الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
اتجاه الوحي بالمدينة:
قال كاتب المقال: "لما تمت الهجرة، دخلت الدعوة في عهد جديد تكونت به للمسلمين وحدة اقتضت معاملات ونظماً اجتماعية تمتاز بها عن سائر الجماعات".
"وبعد ذلك الحين اتجه الوحي إلى جهة أخرى تسير مع مقتضيات الحالة الجديدة، وتلبي مطالب هذه الأمة الناشئة، واتجه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاتجاه نفسه، فأضيف بذلك إلى وظيفته في التبليغ وظائف أخرى، فكان إماماً للمسلمين، يسوسهم، ويرعى دولتهم، وينظم شؤونهم، وكان مفتياً يجيبهم عما يسألون، ويعلمهم ما يجهلون، وكان قاضياً يفصل في خصوماتهم، ويقضي بينهم معتمدًا على ما يظهر به الحق من البينات والأدلة".
ذكر الكاتب العهد الجديد الذي تكونت به للمسلمين وحدة معاملات، ونظم اجتماعية، ووصف الوحي بأنه اتجه إلى جهة تسير مع مقتضيات هذه الحالة الجديدة، ثم وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه اتجه هذا الاتجاه نفسه، وتخلص من هذا إلى أنه قد أضيف إلى وظيفته في التبليغ وظائف أخرى هي: الإمامة والفتوى والقضاء، وإليك ما نفهمه من تلبية الجهة التي اتجه إليها الوحي لمطالب هذه الأمة الناشئة:
أراد الله تعالى أن يهدي الناس - أينما وجدوا ومتى وجدوا - طريق الحق والإصلاح، وأن تكون هدايتهم بطريق رسالة عامة، لباسها الحكمة، وزينتها البلاغة، ونصيرها الحجة، واصطفى لهذه الرسالة محمداً صلى الله عليه وسلم، وأخذ يمده بالوحي الفينة بعد الفينة، إلى أن تكامل الدين، وانتظمت الشريعة:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3]، وكان من حكمة الوحي
أن يلقن الناس أحكام العبادات والمعاملات وشؤون الاجتماع رويداً رويداً؛ ليخف عليهم أمرها، ويسهل عليهم حفظها، فيصلحوا بها سير حياتهم، ويسوسوا بها غيرهم من الجماعات ما استطاعوا السبيل إلى إبلاغها وإنفاذها، وكان من حكمة الوحي: أن اتخذ من حالة الأمة الناشئة لذلك العهد أسباباً لورود الأحكام التي جاء بها؛ لتكون شريعة عامة خالدة، فإذا لبّى الوحي مطالب هذه الأمة الناشئة، فقد لبَّاها بتشريع ذي نصوص وأصول يقصد منها إصلاح حال كل أمة أينما وجدت، ومتى وجدت.
ثم إن الكاتب إذ ذكر اتجاه النبي صلى الله عليه وسلم في مقابلة اتجاه الوحي يريد: الاتجاه الذي يصدر عنه "بحق بشريته"، وقد انتقل من ذكره اتجاه النبي عليه الصلاة والسلام في المدينة بطريق حرف الترتيب والتعقيب إلى أنه أضيف له وظائف أخرى، ولا ندري: أيريد الكاتب أن هذه الوظائف أضيفت إليه من اتجاهه خاصة، أو يريد: أنها أضيفت إليه من اتجاهه واتجاه الوحي؟ فإنه يقول: "فأضيف بذلك إلى وظيفته في التبليغ وظائف أخرى"، فاسم الإشارة في قوله:"بذلك" ظاهر في عوده إلى اتجاه النبي عليه الصلاة والسلام وحده، ومحتمل لأن يعود إلى اتجاهه واتجاه الوحي بحمل ما يشار به إلى المفرد على أنه مشار به إلى اثنين، أما جعل هذه الوظائف صادرة من اتجاهه وحده، فغير معقول، والقرآن شاهد بأنه تولى الإمامة والقضاء بوحي؛ على ما نحدثك به من بعد، وليست الفتوى إلا تعريفًا للحكم الشرعي، فهي ظاهرة في معنى التبليغ المأمور به في مثل قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67].
وإذا أراد الكاتب أن هذه الوظائف أضيفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اتجاهه
خاصة، فقد التقى من قريب بمن حاول أن يقصر مهمة الرسول السماوية على البلاإ دون التنفيذ، وقال:"إن عمله السماوي لا يتجاوز حدود البلاع المجرد من كل معاني السلطان"(1).
ومن الحق أن تكون هذه الوظائف الثلاث موصولة بالاتجاهين على معنى: أن الوحي اتجه إليها اتجاه تشريع، والنبي صلى الله عليه وسلم اتجه إليها اتجاه الفاهم لنصوص الوحي ومقاصده، والمنفذ لها بحق.
قال كاتب المقال: "وقد صدرت عنه صلى الله عليه وسلم في جو هذه الحياة الجديدة أقوال وأفعال وتصرفات مختلفة، عني بها المسلمون عناية فائقة هي مضرب الأمثال في عناية الأمم بتاريخ عظمائها، وتتبع آثارهم، دوَّنوها، وشرحوها، وضبطوا ألفاظها، وألَّفوا المعاجم في شرح غريبها، واهتموا بتفهم أسرارها، وتبين أغراضها، حتى كان من آثار ذلك: أن نشأت علوم خاصة تعرف "بعلوم السنَّة"؛ من رواية ودراية، وتجريح وتعديل، وناسخ ومنسوخ، وغير ذلك".
يقول الكاتب: إن المسلمين عنوا بما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم في جو تلك الحياة الجديدة، والمعروف أن المسلمين عنوا بما صدر عنه في حياته قبل الهجرة وبعدها، وكتب السنّة عامرة بأقوال وأفعال صدرت منه عليه الصلاة والسلام بمكة قبل الهجرة، وهذه الأقوال والأفعال داخلة فيما دوَّنوه، وشرحوه، وضبطوا ألفاظه، واهتموا بتفهم أسراره، وتبين أغراضه، ولا يغيب عن أحد تتبعَ السيرة في مواردها الصحيحة: أن كثيراً من أقواله عليه الصلاة والسلام، وأفعاله بمكة كان لها أثر كبير في بناء عظمته، وتثبيت رسالته،
(1) كتاب "الإِسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق. وللإمام كتاب الرد عليه "نقض كتاب الإِسلام وأصول الحكم".
وتأسيس شريعته، فالواقع أن علوم السنة ناشئة عن تدوين ما صدر في حياته بمكة والمدينة.
قال كاتب المقال: "يهم الناظر في التشريع الإِسلامي أن يعرف هل كان النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يروى عنه من هذه الأقوال وتلك الأفعال والتصرفات مصدرًا عن الوحي، ناطقًا بلسانه، أو كان له - إلى جانب الوحي - فيها تفكير ونظر واجتهاد؟ ذلك ما نريد معالجته في هذا البحث".
قد عالج علماء الإِسلام هذه الناحية من السيرة، وأسهبوا فيها القول حتى بلغوا الغاية، ورأيناهم قد قسموا أقواله وأفعاله إلى ما كان صادراً عنه من حيث إنه رسول يوحى إليه، وما كان صادراً عنه من ناحية أنه بشر يفكر ويجتهد، وسنتناول هذه المسألة فيما بعد بتفصيل حتى تستبين وجهة نظر العلماء فيها، ويتضح الفرق بين معالجتهم لها، ومعالجة كاتب المقال.
