الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حتى لا يبلغ في دعوتهم أن يشتغل بها عن مجاملة ضعفاء المسلمين، وحفظ قلوبهم من أن تعبث بها أصابع الشيطان.
ومن حكمة هذه الآية: الدلالة على أن الخطأ في الاجتهاد معفو عنه.
*
رجوعه عن اجتهاد باجتهاد:
قال كاتب المقال: (ورجع هو عن اجتهاد باجتهاد بمجرد النظر والتجربة، فقال: "هممت أن أنهى عن الغِيلة، فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم، فلا يضر أولادهم شيئاً"، وقال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي").
أورد الكاتب حديثين مستشهداً بهما على أن النبي صلى الله عليه وسلم يرجع عن اجتهاد باجتهاد.
أما حديث الغيلة، فقد ورد في الصحيح على نحو ما ذكره الكاتب، غير أنه فسر الغيلة بإرضاع المرأة ولدها وهي حامل، وهو تفسير ابن السِّكيت، أما الإمام مالك، فقد فسرها بوطء المرأة وهي مرضع، وتابع مالكًا على هذا التفسير الأصمعيُّ وغيره من أهل اللغة، ومالك أدرى بتفسير الحديث من ابن السكيت، ولا سيما تفسيراً وافقه عليه علماء اللغة، ويؤيده ما جاء في الصحيح: أن رجلاً قال للنبي- صلى الله عليه وسلم: إني أعزل عن امرأتي، فقال:"لم تفعل ذلك؟ "، فقال: إني أشفق على ولدها، فقال عليه الصلاة والسلام:"لو كان ذلك ضارًا، ضر فارس والروم (1) ". ومما يزيدنا ثقة بضعف حمل الغيلة في هذا الحديث على إرضاع المرأة وهي حامل: أن الأطباء ما زالوا يقولون:
(1)"صحيح مسلم".
إن لبن المرأة يتغير أيام الحمل تغيراً يؤثر في صحة الرضيع، أما وطء المرأة وهي مرضع، فقد سألنا عنه بعض الأطباء في هذا العصر، فكانوا يجيبون بأنهم لا يعرفون لضرره وجهًا، وحملُ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على معنى لا شبهة فيه، أرجحُ من حمله على معنى تحوم عليه شبهة.
عرضت واقعة الغيلة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل فيها وحي خاص، ولكن أمامه قواعد شرعية، منها: قاعدة: "الضرر يزال"، والشأن في تقرير حكم هذه الواقعة الرجوع إلى ما يقوله أهل التجارب من نحو الأطباء؛ لأن الضرر في مثلها لا يدرك بقوة الفكر ووفور العقل، وكان شائعًا عند العرب أن في الغيلة ضررا على الرضيع، ولهذا جرت عادة المستطيعين منهم أن يتخذوا لأولادهم مراضع، وسبق إلى ظن النبي صلى الله عليه وسلم أن ما شاع عند العرب من ضرر الغيلة قد يكون واقعاً، وبدا له أن ينهى عنها، إشفاقًا على الرضعاء، ثم نظر عليه الصلاة والسلام إلى أمتين من غير العرب، وهما الفرس والروم يصنعون الغيلة، ولا تضر أولادهم؛ إذ لو ظهر منها ضرر، لتنبه له أطباؤهم، وعرفه أهل التجارب منهم، وشاع أمره فيما بينهم، وهذا ما عدل بالنبي صلى الله عليه وسلم عن النهي عنها إلى العود بها إلى أصل الإباحة، وقد دلّ عليه الصلاة والسلام على أنه لم يتكلم في الغيلة عن وحي، وإنما تكلم فيها على رعاية المضار والمصالح التي يؤخذ فيها بأقوال أهل التجارب؛ إذ قال:"ثم ذكرت أو نظرت أن فارس والروم يغيلون أولادهم، فلا يضر أولادهم شيئاً".
وقد أريناك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يفعل شيئاً يظنه الأَولى، ثم يتبين له أنه خلاف الأَولى، وقد يقول قولًا يبنيه على ظن، ثم يتبين له أن الواقع على خلاف ما ظنه، ووقوع أشياء معدودة من هذا النوع لا تمس الرسالة بشيء، فإنها - على
قلتها - معروفة عند علماء الشريعة، ولا يبنون عليها شيئاً أكثر من أنها تزيد الناس تذكرة ببشرية الرسول، وتحميهم من أن يتجاوزوا به مقام الرسالة إلى مقام الربوبية.
وإذا استدل بها بعضهم على أنه يجتهد في تقرير الأحكام، فقد أريناك أن القائلين باجتهاده مجمعون على أن اجتهاده هو والوحي على سواء.
وأما حديث: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت"، فأصله أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بحج، أو بحج وعمرة، وساق الهدي، وأصحابه أحرموا كذلك، ولم يسوقوا هدايا، فلما قدموا مكة، وطافوا بالبيت، وسعوا بين الصفا والمروة، أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام الصحابة أن يحلوا من إحرامهم بعمل العمرة، وقال لهم: أقيموا حلالًا، حتى إذا كان يوم التروية، فأهلّوا بالحج، ولكنه عليه الصلاة والسلام بقي محرمًا، وقال لهم:"فلولا أني سقت الهدي، لفعلت مثل الذي أمرتكم، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله".
وشق على الصحابة أن يحلوا وهو محرم، وترددوا في الإحلال، فقال عليه الصلاة والسلام تطييبًا لخواطرهم:"لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لما سقت الهدي".
أورد كاتب المقال هذا الحديث شاهداً على أنه عليه الصلاة والسلام يرجع عن اجتهاده باجتهاد، ولم يبين ما هو الاجتهاد الذي رجع عنه، وليس في الحديث ما يدعو إلى فهمه على هذا المعنى، ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان مخيراً بين أن يسوق الهدي، وأن لا يسوق، فسوقه الهدي كان من قبيل الأخذ بأحد أمرين جائزين، واختيار أحد أمرين جائزين لا يعد اجتهاداً في تقرير حكم شرعي، فقد يفعله من لم يبلغ رتبة الاجتهاد في الأحكام الشرعية، ولهذا نرى المنكرين