الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من هذا النوع كثير".
سبق لكاتب المقال أن قال في حديثه عن اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم: وكان يسارع أحياناً إلى الجواب عما يسأل عنه، وأحياناً ينتظر الوحي.
وكان قصده هنالك: أن الفتاوى التي تصدر عن سرعة هي من قبيل الاجتهاد، فيكون مراده من تقسيم الفتاوى هنا إلى: ما يجيب عنه بلسان الوحي، وما يجيب عنه باجتهاد: أن ما يجيب عنه بلسان الوحي: ما كان ينتظر فيه الوحي، وما يجيب عنه باجتهاد: ما يجيب عنه بسرعة، وقد نبهنا فيما سبق لعدم دلالة السرعة في الجواب على أن الفتوى كانت عن اجتهاد.
وقد علم له عليه الصلاة والسلام من نوع الفتاوى في الأحكام الشرعية كثيرة، ولكنا لا نستطيع أن نضع أيدينا على فتوى في حكم شرعي، ونقول ونحن على حجة: هذه فتوى أجاب فيها بما يراه كما يفعل سائر المجتهدين.
*
تصرفه بالقضاء:
قال كاتب المقال: "وهو بشخصية القاضي حكم بين المتخاصمين، يسمع دعاواهم، ويتعرف الحق بما يسمع من شهادة الشهود، وما يرى من وجوه التثبت، ويقدر ظروف القضية وأحوال المتقاضين؛ كما يفعل سائر القضاء، وأحكامه في هذه الدائرة لا عموم لها في الأشخاص ولا في الأحوال، كما يقول علماء الأصول، فليس لها صفة التشريع العام".
يتوجه النظر في القضاء إلى ناحيتين:
أولاهما: الوسائل التي تتقدم الحكم؛ من نحو: البينات، والأيمان، وتزكية الشهود، والطعن في البينات، وضرب الآجال والأعذار، وبعث الحكمين.
ثانيتهما: الأحكام التي يرجع إليها القاضي في الفصل بين المتخاصمين؛ كاستحقاق الشريك للشفعة، والأم للحضانة، ووجوب نفقة الرجل على أبيه، وبطلان بيع ما فيه غرر، ونكاح الشغار، وصحة البيع بمعاطاة، والنكاح على أن يكون الصداق منافع.
أما وسائل الحكم، فمنها ما قرره القرآن الكريم؛ كقبول شهادة عدلين، أو رجل وامرأتين، وعدم قبول الشهادة على الزنا متى كان الشهود أدنى من أربعة، ومنها ما قررته السنة؛ كمطالبة المدعي بالبينة، والمدعى عليه باليمين متى أنكر، وقبول شهادة عدل مع اليمين.
وما ثبت بالقرآن أو السنة من أمثال هذه المقدمات التي ينبني عليها القضاء يعد شرعاً دائماً لا يسوغ لأحد من القضاة إهماله إلا إذا فقد الوصف الذي راعاه الشارع عند تقرير الحكم.
وأما الأحكام التي يأخذ بها النبي صلى الله عليه وسلم في قضائه، فإما مقررة بالقرآن الكريم؛ كجملة من أحكام النكاح والطلاق، والنفقات والوصية والمواريث، أو أحكام الجنايات؛ كحد السارق والقاذف والزاني والقاتل، وأحكام المعاملات؛ كالرهن وإنظار المعسر ورد الربا، وإما مقرر بالسَّنة، وأمثلة هذه الأحكام غير المنصوص عليها في القرآن مبثوثة في كتب السنة.
فالأحكام التي يفصل بها النبي صلى الله عليه وسلم بين الخصوم، لا بد أن تكون متلقاة من الشارع، إما على طريق النص بوجه خاص أو عام، وإما على طريق الاجتهاد المستمد من الوحي.