قال كاتب المقال: "يرى بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم مبلِّغ عن الله فقط، تنحصر مهمته في تبليغ الوحي، وما يتصل به من بيان على الوجه الذي ضمنه الله بقوله:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18، 19].
ويرون أن صفة الرسالة فيه غلبت على صفة البشرية، وأنه عليه الصلاة والسلام تمحض في استعداده لحمل الرسالة وتبليغ الأمانة، معتمدين في ذلك على ما فهموا من قوله تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]، بعد قوله:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3] ".
لا ندري مَن هؤلاء العلماء الذين يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم مبلّغ عن الله فقط، وأنه تمحض في استعداده لحمل الرسالة وتبليغ الأمانة؛ فإن علماء الإِسلام مجمعون على أن من أقواله وأفعاله ما لم يصدر عن وحي، وسنقيم على هذا
شواهد من بعد.
وهذا الذي نسبه كاتب المقال إلى بعض العلماء، قد نسبه الدكتور زكي مبارك إلى المسلمين، فقال في مقال نشر في مجلة "الرسالة" (1):"إن المسلمين يجعلونه رسولاً في جميع الأحوال، فهو لا يتقدم ولا يتأخر إلا بوحي من الله، ولا يأخذ ولا يدع إلا بإشارة من جبريل، ومعنى ذلك: أن شخصية محمد في جميع نواحيها شخصية نبوية لا إنسانية".
قال كاتب المقال: "رأوا هذا، ورتبوا عليه أن كل ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم شريعة من الله رب العالمين، لها صفة الدوام والبقاء إلى يوم الدين، والناس مخاطبون بها في كل زمان ومكان، لا يجوز لهم أن يحيدوا عنها، قيد شعرة، ومن حاد عنها أو سوغ لنفسه أن يتصرف فيها، فذلك خارج على شريعة الله، مخالف عن أمر الله، غير جدير بأن يكون من المؤمنين".
من المحتمل أن توجد طائفة من العلماء يقولون: إن كل ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم شريعة من الله رب العالمين، وليس من المحتمل أن توجد طائفة من العلماء يجعلون كل ما أثر عنه عليه الصلاة والسلام من قبيل ما لا يجوز للناس أن يحيدوا عنه قيد شعرة، ويحكمون على من حاد عنه بأنه خارج عن شريعة الله، غير جدير بأن يكون من المؤمنين.
أفلا يعلم هؤلاء العلماء أن في الشريعة واجبات ومندوبات ومباحات، وأن المندوبات والمباحات لا يصح أن يقال فيمن تركها: إنه خارج على شريعة الله، غير جدير بأن يكون من المؤمنين؟!
(1) جزء المحرم سنة 1358.
قال كاتب المقال: "يقولون ذلك، ويتشدودن فيه، ولا يفرقون بين أقواله وأفعاله، وأحكامه وأقضيته وسائر تصرفاته في العبادات والمدنيات، والجنايات والطب والسياسة والحروب والعادات، والزي واللباس، وآداب الطعام والشراب، والجلوس والسير في الطريق، وما يكون من الأحوال الشخصية والمسائل الجنسية، وغير ذلك، فكل هذا وحي من الله، بعضه ظاهر، وبعضه باطن، وكله شرع محكم، ودين متبع، لا يجوز الخروج عليه، والتصرف فيه".
من ذا يعقل أن طائفة من العلماء يقولون: إن جميع أقواله صلى الله عليه وسلم وحي من الله، وشريعة محكمة، وهم يجدون أمامهم - متى كانوا من العلماء - أحاديث يخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء شاهدها بعينه، أو سمعها بأذنه، أو أحسها بوجدانه؛ كالحب والبغض، والسرور والحزن، والعطش والجوع، وأحاديث يوجهها الأشخاص في صيغة استفهام، وأحاديث يقول فيها: أظن كذا، إلى غير ذلك مما لا يقول عالم أو غير عالم: إنه لا يصدر إلا عن وحي.
وأما أفعاله عليه الصلاة والسلام، فإنا نجد علماء الأصول يفرقون بين ما كان جبلَّة، أو عادة، وبين ما كان فيه معنى القربة، ويقولون: ما كان جبلَّة، فهو غير داخل فيما يطالب الناس بالاقتداء به، ومنهم من يذكر هذا، ولا يحكي فيه خلافاً؛ كما فعل إمام الحرمين في "البرهان" إذ قال:"والأفعال الجبلية؛ كالسكون والحركة، والقيام والقعود، وما ضاهاها من تغاير أطوار الناس، فإذا ظهر ذلك، فلا استمساك بهذا الفن من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم"، قال هذا، ولم يحك فيه خلافاً، مع عنايته بذكر ما يقع في مسائل الأصول من اختلاف،
ومنهم من يذكر هذا النوع من أفعاله، وينفي أن يكون فيه نزل؛ كما فعل الآمدي، والأسنوي، ومنهم من ينفي أن يكون فيه خلاف؛ كما فعل عبد العزيز البخاري شارح "أصول البزدوي"، ومنهم من يحكي الاتفاق عليه كما فعل صاحب "مسلم الثبوت".
وحكى بعض الأصوليين أن فيما ظهر فيه أمر العادة قولاً بأنه مندوب إليه، وهو قول شاذ، ولشذوذه أهمله كثير من الأصوليين، فلم يذكروه في كتبهم، وروي عن ابن عمر: أنه كان يحاكي النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا النوع من العاديات، كما كان يتحرى مواطن وقوفه ومشيه، ويتحرى منازله وطرق سيره في الحج، ولهذه المحاكاة وجه آخر غير الندب، وهو التبرك بالتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولو فيما يفعله على أنه عادة.
والراسخون في علم الشريعة يفرقون في أفعاله عليه الصلاة والسلام بين ما كان من قبيل الشرعيات، وما كان من قبل الجبلَّةِ أو العادات، ويبنون على هذه التفرقة: المطالبة بالاقتداء، وعدم المطالبة به، وقد تختلف أنظارهم في بعض أفعاله صلى الله عليه وسلم، فيراها بعضهم من قبيل الشرعيات، فتكون موضع القدوة، ويراها آخرون من الجبلَّات أو العادات، فلا تدخل في قبيل ما يقتدى به، وكثيراً ما يجري هذا الاختلاف في أفعال تقترن بعبادات؛ كضجعته صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر، وركوبه في الوقوف بعرفه، وجلسة الاستراحة بين السجدة والقيام لركعة ثانية أو رابعة. وقد تختلف أنظارهم في فعل من أفعاله لا يتصل بعبادة؛ كإرساله عليه الصلاة والسلام شعر رأسه إلى أذنيه، إذ ذهب طائفة إلى أن هذا الفعل من السنَّة، وذهب آخرون إلى أنه من قبيل العادة، وهو الراجح فيما نرى.
