الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"وخلاصة ما يرمي إليه المقال (يعني: مقال الشيخ شلتوت): أن الذي يعد شرعاً دائمًا: هو ما يرجع إلى شخصيات الرسول من العقائد، وأصول الأخلاق، والعبادات، وما عدا ذلك مما يرجع إلى شخصية الإمام أو المفتي أو القاضي، فليس بشرع دائم، وإنما هو شرع مؤقت يمكن أن يتأثر بالاجتهاد، وأن يترك العمل به لسبب من الأسباب". والتوقيع "عالم".
قرأت هذه الكلمة، فدعتني بإلحاح إلى أن أطلع على مقال الأستاذ محمود شلتوت عضو جماعة كبار العلماء، ووكيل كلية الشريعة؛ لأتبين أمر هذا الذي يعزوه إليه كاتب تلك الكلمة، فأحضرت ذلك المقال المنشور تحت عنوان:"الهجرة وشخصيات الرسول"، وقرأته قراءة خالي الذهن مما قيل فيه، فما لبثت أن لاقتني جمل صيغت في قالب ذي وجهين، وأطلَّت عليَّ آراء قلت لما لمحتها: أما وجدت هذه الآراء وادياً غير هذا الوادي، أو عهداً غير هذا العهد؟ وأمسكت بالقلم ناقداً لها بعدل، مناقشاً لها بإنصاف.
وسأرسلك - بتوفيق الله تعالى - الطريقة التي اخترتها لنفسي في مناقشة ما يبدو لي أنه جدير بالمناقشة، فأنقل عبارات كاتب المقال بأعيانها؛ لأسير أنا والقارئ في النقد جنباً لجنب، ولا أظلم صاحب المقال، ولا أظلم الحق أو العلم.
*
اتجاه الوحي بمكة:
ذكر كاتب المقال: "أن الوحي كان له اتجاهان: اتجاه قبل الهجرة، واتجاه بعدها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يساير الوحي في هذين الاتجاهين، ويحتفظ بما يؤدي إلى الغاية منهما، وابتدأ بالحديث عن اتجاه الوحي في مكة، ثم
اتجاه النبي عليه الصلاة والسلام فيها، فقال:
كان الوحي يدور أولاً حول تحديد الدعوة، وبيان الغرض منها، ولفت الأنظار إلى أدلتها، وذكر ما ينفع فيها من قصص الأولين، وعبر الماضين، وتسلية الرسول، وتحري عوامل القوة الروحية في نفسه، وتعويده عدم الاكتراث بما يجابه به من الإيذاء والتكذيب والاضطهاد، وقد اتجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الناحية في تفكيره وأعماله وأقواله وسائر تصرفاته، يبلغ الدعوة، ويعالج الصبر على الإيذاء في سبيلها، ويحاول جمع القلوب حولها، ويرسم للناس دائرتها، ويركز أصولها في النفوس، ويعمل على إيجاد بيئة إسلامية صالحة لما يرد عليها فيما بعد من مبادئ التشريع".
تحدث الكاتب عن اتجاه الوحي بمكة، وذكر أنه كان يدور حول تحديد الدعوة، وحدثنا عن اتجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه كان يرسم دائرة الدعوة، ولم يفصح الكاتب هنا عن وجه تحديدها، أو رسم دائرتها، وستمر بنا جمل من مقاله تلوح إلى حدود وظيفة الرسول السماوية، وتجعلها في دائرة أضيق من دائرتها، وسنناقشها برفق، وندفع شبهتها بحجَّة.
قال الكاتب: "إن الوحي في مكة كان يدور حول تحديد الدعوة، وبيان الغرض منها، ولفت الأنظار إلى أدلتها". وهذه الجمل تخيل إلى القارئ أن الوحي في مكة وقف دون شرع الأحكام العملية، وأن مبادئ التشريع إنما تناولها الوحي بالمدينة، والواقع أن الوحي بمكة قد شرع أحكامًا ترجع إلى العبادات، وأخرى إلى العادات أو المعاملات: شرعت هنالك الصلوات الخمس، ونزل الوحي فيما يحل ويحرم من المطعومات، ووردت آيات وأحاديث في الأمر بأعمال صالحة؛ كسد حاجات الفقراء، وأخرى في النهي
عن أعمال خاسرة؛ كالظلم، وقتل النفس، والزنا، وما يشبه الزنا، والسرقة والنهب، ونقص الكيل والميزان، والإسراف في الإنفاق، والتصرف في مال اليتيم بغير حق.