فإذا قضى النبي صلى الله عليه وسلم في نازلة، فالحكم الذي يفصل به القضية شريعة دائمة، إلا أن يكون مربوطاً بسبب أو صفة، فإذا زال السبب، أو فقلت الصفة،
صح للمجتهد أن يرجع بالواقعة المتجددة إلى نصوص أو أصول أخرى، ويقرر لها حكماً يلائم مقاصد الشارع في الإصلاح.
فالقاضي يسمع الدعاوى، ويسمع شهادة الشهود، ويتثبت في الدعاوى والشهادات، ويقدر ظروف القضية وأحوال المتقاضين، وله عمل آخر بعد هذا هو تطبيق الحكم الذي قرره الشارع لأمثال هذه القضية، فإذا رفعت إليه قضية ادعى فيها أحد على آخر أنه باع له ثمراً قبل بدو صلاحه، أو باع له ما ليس عنده، سمع القاضي الدعوى، وسمع شهادة الشهود بأنه باع له ثمراً لم يبد صلاحه، أو باع له شيئاً لا يملكه، وتثبت في الدعوى والشهادة، فكان كل منهما مستوفيا لما يشترطه القضاء، ونظر إلى ظروف القضية، وأحوال المتقاضين ما شاء أن ينظر، ولكن هذا كله لا يكفيه في إصدار حكم عادل إلا بعد أن يرجع إلى حكم الشريعة في مثل هذا البيع من صحة أو بطلان، ولا يكون قاضياً عادلاً في نظر الإِسلام إلا أن يجري في فصل القضية على هذا الحكم.
أما المسألة الأصولية التي أشار إليها الكاتب مستشهداً بها على أن أحكامه عليه الصلاة والسلام في دائرة القضاء غير عامة، فقد سيقت على وجه غير الوجه الذي ينبغي أن تساق عليه.
ذلك أن الأصوليين لا يختلفون في أن أحكامه عليه الصلاة والسلام ولو كانت على أشخاص معينين، هي عامة؛ أي: يجب اتباعها في كل قضية تشابه القضية التي قضى فيها عليه الصلاة والسلام، وإنما الخلاف في طريق عمومها، فقال بعضهم: هي عامة بالصيغة التي صدرت منه صلى الله عليه وسلم، وهذا القول معدود في الأقوال الضعيفة بينهم. وقال آخرون: هي عامة بمعناها لا بصيغتها؛ أي: إن حكمه - صلوات الله عليه - في قضية يكون شرعاً متبعاً في كل قضية
من صنف القضية التي حكم فيها، فلو رفع إليه شريك قضية طالباً الشفعة، فقضى له بها، علمنا أن كل شريك مستحق للشفعة، فمن لم يحكم من القضاة للشريك بالشفعة، كان حاكمًا بغير شريعة الإِسلام، فهؤلاء ينكرون أن يكون الحكم عاماً بالصيغة، ويقولون: إن قضايا الأعيان لا عموم لها في الأشخاص، ولكنهم يتمسكون بأن الحكم عام من جهة ارتباطه بسبب أو وصف، فمتى وجد الوصف أو السبب في أي شخص، أو في أي وقت، لزم الحكم لا محالة.
وهذا الذي قرره الراسخون في علم الشريعة يجري في الفتاوى والأقضية على سواء، وإن شئت أن نعرض عليك نصوصاً لبعض هؤلاء المحققين صاغوها في هذا البحث، فإليك بعض نصوصهم:
قال إمام الحرمين في كتاب "البرهان": "إذا خصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً من أمته بخطاب، فهذا مما عده الأصوليون من مسائل الخلاف"، وبعد أن حكى الخلاف قال:"والقول هذا عندي مردود إلى كلام وجيز، فإن وقع النظر في مقتضى اللفظ، فلا شك أنه للتخصيص، وإن وقع فيما استمر الشرع عليه، فلا شك أن خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان مختصاً بآحاد الأمة، فإن الكافة يلزمون في مقتضاه ما يلتزمه المخاطب، وكذلك القول فيما خص به أهل عصره، وكون الناس شَرْعا في الشرع، استبانة ذلك من عهد الصحابة ومن بعدهم، لا شك فيه، وكون مقتضى اللفظ مختصًا بالمخاطب من جهة اللسان لا شك فيه، فلا معنى لعد هذه المسألة من المختلفات، والشقان جميعاً متفق عليهما".