وإذا كان العلماء قد فرقوا بين ما يفعله على أنه شرع، وما يفعله على أنه جبلَّة وعادة، فإن التفرقة في أقواله بين ما يصدر على أنه عادة، وما يصدر على أنه شرع، أيسر وأقرب إلى الفهم، والاشتباه فيها أقل من الاشتباه في الأفعال؛ فإن في الأقوال التصريح بحرمة الشيء أو الإذن فيه، وفيها صيغتا الأمر والنهي، وفيها مدح الأفعال أو ذمها، وفيها الوعد بالثواب على الفعل، والوعيد بالعقاب على الترك، وقد يجيء القول في صيغة الخبر، وهو مقترن بلفظ أو حال يصرفه إلى الطلب أو النهي، وهذه طرق معروفة في التشريع، وإنما يجري الخلاف في وجه الطلب: هل هو الإيجاب، أو الندب؟ أو في وجه النهي: هل هو الحرمة، أو الكراهة؟
فإن قال الكاتب: أنكر على هذه الطائفة أن تعمد إلى الأقوال التي تحتمل أن تكون عن اجتهاد، فيجعلوها كلها من قبيل الوحي، قلنا له: المعروف في كتب الأصول: أن طائفة ينكرون أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم متعبداً بالاجتهاد، ويذهبون إلى أنه لا يقول إلا عن وحي، ويستدلون لهذا المذهب بآية:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]، وإيراد الأصوليين كلمة التعبد في طرح المسألة، ظاهر في أن موضع الخلاف هو الاختلاف العائد إلى الأحكام الشرعية دون الأمور الدنيوية، وقد صرح بذلك الإمام الغزالي في كتاب "المستصفى" عند ذى الخلاف في اجتهاده عليه الصلاة والسلام وسوقه لأدلة القائلين باجتهاده التي من جملتها: واقعة نزوله دون المياه في غزوة بدر، فقال:"أما المنزل، فذلك اجتهاد في مصالح الدنيا، وذلك جائز بلا خلاف، إنما الخلاف في أمور الدين".
وتحدث كاتب المقال عن هذه الطائفة التي تقول: إن كل أفعاله وأقواله
وسائر تصرفاته وحي، ونسب إليها أنها تقول:"كل هذا وحي من الله، بعضه ظاهر، وبعضه باطن". وتقسيم الوحي إلى ظاهر وباطن اصطلاح معروف عند بعض الأصوليين الذين يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد، ويفسرون الوحي الظاهر بما ينزل به المَلَك بلفظه، أو ما يقذفه المَلَك في القلب، وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم:"إن روح القدس نفث في روعي"، أو ما يبدو للقلب بإلهام من الله تعالى؛ ويفسرون الوحي الباطن بما ينال باتجهاد الرأي بالتأمل في الأحكام المنصوصة؛ وإنما جعل اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم وحيًا باطنًا؛ لأن إقراره عليه يدل على أن الأحكام الصادرة عنه حق لا مرية فيه؛ كالأحكام الثابتة بطريق من طريق الوحي المشار إليها آنفاً، ومن هؤلاء من يجعل الوحي الباطن: الإلهام والاجتهاد.
فتقسيم الوحي إلى ظاهر وباطن صادر ممن يقولون باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، والكاتب ينسبه إلى الطائفة التي تقول: إن كل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله. قال كاتب المقال: "وقد تجد قوماً منهم يستثنون من ذلك بعض الأشياء التي لا تتصل بالنواحي التشريعية؛ كرأيه صلى الله عليه وسلم في تأبير النخل، أو في اختيار مكان ينزلون فيه للحرب، أو نحو ذلك، ولكنهم حين يتحدثون عن هذا الاستثناء يحتاطون في الأمر تمام الاحتياط، فيضيقون دائرته، ولا يتسعون فيه".
الذين يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلم إلا عن وحي يجعلون موضوع كلامهم الأحكام الشرعية، ولا ينكرون أن يتكلم عليه الصلاة والسلام بما يراه من أمور الدنيا أو أمور الحرب؛ كما نرى هذا في مؤلفات ابن حزم، فهم يستثنون الأشياء التي لا تتصل بالنواحي التشريعية، وقد اختار الكاتب
أن يأتي لاجتهاد النبي عليه الصلاة والسلام في غير الشرعيات بمثالين، هما: تأبير النخل، واختيار مكان للنزول في الحرب، والمثالان يساقان على أنه عليه الصلاة والسلام قد يعرض لاجتهاده في غير الشرعيات خطأ، ولكن هذا الخطأ لا يستمر، بل ينقطع بتنبيهه له عليه الصلاة والسلام، أو بتنبهه له من نفسه.
أما واقعة تأبير النخل: فحديثها: أنه عليه الصلاة والسلام مر على قوم بالمدينة يلقحون (1) نخلًا، فقال:"ما يصنع هؤلاء؟ "، فقالوا: يلقحون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما أظن يغني ذلك شيئاً"، فأُخبروا بذلك، فتركوه، فخرجت شِيصًا (2)، فذُكر ذلك للنبي- صلى الله عليه وسلم، فقال:"إن كان ينفعهم ذلك، فليصنعوه؛ فإني إنما ظننت ظنًا، فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً، فخذوا به". وفي رواية أنه قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم".
فالحديث لم يأت فيه أنه نهاهم عن التأبير، وإنما قال:"ما أظن يغني ذلك شيئاً"، وفي رواية:"لعلكم لو لم تفعلوا، كان خيراً". والتعبير بالظن، أو بحرف الترجي المفيد للظن، صريح في أنه لم يكن بصدد تقرير حكم شرعي، وإنما هو إبداء رأي في أمر دنيوي، وعدم موافقة ظنه لما يعرفه أهل فن الفلاحة، لا يمس مقام نبوته الرفيع بشيء؛ إذ ليس من شرط صحة النبوة أو كمالها أن يكون صاحبها عارفًا بالشؤون الدنيوية البحتة، مصيبَ الظن في كل ما يتكلم فيه على وجه الظن.
وأما واقعة اختياره مكاناً للنزول في الحرب، فسيأتي بحثها حيث
(1) يجعلون الذكر في الأنثى، فتلقح.
(2)
الشيص: تمر لم يتم نضجه؛ لسوء تأبيره.
أوردها الكاتب شاهداً على أنه عليه الصلاة والسلام نزل على اجتهاد غيره.
يقول الكاتب: "ولكنهم حين يتحدثون عن هذا الاستثناء يحتاطون في الأمر تمام الاحتياط، فيضيقون دائرته، ولا يتوسعون فيه".
قد رأيت أن هؤلاء القوم ينكرون اجتهاده عليه الصلاة والسلام في الأحكام الشرعية، ويقولون: إنه قد يتكلم في أمور الدنيا وأمور الحرب عن رأي، لا عن وحي، ولا ندري ماذا يريد الكاتب منهم إذا أنكر عليهم الاحتياط في أمر هذا الاستثناء، ووصفهم بأنهم ضيقوا دائرته، ولم يتوسعوا فيه؟
قال كاتب المقال: "لقد جاءت الشريعة الإِسلامية بالاجتهاد، وأمر الله عباده أولي الأبصار بأن يعتبروا، وينظروا ويتدبروا كتابه، وقد كان الاجتهاد سنة الأنبياء والمرسلين من قبل، والقرآن يحدثنا بذلك عنهم؛ كما في شأن يحيى إذ آتاه الحكم صبيًا. وكما في قصة داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم، وقد ذكر الله جملة من أنبيائه ورسله، وأثبت لهم جميعاً هذا المعنى بقوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 89]. ثم قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في الآيات نفسها: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
لما أراد الكاتب أن يتحدث عن اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر طائفة وصفها بأنها تقول: إن أفعاله عليه الصلاة والسلام وأقواله وسائر تصرفاته وحي، وأطلق لقلمه العنان حتى أظهرها للناس أنها متغالية إلى حد بعيد، ثم ذكر أن قوماً من العلماء يستثنون من ذلك بعض الأشياء التي لا تتصل بالنواحي التشريعية، ثم أخذ في هذه الجمل يتحدث عن اجتهاد النبي حديث من يحاول
أن يكون له فيه رأي، ولم يذكر الكاتب مذهباً مشهوراً في الأصول هو أن النبي عليه الصلاة والسلام قد يجتهد في الأحكام الشرعية، بَلْهَ أمورَ الدنيا وأمور الحرب.