وكانت المعاملات من نحو النكاح والعتق والبيع والإجارة والهبة تقع من العرب على وجوه، فإذا صحت الرواية بأن شيئاً منها وقع من النبي صلى الله عليه وسلم، أو من غيره من الصحابة بمكة، وهو يعلم، عدَّ الوجه الذي وقعت عليه تقريراً من الشارع، وساغ لمن يبحث في تاريخ التشريع أن بدخله في حساب المشروعات المكية، ونرى علماء الشريعة يستشهدون بأحاديث مكية على طائفة من أحكام المعاملات، كما استشهدوا على صحة عقد نكاح غير البالغة بعقد النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين، واستشهدوا على صحة عمل المسلم لغير المسلم على وجه الإجارة دون أن يتخذه خادماً في منزله الخاص، بصنع خباب الصحابي سيفاً للعاص بن وائل.
ونزل الوحي في مكة بأوامر ونواه تم تفصيل ما أمرت به أو نهت عنه في المدينة، كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90]، وقولى تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، وقوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
وقد تنزل آيات في نحو الوعيد أو الوعد أو الامتنان، متضمنة بطريق الاقتضاء أحكاماً شرعية يقصد إليها المجتهدون بالاستنباط، ويذكرونها في
مآخذ الأحكام، وقد اشتمل الوحي بمكة على طائفة من الأحكام الواردة على هذا الوجه من الدلالة؛ كما يستنبط عدم مؤاخذة الرجل بجريرة قريب من نحو والد أو ولد من قوله تعالى فيما نزل بمكة:{وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
ونبهت الآيات المكية على قواعد يرجع إليها المجتهدون في تقرير أحكام كثير من الوقائع، كقاعدة: سد الذرائع المنبه لها بقوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، وقاعدة: العفو عما يقال أو يفعل تحت إكراه، المنبَّه لها بقوله تعالى:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، وقاعدة: الضرورات تبح المحظورات المنبَّه لها بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173].
ولو تمسكنا بكل آية قال فيها طائفة من أهل العلم: إنها نزلت بمكة، وخالفهم فيها آخرون، لجمعنا أحكاماً كثيرة، وأصولاً غير ما ذكرنا.
والأئمة الذين يرون أن شرع من قبلنا -الذي يقصه علينا القرآن، أو الحديث الصحيح- شرع لنا، ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه، يجدون في قصص الأنبياء التي نزلت بمكة أحكاماً وأصولاً ترجع طائفة منها إلى المعاملات، وشؤون الاجتماع، وسياسة القضاء.
ويستبين من هذا: أن الوحي بمكة لم يمض عهده إلا وقد قطع شوطاً واسعاً فيما جاء له من التعبد والتشريع، فلا يحسن من المتحدث عن ذلك العهد أن يصرف النظر عما بناه الوحي فيه من أحكام وأصول، ولا ينبه له في حديثه عن سيرة الدعوة.
ذكر الكاتب أن للوحي اتجاهاً، وللنبي صلى الله عليه وسلم اتجاهاً، وجعل من آثار اتجاه النبي عليه الصلاة والسلام العمل على إيجاد بيئة إسلامية صالحة لما يرد عليها بعد من مبادئ التشريع، والواقع أن للوحي في هذا العمل فضل الآمر به، وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد قال:"لما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى"، وذكر كيف كانوا يأتون مجالس العرب (1).
وكان عليه الصلاة والسلام ينتظر بالهجرة من مكة إلى المدينة إذن الله فيها، ولم يقدم عليها حتى جاءه الوحي، وهذا ابن عباس كانه قد قال:"بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة يوحى إليه، ثم أُمر بالهجرة، فهاجر عشر سنين (2) ". وهذه عائشة رضي الله عنها تقول: "تجهز أبو بكر قِبَلَ المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على رسلك؛ فإني أرجو أن يؤذن لي"، فقال أبو بكر: "وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ " قال: "نعم"، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وقالت: "ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر في نحر الظهيرة متقنعاً، ودخل عليه، قال له:"فإني قد أُذن لي في الخروج (3) "، وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم أن الله أمره بالهجرة إلى المدينة، أو بسكناها إذ قال:"أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون: يثرب، وهي المدينة"(4).
(1) أخرجه الحاكم، وأبو نعيم، والبيهقيُّ في "الدلائل".
(2)
"صحيح البخاري".
(3)
"صحيح البخاري".
(4)
"صحيح البخاري".