الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قضاء البعثة المحمدية على المزاعم الباطلة
(1)
بُعث الرسول الأعظم - صلوات الله عليه - بالدعوة إلى الإصلاح الذي تصل به الأفراد والأمم إلى الحياة الطيبة في الدنيا، والسعادة العظمى في الأخرى، ونواحي هذا الإصلاح ترجع إلى العقائد والأخلاق، والعبادات المقربة إلى الله جل جلاله، والمعاملات الجارية بين الناس.
وهناك ناحية أخرى هي: تنقية النفوس من المزاعم الباطلة، والتعلق بالعادات المستهجنة، قد اتجهت إليها دعوة الرسول الذي نحتفل بذكرى ميلاده في هذه الليلة المباركة، وهذه الناحية هي التي نقصد أن نلقي فيها كلمتنا الموجزة:
بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد العرب في ظلمات من الجهالة، ومن هذه الظلمات: ظلمة التخيلات الزرية، والعادات الممقوتة، فأقبل ينبه على بطلان هذه التخيلات، وقبح ما ابتني عليها من العادات، حتى نبذها المسلمون بحق، وبمثل هذا كانوا خير أمة أخرجت للناس.
وبسط الحديث عن هذه المزاعم والعادات يستدعي مقاماً أوسع من
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" -الجزء العاشر من المجلد العاشر الصادر في ربيع الثاني 1357 - 1938. محاضرة الإمام في احتفال جمعية "الهداية الإسلامية" بذكرى المولد النبوي المجيد في مساء يوم الخميس الثاني عشر من ربيع الأول 1357.
هذا المقام، فنكتفي بأن نسوق إلى حضراتكم طائفة منها على سبيل التمثيل، وندع استيفاء البحث عنها إلى فرصة أخرى.
وإذا تحدثت في هذه الكلمة عن العرب، فلأنهم أول أمة تلقت هذه الدعوة الإصلاحية الشاملة، ووقعت منها موقع الدواء الناجع من العلل المزمنة.
ومن حديثي عن العرب، يعرف أثر دعوته عليه الصلاة والسلام في تخليص سائر البشر من التخيلات الضارة، والسمو بها إلى المنزلة العليا في البحث والتفكير؛ فإن الأمم غير العربية لم تكن في تعلقها بالأوهام وانحطاطها في العادات بأقل ولا أحقر من الأمة العربية قبل الإسلام، كما أنها كانت تضاهيها في بطلان عقائدها، واعوجاج سيرتها.
ولعلك لا تجد زعماً باطلاً في العرب إلا وجدته بنفسه، أو وجدت ما يضاهيه في غير العرب، وإذا حط الشرك والاعتقاد بإلهية المخلوق رحاله في قوم، فهنالك ترى البصائر في ظلمة، وهنالك يبيض التخيل ويفرخ، وهنالك تسمع وترى من الأباطيل والخرافات ما يدلك على أن أشخاصاً أو جماعات يعدون في الناس، وهم لا يشبهون الناس إلا بأن أصواتهم تشتمل على حروف متمايزة.
كان العرب يتشاءمون بكثير من الأشياء؛ نحو: الغراب، والبومة، أو مرور الطير من ناحية الشمال، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التشاؤم بإطلاق، فقال:"لا طيرة"، ونبه على أن وجوه الخير والشر إنما تعرف من طريق الشرع أو العقل. ومن سوء عواقب التشاؤم بهذه المخلوقات أنها قد تصد الرجل عن وجهة لو مضى فيها، لنال خيراً كثيراً أو قليلاً.
ومن المحزن أن ينهى رسول الله صلى الله عليه وسلم -عن التشاؤم، ويزيحه من طريق العاملين المجدين، ويضع عقيدة التوكل على الخالق مكانه، ثم لا يلبث وباؤه الخبيث أن يعود، ويتفشى في نفوس كثير من جماعات المسلمين، فهذا يتشاءم بمن يعوده وهو مريض في يوم الأربعاء، وذاك يتشاءم بتناول سكتتين أو مقراض من يد صديق له، بل لا يزال كثير من الناس يتشاءمون بما كان الجاهلية يتشاءمون به من نحو: رؤية البوم والغراب. والبصائر المشرقة بنور الحكمة لا يحوم عليها التطير في حال.
وكان العرب في جاهليتهم يستقسمون بالأزلام؛ ذلك أنهم كانوا يتخذون ثلاثة أقداح يكتبون على واحد منها: (افعل)، وعلى الثاني:(لا تفعل)، ويتركون الثالث غُفلًا، فإذا أراد أحدهم أمرًا يهمه؛ من نحو سفر، أو نكاح، أو تجارة، أجال هذه الأقداح، فإن خرج له قدح الأمر، فعل، وإن خرج له قدح النهي، ترك، وإن خرج له القدح الغفل، أجال الأقداح مرة ثانية. ومن أثر هذا التخيل الفاسد: أن الرجل قد يترك العمل وفيه خير كثير، أو يقدم على عمل وفيه شر عظيم. وكان هذا التخيل مما تناولته الدعوة المحمدية، وجاء النهي عنه في القرآن المجيد، ووضعت السنة الغراء مكانه الاستخارة الشرعية والاستشارة.
وإبطال الشريعة للأزلام يجري حكمه في كل ما يتخذ وسيلة للاطلاع على عواقب الأمور من غير طرقه الشرعية أو العلمية؛ مثل: الاستخارة بالمصحف، أو السبحة، ونحوها، فكل هذا ما عدا الاستخارة الشرعية بدعة لا يجوز التعلق بها.