ونحن لا نطالب الكاتب في مسألة أن يحكي كل قول جرى فيها، ولا نطالبه في كل رأي أراد إفادته للناس أن ينسبه إلى من سبقه به، ولكنا نؤاخذه بأن يأتي إلى مسألة ذات أقوال، ويعمد إلى القول الذي يراه ضعيفًا، فيخصه بالذكر، ويصب عليه عبارات تزيده ضعفا على ضعفه، ويدع أن يذكر بجانبه القول الذي يرى له وجهًا من الرجحان، ثم يقبل على الناس، ويقرر لهم القول الراجح كأنه ابتكره، أو يقرر لهم رأيًا ابتدعه، على أمل أن يكون لتشويهه الرأي الذي عرضه أولاً أثر في تلقي رأيه بالقبول.
أما اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، فإما أن يكون في مصالح الدنيا، وهذا ما لا نزاع فيه، وإما أن يكون في تقرير حكم شرعي، وهذا ما اختلفت فيه أنظار الأصوليين والفقهاء، فمنعته طائفة، منهم: ابن حزم، وأجازته طائفة، بل قالت بوقوعه، وهو المشهور بين أهل العلم، وتوقفت فيه طائفة، منهم: الإمام الغزالي؛ إذ تشابهت عليهم الأدلة، ولم تسفر مناظرة المانعين والمجيزين - فيما تراءى لهم - عن قول حاسم.
ونحن لا نمانع من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد اجتهد في تقرير بعض الأمور الشرعية، وإنما ننازع في أشياء كثيرة يوردها القائلون باجتهاده في أحكام الشريعة مورد الأدلة، ونراها غير جديرة بأن تساق لتثبيت هذا الأصل العظيم.
ذكر الكاتب: أن الشريعة الإِسلامية جاءت بالاجتهاد، وأن الاجتهاد كان سنة الأنبياء والمرسلين، ذكر هذا، وجعل من مقتضاه أن يكون النبي
- عليه الصلاة والسلام ممن يجتهدون.
أما أن الشريعة جاءت بالاجتهاد، فهذا مالا شبهة فيه، ولكنه شرع لحاجة الناس إليه حيث ينقطع الوحي، أو حيث يكونون على بعد من مهبطه، والنبي صلى الله عليه وسلم في غنى عن الاجتهاد بما يوحي به الله إليه.
وأما اجتهاد الأنبياء والمرسلين، فهو موضع اختلاف المختلفين، فمن يمنع اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام الشرعية ينكر أن يكون غيره من الأنبياء قد اجتهدوا في ذلك، وعلى هذا التعميم درج ابن حزم في كتاب "الأحكام"؛ إذ جعل موضوع البحث: هل الأنبياء يجتهدون في أحكام الشريعة، أو لا يجتهدون؟.
وأما الآيات التي أوردها الكاتب مستدلاً بها على أن الأنبياء كانوا يجتهدون، فليس فيها ما ينبئ عن الاجتهاد الذي هو موضع الخلاف، فآية:{وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]، وآية:{أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الأنعام: 89]، ليس فيهما سوى أن الله آتى أولئك الأنبياء الحكم، والحكم يراد منه: الحكمة، أو فصل الأمر على وجه الحق، وليس في أحد المعنيين ما يقتضي الاجتهاد في تقرير أمر من أمور الدين.
وآية: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] يسهل فهمها على أن داود عليه السلام حكم في القضية على نحو ما سمع، وجرى في حكمه على ما يقتضيه ظاهر حال الشهود، وهو مأمور بأن يحكم على هذا الوجه، أما سليمان، فقد أطلعه الله تعالى على ما خفي على داود من باطن أمر القضية حتى عرف صاحب الحق، فداود قضى على نحو ما أمره الله به، وسليمان قضى على نحو ما أطلعه الله عليه، فكل منهما آتاه الله حكماً
وعلماً، ومن أهل العلم من يذهب في تأويل هذه القضية إلى أن داود عليه السلام أصاب الحكم، وسليمان عليه السلام أشار بالصلح، والصلح بين المتخاصمين متى رضيا به كان أرجح من تطبيق الحكم المقرر للقضية.
قال كاتب المقال: "فالنبي إذاً مأمور بالسير على سنة الأنبياء والمرسلين من قبله، مأمور بان يقتدي بهديهم، وهذا أمر تقضي به طبيعة الأشياء؛ لأنه لا يعقل أن يرسل الله رسولاً في وقت نبغت فيه الإنسانية، واشتد ساعد الفكر البشري، ثم يحرمه النظر والتفكير الذي أباحه لإخوانه الأنبياء في طفولة الدهر وشباب الزمان، وأباحه - أيضاً - لمتبعيه الذين يدعوهم إلى دينه، ويامرهم بالعمل بشريعته، كيف يسوغ لأحد أن يقول بحرمان النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتهاد، وهو مرتبة علمية من أسمى مراتب الفطنة البشرية، والبصيرة الإنسانية؟ أيمنحها الله لذوي العقول وأرباب البصائر، ثم يحرمها على الإنسان الكامل؟ ".
هدى الأنبياء الذي أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء به ظاهر في معنى ما يكون حقاً وكمالاً مما لا تختلف فيه الشرائع ، كأصول الدين، وما يرجع إلى الأخلاق الكاملة، والآداب الرفيعة، من نحو: الصبر والشكر، والحلم والزهد والعزم، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والتضرع إلى الله في كل حال.
والاجتهاد في الدين خير من جهة أنه وسيلة لتقرير أحكام شرعية، وكمال من جهة أنه دليل قوة العقل والفهم، ومن قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجتهد في الأحكام الشرعية، إنما يقصدون: أنه في غنى عن هذه الوسيلة بما يسره الله له من الوحي، وإذا نفوا عنه الاجتهاد في الأحكام لا يعنون أنه ليس له قوة التفكير
الكافي لاستنباط الأحكام، بل قصدهم: أن الأصل في الشرائع أن تكون بطريق الوحي، فيحمل الحكم الذي يصدر من النبي صلى الله عليه وسلم على أنه ورد من هذا الطريق حتى يقوم الدليل على أنه صدر عن اجتهاد، وليس في التمسك بهذا الأصل حرمان له من مرتبة علمية من أسمى مراتب الفطنة البشرية والبصيرة الإنسانية، ولا تفضيل لمن أذن لهم في الاجتهاد عليه بهذه المرتبة.
والفطنة البشرية والبصيرة الإنسانية يظهران في نواح كثيرة من نواحي التفكير غير الاجتهاد في أخذ الأحكام الشرعية من طريق القياس، وقد ظهرت رجاحة عقله عليه الصلاة والسلام وذكاء لبه في أساليب دعوته، وسمو حكمته، وحسن تصرفه في سياسة الناس على اختلاف طبقاتهم، وتكاثر مذاهبهم، وتباين مشاربهم، وتفاوت مداركهم، وفي معرفة المنافقين في لحن أقوالهم:{وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30]. ولهجةُ خصوم الحق بين أهل الحق لا يكشف أسرارها، ويتنبه لمراميها إلا ذو بصيرة نافذة.