فانظر كيف جعل الحكم الشرعي الذي يتضمنه خطابه صلى الله عليه وسلم لواحد حكماً عاماً باتفاق.
وقال أبو إسحاق الشاطبي في كتاب "الموافقات": "الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة، بمعنى: أنه لا يختص بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض، ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة". وأخذ في الاستدلال على عموم الشريعة حتى قال: "الثالث: إجماع العلماء المتقدمين على ذلك من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولذلك صَيَّروا أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة للجميع في أمثالها، وحاولوا فيما وقع من الأحكام على قضايا معينة، وليس لها صيغ عامة، أن تجري على العموم، إما بالقياس، أو بالرد إلى الصيغة، أو تجري على العموم المعنوي، أو غير ذلك من المحاولات؛ بحيث لا يكون الحكم على الخصوص في النازلة الأولى مختصًا بها، وقد قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37]، فقرر الحكم في مخصوص، ليكون عاماً في الناس، وتقرير حجة الإجماع لا يحتاج إلى مزيد؛ لوضوحه عند من زاول أحكام الشريعة".
فحمل الأحكام في الأحاديث الواردة في قضايا معينة على العموم هو الحق لا شبهة فيه، وهو العقيدة المعروفة عند أهل العلم، حتى من ينكرون القياس منهم، ويبالغون في إنكاره من أهل الظاهر، وهذا ابن حزم، وهو من أشد خصوم القائلين بالقياس، يقول بعموم الحكم في قضايا الأعيان، وإليك بعض ما يقول في كتاب "الأحكام":
"فإن اعترضوا (أي: أصحاب القياس) بأحاديث وردت في أناس بأعيانهم، فليس ذلك مما ظنوا، ولكن جميع تلك الأحاديث فيها أحكام وأصول توجب الأخذ بذلك الحكم في أنواع تلك الأحوال اتباعاً للفظ الحكم
المعلق على المعنى المحكوم فيه".
ثم قال: "وقد بينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعث ليحكم على أهل عصره فقط، لكن على كل من يأتي إلى يوم القيامة".
ثم قال: "كل خطاب منه صلى الله عليه وسلم لواحد فيما يفتيه فيه، ويعلمه إياه، هو خطاب لجميع الأمة إلى يوم القيامة، وتعليم منه عليه الصلاة والسلام لكل من يأتي إلى انقضاء الدنيا".
ثم قال: "ومما يبين قولنا قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة في الأضحية بعنَاق جذعة: "تجزئك، ولا تجزئ أحداً بعدك"، فبين صلى الله عليه وسلم أن هذا الحكم خصوصي لأبي بردة، ولو كان فتياه لواحد لا يكون فتيا في نوع تلك الحال، لما احتاج عليه الصلاة والسلام إلى بيان تخصيصه، ومثله قوله تعالى:{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50].
ولا فرق في عموم أحكامه عليه الصلاة والسلام بين أن يقول الراوي: قضى لفلان على فلان بكذا، وأن يأتي بصيغة عموم نحو:"قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يقتل الوالد بولده (1) "، و"قضى أن الحامل إذا قتلت عمداً، لم تقتل حتى تضع ما في بطنها، وحتى تكفل ولدها"، و"قضى باليمين مع الشاهد".
هذا ما يقرره علماء الإِسلام في قضايا الأعيان من أنها عامة بحكمها، وأدلتهم في هذا قاطعة، ومما يعززها قوله صلى الله عليه وسلم:"إني لا أصافح النساء، وما قولي لامرأة واحدة، إلا قولي لمئة امرأة"، وهذا من الأحاديث التي ألزم
(1) الترمذي.