وكان للعرب غلو في الاعتقاد بتصرف الجن في نفع الناس وضرهم،
وتعرضهم في الفلوات لمن يمر بها، ومن هنا جاء اسم الغول والسعلاة، وذهب بهم هذا الغلو إلى مزاعم باطلة، وعادات منبوذة؛ كزعمهم في بعض الحيوان أنها نوع من الجن، أو من مراكب الجن، مثل: القنفذ، والأرنب، والظبي، والنعام، وزعموا أن الجن قالوا في أشعارهم:
وكل المطايا قد ركبن فلم نجد
…
ألذ وأشهى من ركوب الأرانب
وللعرب في الجاهلية رقية يعالجون بها من اعتقدوا أن به مساً من الجن، تسمى:"النشرة"، وقد سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"هي من عمل الشيطان". وكذلك ترى القرآن والسنة يحاربان إسراف العرب في الاعتقاد بالجن، وينبهان على ما نشأ عن هذا الإسراف من المزاعم الباطلة؛ كما قال تعالى في نفي أن يكون الجن يعلمون الغيب:{فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14]. وقال صلى الله عليه وسلم في إبطال ما يتخيلونه من الغول: "لا صفر، ولا غول".
ومما يؤسف له أشد الأسف: أن تعود الجماعات غير المهذبة إلى الاكثار من الحديث عن تصرفات الجن، ويتخذوا لمعالجتها أمثال ما كان في عهد الجاهلية؛ كهذا الصنيع الذي يسمونه:"الزّار".
وما كنا لنجد سلفنا الذين تهذبت نفوسهم ببعثة الرسول الأكرم - صلوات الله عليه - ما نجده في أزمنة متأخرة من المزاعم المتعلقة بالجن؛ كزعم اتخاذ زوجات منهم، أو رواية أحاديث نبوية عن بعضهم.
ومن مزاعمهم الفاسدة: أنهم كانوا إذا أجدبوا، وحبس عنهم المطر، عمدوا إلى نوعين من الشجر يقال لهما: السلع والعشر، فحزموهما، وعقدوهما في أذناب البقر، وأضرموا فيها النار، وأصعدوها في جبل وعر يستشفعون
بها، وإلى هذا يشير الشاعر بقوله:
أجاعل أنت بيقوراً مسلعة
…
دريعة لك بين الله والمطر
وقد أبطلت الدعوة المحمدية هذه العادة المنكرة، ووضعت مكانها صلاة الاستسقاء التي هي عبادة لله خالصة.
ومن البلاء: أن ترى أقواماً من العامة في بعض البلاد يتخذون للاستسقاء وسائل تشبه ما يفعله الجاهلية؛ كالخروج ببعض الأناشيد وآلات الطرب، ونحو ذلك من البدع التي لم يضعها الشارع الحكيم وسائل للاستقاء.
ولنسق إلى حضراتكم مثلاً آخر من المزاعم التي حاربها الرسول عليه الصلاة والسلام، هو: اعتقادهم بنفع خرزات أو أحجار أو أعضاء بعض الحيوان، فكانوا يعلقونها على أنفسهم لأغراض مختلفة؛ مثل: اجتلاب المحبة، أو المنع من الحمل، أو السلو عن الحب، أو الحفظ من مس الجن. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تعليق ما يماثل هذا من التمائم، فقال:"من يعلق تميمة، فلا أتم الله له"، وامتنع عليه الصلاة والسلام من مبايعة شخص كانت عليه تميمة، فأدخل الرجل يده فقطعها، فبايعه عند ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:"من علق تميمة، فقد أشرك"، وقال:"من علق شيئاً، وكل إليه".
وهذه الأحاديث - وإن وردت في تمائم الجاهلية -، فإن السلف الصالح لم يعرفوا بتعليق التمائم، وإنما كانوا يستشفون بالقرآن الكريم على وجه الرقية كما ثبت في السنة.
وإذا نظرتم إلى هذه المزاعم والعادات التي أبطلتها الدعوة المحمدية، وجدتم بعضها أثراً من آثار عقيدة الشرك، وبعضها إنما هو أثر الجهل
وضعف الفكر.
فمن مزاعمهم التي هي وليدة الشرك: أخذ الغلام لسنه إذا سقطت، ورميها في وجه الشمس عندما تطلع، وقوله: يا شمس! أبدلينا سناً أحسن منها. وهذا أثر من آثار الاعتقاد بإلهية الشمس.
ومن المحزن أنا نرى هذه العادة الوثنية بعد أن طردها التوحيد، ونفاها من الأرض، ترجع وتنتشر بين الجماعات الجاهلة ككثير من مزاعم الجاهلية وعاداتهم.
ومن المزاعم الناشئة عن الجهل وضعف الفكر: أن الواحد منهم إذا أراد السفر، عقد خيطًا بشجرة على اعتقاد أنه متى أحدثت امرأته بعده أمرًا منكرًا، انحل ذلك الخيط. وفي هذا الزعم الساقط ضرر كبير على صلة الزوجية، وعلى عرض المرأة؛ فإن الخيوط التي تعقد في الأشجار، معرضة للحل أو الانحلال في كل وقت.
فالحق أن من وقف على هذه الأوهام والخرافات التي كان العرب وغير العرب منغمسين في أرجاسها، ازداد علماً بعظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضل بعثته في إصلاح العقول، وتهيئة الأفكار للبحث في العلوم، والسير بها إلى غايات سامية.