قال كاتب المقال: "كأني بهؤلاء يرون رسالة الرسول أمراً يتعارض مع بشريته، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رسالته، وقبل رسالته، بشرًا اكتملت فيه جميع معاني البشرية الفاضلة، ولم يشأ الله أن يرسله حتى بلغ أربعين عاماً؛ لتنضج بشريته، وتكمل رجولته، فلا تطغى عليها الرسالة، ولا تسلبها خصائصها، وقد عني القرآن الكريم بأن يؤكد هذا المعنى في كثير من آياته:{سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93]، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110].
لم يقل المنكرون لاجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يجتهد، لأن الاجتهاد شأن البشر، بل قالوا: إنه في غنى عنه بالوحي، فلو اقتنع هؤلاء بأن الحاجة داعية
إلى أن يجتهد النبي صلى الله عليه وسلم، لم يجدوا في صدورهم حرجاً من أن يقولوا باجتهاده، فرميهم بأنهم يرون رسالة الرسول أمراً يتعارض مع بشريته، لا يصيب غرضاً، ولا يجدي في تحقيق هذا البحث العلمي كثيراً ولا قليلاً.
يقول الكاتب: "وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع رسالته، وقبل رسالته بشراً"، وكذلك يقول الدكتور زكى مبارك في مقاله المشار إليه آنفاً:"كان محمد إنساناً قبل أن يكون نبياً"، تواردت خواطر الشيخ الكاتب، والدكتور على حشر هذا المعنى في الكلام عن تفكير النبي صلى الله عليه وسلم، والقوم - كما رأيت - لم يقولوا قولًا يمس بشريته الفاضلة بشيء.
يقول كاتب المقال: "ولم يشأ الله أن يرسله حتى بلغ أربعين عاماً؛ لتنضج بشريته، وتكمل رجولته، فلا تطغى عليها الرسالة، ولا تسلبها خصائصها".
ونحن يمكننا أن نفهم أن من حكمة إرساله عليه الصلاة والسلام في سن الأربعين أن تطول مدة مشاهدة قومه لأحواله قبل الرسالة، حتى إذا عرف بينهم بالصدق والأمانة ونقاء السيرة، كان نظرهم في آيات رسالته أيسر، وقبولهم لدعوته أقرب، وإلى هذا يشير قوله تعالى:{فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].
ويمكننا أن نفهم أن من حكمة تأخير إرساله إلى بلوغه هذه السن: كمال استعداده لأداء الرسالة عامة، ففي الأربعين تكون النفوس قد أخذت كمالها الخلقي من أطرافه، وبلغت في قوة إدراك الحقائق غاية قصوى.
نستطيع أن نفهم هذا وذاك، ولا نستطيع أن نفهم كيف تطغى الرسالة على البشرية، وتسلبها خصائصها، فهل تطغى الرسالة على البشرية، وتسلبها
الفطنة والألمعية، أو تطغى الرسالة على البشرية، وتسلبها الاستعداد للتخلق بالأخلاق الفاضلة، أو تطغى الرسالة على البشرية وتسلبها العزم والقدرة على القيام بجلائل الأعمال؟!. فهل لحضرة الكاتب أن يقيم لنا شاهداً على أن هذا الطغيان والسلب من طبيعة الرسالة؟!
فنحن نذهب إلى أن سن الأربعين تساعد الرسالة على تأدية مهمتها، وكاتب المقال يذهب إلى أن سن الأربعين تكف طغيان الرسالة على البشرية، وتجعل خصائص البشرية في أمن من هذا الطغيان.
قال كاتب المقال: "ومن زعم أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم قد غلبت على بشريته، وقضت على لوازمها السامية، فقد تلاقى في رأيه من قريب أو من بعيد بالذين يقولون:{أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94].
النبي صلى الله عليه وسلم بشر رسول، وللبشرية الراقية لوازم، وللرسالة لوازم، والمعروف أن لوازم البشرية الراقية لا يقع بينها وبين لوازم الرسالة تعارض، فإذا قيل: هذا الوصف من لوازم الرسالة، لم يكن منافياً للبشرية الراقية قطعاً، وإذا قيل: هو من لوازم البشرية الراقية، لم يكن منافياً للرسالة البتة؛ فإذا رأى طائفة أن هذه الصفة، أو أن هذا الحال لم يوجد في الرسول، نظرنا في هذا الأمر الذي نفوه عن الرسول، فإن كان من مقتضيات البشرية الراقية في كل حال، قلنا لهم: قد زعمتم أن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم قد طغت على بشريته الراقية، وقفت على لوازمها، وإن كان هذا الذي أبوا أن يثبتوه للرسول لا تقتضيه البشرية الراقية في حال، بل يرجع الأمر فيه إلى اقتضاء المصالح، كان مجال النظر هو أن المصلحة تقتضي أن يكون هذا شأناً من شؤون الرسول، أو لا تقتضي.
والاجتهاد في أحكام الشريعة من هذا القبيل؛ إذ لم يكن من مقتضيات البشرية الراقية في كل حال، وإنما هو تفكير خاص تتوسل به أنظار الفقهاء إلى استخراج الأحكام الشرعية عند الحاجة، وليس للرسول من حاجة إليه؛ حيث يتيسر له الوصول إلى الحكم الشرعي من طريق أسمى منه، وهو الوحي، فشتان بين من يقولون: إن الرسول غني بالوحي عن الاجتهاد في تقرير الأحكام الشرعية، وبين أولئك الذين {قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94].
قال كاتب المقال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم بشر، وفي أسمى مراتب البشرية، وقد اكتسب شخصية الفقيه المجتهد، كما منح شخصية الرسول المبلغ عن الله، وهو أول الفقهاء، كما أنه خاتم الأنبياء، فلينظر إذن فيما ورد منه صلى الله عليه وسلم على هذا الأساس الذي يجمع بين الرسول والفقيه".
النبي صلى الله عليه وسلم في أسمى مراتب البشرية عقلاً وفطنة، وخلقاً واستقامة، وهذا السمو لا يستلزم أن يكون مجتهداً في أحكام الشريعة؛ فإن الوحي هو الذي شأنه أن يأذن في هذا الاجتهاد، وقد أذن فيه لعلماء الأمة حيث تقوم الحاجة إلى ذلك، ويبقى البحث في أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له في الاجتهاد، أو لم يؤذن، فمن يقول: لم يؤذن له فيه، لا يبني قوله على دعوى أنه عليه الصلاة والسلام لم يستوف وسائل الاجتهاد، من نحو الفهم والعلم، بل يقول: لم يؤذن له فيه؛ لفقدان شرط راعاه الوحي هو: أن تدعو إليه الحاجة، فما كان لمناظر المنكِر أن لاجتهاد الأنبياء في أمور الدين، أن يتحدث في مناظرتهم عن البشرية الراقية، ومراتبها العالية، ولوازمها السامية.
قال كاتب المقال: "اقتضت حكمة الله أن يسوس عباده، ويحقق مصالحهم بنوعين من التشريع: نوع يتولاه بنفسه، وينص فيه على ما يريد،
ويرسل به الوحي إلى نبيه، ونوع آخر يسكت عنه، فلا ينص عليه غيرَ نسيان ولا إهمال، ولكنه رحمة بعباده يكله إلى أصحاب الرأي والنظر؛ لاختلاف المصلحة فيه باختلاف الظروف والأحوال".
