمين والمشركين اتصال، وكثرة ملاقاة، فكان المسلمون يُسمعونهم القرآن، ويناظرونهم على الإسلام علانية، وكانوا قبل هذا الصلح لا يدعون إلى الإسلام بمكة إلا في خفاء، ودخل في الإسلام مدة الصلح كثير ممن كانوا مشركين، أو كن مشركات، فخسر المشركون من حيث أرادوا الفوز، ولم يجئ يوم الفتح الأكبر إلا وهم في ذلة، والمؤمنون في قوة، فدخل رسول الله مكة فاتحاً، وقد ألقوا إليه السلم، بل أقبلوا هم وزعماؤهم يدخلون في دين الله أفواجاً.
فإذا وقفنا عند ظاهر أمر رسول الله، نجد في سيرته ما هو سبب نجاحه في الدعوة، وظهوره على أعدائه.
أما نجاحه في الدعوة، فيرجع - بعد بلاغة القول وقوة الحجة - إلى كمال أخلاقه عليه الصلاة والسلام، وصدق عزيمته، قال تعالى:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159].
وأما ظهوره على أعدائه، فيرجع - بعد تأييد الله - إلى حكمة السياسة، والأخذ بسنة الحذر، وإعداد القوة، إذ لا تنجح الدعوة إلى الحق إلا بمتانة الأخلاق، وصدق العزم، ولا تظهر أمة على من يريد بها عسفاً وهواناً إلا بأن تحكم السياسة، وتُعِدَّ له ما استطاعت من قوة.
أيها السادة!
رغبت إليَّ القريحة أن تشارك حضرات السادة الشعراء في الحديث عن رسول الله بكلام موزون، فسمحت بهذه القطعة من القريض:
حييّ ذاك البدر بالزَّهْرِ النظيمْ
…
واملأ الجَفْنَ بمرآهُ الوسيم (1)
(1) القصيدة منشورة في آخر - هذا الكتاب مع القصائد النبوية.