ساس الله عباده بنوعين من التشريع: نوع دلت عليه نصوص الكتاب والسنّة بأحد طرق الدلالات الصحيحة المقررة في الأصول، ونوع آخر لم يظهر في النصوص ما يدل عليه، وهذا ما وكله الله إلى أصحاب الرأي والنظر بعد أن رسم له خططاً، ووضع له أصولاً تتراءى للناظرين في كثير من موارد النصوص، فأصحاب الرأي والنظر الذين وكل الله لهم أن يجتهدوا، هم الذين يستطيعون أن يصوغوا الأحكام في صور يتحرون بها ما أراده الشارع من إصلاح شؤون الأفراد والجماعات.
ذكر الكاتب النوع الأول، وهو ما نص عليه الشارع، وأرسل به الوحي، وجعل مقابله ما تختلف فيه المصلحة باختلاف الظروف والأحوال، ومعنى هذا: أن الاجتهاد إنما يجري فيما تختلف فيه المصلحة باختلاف الظروف والأحوال.
والواقع أن الاجتهاد قد يجري في هذا النوع ، كالاجتهاد في حكم واقعة تندرج تحت قاعدة رعاية العرف، أو قاعدة ارتكاب أخف الضررين، أو قاعدة سد الذرائع؛ فإن العرف قد يتغير، وربَّ شيء يخف ضرره في وقت، ويشتد ضرره في وقت، ومن الأشياء ما يكون ذريعة إلى فساد في وقت، ولا يكون ذريعة إلى فساد في وقت.
وقد يجري الاجتهاد فيما لا تتغير فيه المصلحة؛ كقياس واقعة غير منصوص على حكمها على واقعة نص على حكمها، فحيث كان القياس ينبني
على اتحاد الواقعيتين في علة الحكم، كان حكم الواقعة المقيسة تابعاً لحكم الواقعة المقيس عليها، في دوامه بدوام العلة.
قال كاتب المقال: "وقد قام محمد النبي بحق رسالته، فبلغ النوع الأول كما أمره بتبليغه، وقام محمد الفقيه الأول بحق بشريته، فرسم طريقة الاجتهاد، وعني بالتطبيق العملي عليها، وبأن يعبرها لمن يجيء من بعده من الخلفاء والقضاة والأئمة".
ليست البشرية هي التي أملت على محمد صلى الله عليه وسلم أن يجتهد في أحكام شريعة إلهية، وليست البشرية هي التي أرته كيف يرسم طريقة الاجتهاد في هذه الأحكام المقدسة، وأحكامٌ ينبني على قبولها ورفضها المصيرُ إلى الجنة أو النار، لا تُترك للبشرية تتصرف فيها كما ترى، بل الاجتهاد الفقهي هو وليد الرسالة، فالرسالة هي التي أعدت وسائله العلمية، ومنها عرف النبي عليه الصلاة والسلام كيف يرسم طريقته العملية.
قال كاتب المقال: (اجتهد، وقاس، وحكم، وأفتى بالحاجة وتقدير المصلحة، وساس الأمة بما أراده الله، كما هو الشأن في المجتهدين والحكام).
الذين يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد يجتهد في أحكام الشريعة، يفرقون بين اجتهاده، واجتهاد غيره من المجتهدين والحكام؛ بأن غيره يجتهد في تفهم النصوص، ودفع ما. يقع بين الأدلة من التعارض، ويجتهد في قياس بعض الحوادث على أمثالها المنصوص على أحكامها، أما اجتهاد النبي عليه الصلاة والسلام، فإنما هو قياس بعض الحوادث على نظائرها، ذلك أن النصوص قد وكِل إليه بيانها، فلا تخفى عليه منها خافية، وتعارضُ الأدلة
إنما يقع في أذهان قد يفوتها فهمُ النصوص حق فهمها، أو يفوتها أن تضع كل دليل موضعه، أو تهتدي إلى معرفة الناسخ من المنسوخ، وذلك ما يصان عنه اجتهاد مَن جعله الله مهبط وحيه، ومطلع شريعته.
ويفارق اجتهاده اجتهاد غيره من المجتهدين والحكام: أن اجتهاد غيره محتمل للخطأ، فلمجتهد آخر أن يعيد النظر فيه، ويعمل على ما أداه إليه اجتهاده، أما اجتهاده عليه الصلاة والسلام، فهو بمنزلة الوحي يجب الوقوف عنده، والإيمان بأنه حكم مَن لا معقب لحكمه.
وهذا ما لا يختلف فيه المسلمون، وإذا قال الفقهاء: لا تجوز مخالفة اجتهاد الإمام الأعظم أو نائبه، وهم يعنون الإمام أو نائبه البالغَ رتبة الاجتهاد بحق، فإنهم لم يقولوه على معنى أن اجتهاده عين الصواب، وإنما قالوه لمعنى آخر، هو انتظام أمر السياسة، وإبقاء الأمن في قرار، ولو ظهر لأهل العلم أن في اجتهاده خطأ، لكان لهم أن يحاوروه، ويرشدوه إلى ما هو الصواب؛ لعله يأخذ به في إصلاح ما صدر منه، أو يأخذ به فيما يفصل فيه من بعد، فلا نجوز مخالفة اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال؛ لأن اجتهاده عين الحق، ولا نجوز مخالفة اجتهاد الإمام الأعظم؛ حفظاً لنظام السياسة، واتقاء للفتنة.
قال الإمام الغزالي في "المستصفى": "قام الدليل من الإجماع على تحريم مخالفة اجتهاده عليه الصلاة والسلام؛ كما دلّ على تحريم مخالفة الأمة كافة، وكما دلّ على تحريم مخالفة اجتهاد الإمام الأعظم والحاكم".
قال كاتب المقال: "اجتهد في الحروب، وفي الأمور الدنيوية، واجتهد في الأحكام الشرعية".
الاجتهاد لغة: استنفاد الجهد في طلب الشيء المرغوب إدراكه، حيث
يرجى وجوده فيه، أو حيث يوقن بوجوده فيه (1).
وتجري كلمة الاجتهاد على ألسنة الأصوليين، ويقولون: هذا اجتهاد في أمر الحرب، وهذا اجتهاد في أمر دنيوي، وهذا اجتهاد في حكم شرعي.
أما الاجتهاد في الحروب، فيراد منه: النظر في نحو منازل الجيوش، أو الطريق التي يسار منها إلى العدو، أو القبيلة التي يبتدأ بقتالها، إلى نحو هذا من التصرفات التي يدرك خيرها وشرها المتدربون على قيادة الجيوش.
وأما الاجتهاد في الأمور الدنيوية، فيتعلق بأفعال أذن فيها الشارع على وجه الإباحة، وفوض أمرها إلى الإنسان؛ ليأخذ فيها بما ترجح عنده من صلاحها أو فسادها، كفنون الزراعة والصناعة والتجارة، إلى نحو هذا من الأمور التي تعرف مصالحها ومفاسدها بالمشاهدات والتجارب.
وأما الاجتهاد في الأحكام الشرعية، فهو بذل الوسع في تحصيل حكم حادثة تعرض؛ من نحو: الوجوب، أو الحرمة، أو الإباحة، أو الصحة، أو البطلان، والرجوع في تحصيل أحد هذه الأحكام إلى أصول الشريعة، وتحري مقاصدها في الإصلاح.
وقد يطلق الاجتهاد على إعمال النظر في تعرف ما ينطبق عليه الحكم الشرير، وهذا ما يسميه الأصوليون:"تحقيق المناط"، ومثاله: أن الشارع قضى بأن على المدعى البينة، وعلى المدعى عليه اليمين، وقد تطرح بين يدي القاضي قضية يشتبه فيها الأمر، فلا يدري لأول ما تطرح: من المدعى، ومن المدعى عليه؛ إذ قد يكون المطلوب هو المدعى، والطالب هو المدعى
(1)"الأحكام" لابن حزم.
عليه، فيُعمل القاضي فكره في حالهما حتى يدرك أن هذا مدَّعٍ، وهذا مدعى عليه، وإن شئت إيضاح هذا، فالبالغ سنَّ الرشد يرفع شكوى إلى القاضي بأن الوصي لم يدفع إليه ماله، فالوصي هنا هو الذي يدعي أنه دفع المال، فيطالَب بالبينة، والبالغ سن الرشد مدعى عليه بأنه تسلَّم ماله، فهو المطالَب باليمين.
واجتهاده عليه الصلاة والسلام في أمور الحرب، وأمور الدنيا- با لمعنى الذي بيناه، وسقنا له الأمثال - ليس موضع النزاع بين أهل العلم.
وأما اجتهاده في الأحكام الشرعية، فذلك موضع اختلاف الأنظار، وهو الذي يشتد فيه النضال، وتقوم فيه الأدلة وتقعد، ومنشأ هذا الخلاف: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل عند تقرير حكم شرعي: هذا قلته عن وحي، وهذا قلته عن اجتهاد. وكذلك الصحابة رضي الله عنهم عندما يروون أحاديث الأحكام لا يقولون: هذا صدر عن وحي، وهذا صدر عن اجتهاد، وإنما وردت آيات فيها عتاب للنبي صلى الله عليه وسلم عن بعض تصرفاته، وأحاديث فيها أحكام يقرنها عليه الصلاة والسلام بضروب من الأقيسة، وأحاديث قد يتبادر إلى بعض الأذهان أنه انتقل فيها من حكم إلى آخر دون أن يكون بين الحكمين مهلة، وأحاديث قال فيها:"إنما قلته عن ظن"، وأذن للناس في عدم العمل بها من بعد.
فمن ألقى نظره على ناحية من ظواهر هذه الآيات والأحاديث، قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد يجتهد في الأحكام الشرعية، ومن رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم في غنى عن الاجتهاد بما يلقيه الله عليه من الوحي قال: إنه لا يجتهد، وأخذ يفسر تلك الآيات والأحاديث على وجوه تخرجها عن أن تكون اجتهاداً في أحكام دينية.
وقد صب كاتب المقال همته في الحديث عن اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم، وأشار إلى جملة من الأحاديث والآيات التي يتشبث بها من يذهبون إلى أنه كان يجتهد، ونحن ننقل عبارات الكاتب، وننظر في وجوه الاستدلال بما استدل به، ونقرر ما ينبذه المنطق مما يتقبله.
ابتدأ كاتب المقال بثلاثة أحاديث اشتملت على أحكام مقرونة بضرب من التمثيل، فقال:
(فأفتى المرأة التي سألته عن حجِّها لأبيها بقوله: "أرأيتِ لو كان على أبيك دَين، فقضيته، أما كان يقبل منك؟ "، وأفتى السائل عن قُبلة الصائم بقوله: "أرأيت لو تمضمضت بماء، ثم مججته، أكان يضرك؟ "، وأفتى السائل عمن لامسَ امرأته أيكتب له أجر وهو يقضي شهوته؟ فقال: "أرأيت لو وضعها في حرام، أيكتب عليه وزر؟ ").
الذي يأتي بهذ 5 الأحاديث مستشهدا يها على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد، يريد: أنه أجاب السائل، وذكر مع الحكم القياس الذي هو أحد الأدلة الشرعية، وهذا شأن المجتهد.
ومن يقولون: إن الأحكام الشرعية لا تصدر إلا عن وحي، يذهبون في فهم هذه الأحاديث إلى أن ما ورد فيها من التمثيل إنما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم لتقريب الحكم وتثبيته في النفوس، وتقريب الحكم وتثبيته بهذا الطريق معروف في نصوص الشريعة؛ كلما جاء في قوله تعالى:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]، وكما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن رؤية الله يوم القيامة:"هل تضامون في رؤية الشمس صحواً في الظهيرة ليس دونها سحاب؟)، قالوا: لا، فقال: "هل تضامون
في رؤية القمر ليلة البدر صحواً ليس دونه سحاب؟ "، قالوا: لا، قال: "فإنكم ترونه كذلك" (1). وسألته عليه الصلاة والسلام امرأة، فقالت: إن لي ضرة، فهل عليَّ جُناح إن تشبَّعْت من زوجي غيرَ الذي يعطيني؟ فقال: "المتشبع بما لم يُعط كلابس ثوبي زور".
فمن كمال الدعوة وحسن أسلوبها أن تقرَّب فيها الأحكام من النفوس، ويزاح فيها ما يحوم بالقلوب من الشبه، وتمثيلُ المعقول بالمحسوس، والمجهول بالمعلوم كثيراً ما يسلك لهذا الغرض النبيل، وأنظروا إلى قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل: كيف يحشر الكافر على وجهه؟: "أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجليه، قادراً على أن يمشيه في الآخرة على وجهه؟ ".
ثم أشار كاتب المقال إلى أربعة أحاديث مستشهداً بها على أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل فيها على اجتهاد غيره، فقال:"ونزل على اجتهاد غيره، فاستثنى الإذخر (2) في تحريم شجر مكة حين استثناه العباس، ودعا للمقصرين كما دعا للمحلقين، وأذن في غسل القدور التي طبخت فيها لحوم الحمر الأهلية بعد أن أمر بكسرها، ونزل المنزل الذي أشار عليه أصحابه بأن ينزل فيه".
نزولُ النبي صلى الله عليه وسلم على اجتهاد غيره: أن يجتهد في حكم واقعة، ويقرر حكمها، ثم يجتهد غيره فيها، فيرى عليه الصلاة والسلام أن اجتهاده خطأ، وأن اجتهاد غيره هو المصيب، ونحن نحدثك عن هذه الأحاديث التي أومأ إليها الكاتب، ونخرج منها على أن ليس في شيء منها ما ينبئ أنه نزل على
(1) البخاري ومسلم.
(2)
الإذخر - بكسر همزة الألف -: الحشيش الأخضر، وحشيش طيب الرائحة - "القاموس".
اجتهاد غيره في تقرير حكم شرعي.
أما حديث "إلا الإذخر"، فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن البلد الحرام -أعني: مكة-: "لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه"، فقال العباس: إلا الإدخر، فإنه لقَيْنهم وبيوتهم، قال:"إلا الإذخر".
وليس من المعقول أن يكون العباس قد فهم أن النبي صلى الله عليه وسلم اجتهد، فرأى تحريم شجر البلد الأمين على سبيل العموم الشامل للإذخر، وقرر حكماً على خلاف ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال مفصحًا عن اجتهاده:"إلا الإذخر"، ويكون النبي - صلوات الله عليه - قد ظهر له بعدُ أن اجتهاد العباس هو الصواب، فنزل عليه.
والموافق لحال الصحابة، وإجلالهم لمقام الرسالة: أن يكون العباس قاصدًا بقوله: "إلا الإذخر" تذكيرَ النبي صلى الله عليه وسلم بوجه الحاجة إلى الإذخر؛ لعله عليه الصلاة والسلام يستثنيه من ذلك العموم على وجه الرخصة، ويسمى مثل هذا التذكير بالتلقين، وتلقين المخاطب الأدنى يأتي لعرضه على المتكلم الأعلى رغبته، أو حاجةَ قومه إلى إعطاء شيء حكم المعطوف عليه إن كان التلقين بالعطف، أو إلى استثناء شيء من حكم المستثنى منه إن كان التلقين بالاستثناء، وقد قرر الأصوليون أن التلقين ورد بالواو وغيرها من الحروف، وبالاستثناء، وساقوا هذا الحديث شاهداً على التلقين بالاستثناء.
فتلقين ابن عباس له عليه الصلاة والسلام بطريق الاستثناء إنما هو تذكير بوجه الحاجة، راجياً أن تكون هذه الحاجة مقتضية للرخصة، وعرضُ الصحابة أمثالَ هذه الحاجات على النبي صلى الله عليه وسلم مبني على أصل عرفوه في أصول
الشريعة، وهو "المشقة تجلب التيسير"، فهم يرجون أن تكون الواقعة ذات الحاجة التي عرضوها على وجه التلقين مما يصح أن تندرج تحت هذا الأصل.
ولا يصح أن يعد عرض الحاجات على الشارع رجاء التخفيف اجتهاداً في تقرير حكم شرعي، حتى إذا جاء حكم الشارع على وفق الحاجة، قيل: إن الشارع نزل على اجتهاد من عرض الحاجة عليه، وهذا موسى عليه السلام أخبره النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بأن الله فرض على الأمة خمسين صلاة، فقال له:"فارجع إلى ربك؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك"، وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يطلب من الله التخفيف إلى أن صارت خمساً.
وقول العباس: "إلا الإذخر؛ فإنه لقينهم وبيوتهم" كقول موسى عليه السلام: "فإن أمتك لا تطيق ذلك"، فلنفهم قصة العباس على الوجه الذي فهمنا عليه قصة موسى عليه السلام.
وإذا كان العباس قد قال: "إلا الإذخر" على وجه التلقين بالحاجة، ورجاء الرخصة، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم بعد:"إلا الإذخر" تخصيص للعام في قوله: "ولا يختلى خلاه "، وهو محتمل لأن يكون عن وحي خاص، وليس من شرط الوحي أن يأتي بعد أن تمضي على الطلب مدة، ومحتمل لأن يكون عن اجتهاد بعد أن عرض عليه العباس وجه الحاجة إلى الإذخر. وورود الوحي باستثناء بعض أفراد العام عندما يعرض سبب للاستثناء، له نظير، ففي "صحيح البخاري" قال زيد بن ثابت: إن النبي صلى الله عليه وسلم أملى عليه: "لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون"، فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها عليَّ، قال: يا رسول الله! والله! لو أستطيع الجهاد معك، لجاهدت، وكان أعمى، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم:{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95].
وفي "صحيح البخاري": أنه لما نزل قوله تعالى: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] الآية، قال مشركو أهل مكة: فقد قتلنا النفس التي حرم الله، ودعونا مع الله إلهًا آخر، وقد أتينا الفواحش، فأنزل الله:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ} [الفرقان: 70] الآية.
وأما حديث دعائه للمقصرين، فهو أن الإحلال من الحج يكون بتقصير الشعر، وبالتحليق، ولكن التحليق أفضل، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين؛ تنبيهًا على أن التحليق أفضل، فقال:"اللهم اغفر للمحفقين"، فقالوا: وللمقصرين، فقال:"اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: وللمقصرين، فقال:"وللمقصرين".
وليس في الحديث سوى أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين بالمغفرة أو الرحمة كما ورد في بعض الروايات، فقيل له: وللمقصرين على وجه التذكير بهم؛ ليطلب لهم المغفرة أو الرحمة كما طلب للمحلقين، فأعاد الدعاء للمحلقين مرتين، ثم قال:"وللمقصرين"، وليس في الحديث ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يقتصر في الدعاء على المحلقين، ويترك المقصرين؛ لأنه لم يرهم يستحقون طلب المغفرة حتى اجتهد هؤلاء الذين قالوا له:"وللمقصرين"، فرأوهم يستحقون طلب المغفرة، فنزل على اجتهادهم، فقال:"وللمقصرين"، فقولهم:"وللمقصرين" لا يتجاوز أن يكون تلقينا بطريق حرف العطف يراد به طلب الدعاء لهم، كما أن قول إبراهيم عليه السلام:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] بعد قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] البقرة: 124، لا يتجاوز أن يراد به: دعاء الله بأن يجعل من ذريته أئمة الناس، وكما أنك لا تسمي قوله تعالى:{لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، نقضاً لاجتهاد إبراهيم عليه السلام، فلا تسمي قول النبي صلى الله عليه وسلم:"وللمقصرين" نزولاً على اجتهاد أولئك القوم.
ويدلكم على أن الصحابة إذا استعملوا حرف التلقين بعد نطق النبي صلى الله عليه وسلم بحكم شرعي، فإنما يريدون طلب الرخصة: أنهم يستعملونه بعد نطقه بوعد، إنما يريدون تذكيره بما حرفه التلقين راجين أن يخبرهم بأن له حظًا من ذلك الوعد.
روى أبو سعيد: أن النساء قلن للنبي- صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا يوماً، فوعظهن، فقال:"أيّما امراة مات لها ثلاثة من الولد إلا كانوا لها حجابًا من النار". قالت امرأة: واثنان، قال:"واثنان"، وليس لأحد أن يدعي أن المرأة اجتهدت، وقررت أن الاثنين من الولد يكونان حجاباً من النار، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم على اجتهادها، فقال:"واثنان "، وإنما هي المرأة رغبت في أن يكون هذا الوعيد شاملًا لمن مات له والدان، فكان من رحمة الله أن أجاب رغبتها على لسان نبيه، فقال عليه الصلاة والسلام:"واثنان".
وأما أحاديث القدور التي طبخت فيها لحوم الحمر الأهلية، فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة خيبر:"أكفئوا القدور، واكسروها"، فقالوا: يا رسول الله! أو نغسلها؟ فقال: "أو ذاك"، فكان حكم الشارع في القدور هو الكسر، ولما أشار القوم بقولهم، أو نغسلها، إلى أنهم في حاجة إلى تلك القدور، وهذه الحاجة بلغت أن اقتضت الرخصة في الاكتفاء بغسلها، أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"أو ذاك".
فقول القوم: "أو نغسلها" تذكير منهم بالحاجة إلى تلك القدور، رجاء أن يرخص لهم في غسلها بدل كسرها، وعلى فرض أن يكون كل من الحكمين: حكم العزيمة، وحكم الرخصة، صادراً عن اجتهاد، فإن الصيغة التي صدرت من القوم لا تتجاوز أن تكون تذكيراً بوجه الحاجة، وطلباً للرخصة، والنبي صلى الله عليه وسلم -
هو الذي وقع منه الاجتهاد في تفصيل الحكم أولاً وآخراً.
وللشارع في الأمر بالكسر على وجه العزيمة، ثم الترخيص في الغسل، حِكَم يبدو لنا منها: أن الرخصة مظهر من مظاهر الرحمة، والعزيمة تبقي في النفوس ذكرى اهتمام الشارع باجتناب تلك اللحوم التي أصبحت رجساً، وذلك ما يدعو إلى شدة الابتعاد منها، والمبالغة في غسل ما طبخت فيه من القدور.
وهاهنا حكمة عامة في كل رخضة جاءت عزيمة، هي: تأسيس قاعدة عظيمة من أصول التشريع هي: أن المشقة تجلب التيسير، فإن الفقهاء إنما انتزعوها وقرروها من أمثال هذا الحديث.
ويدلكم على أن الشارع يراعي حاجات القوم في دائرة الحكمة: أنه قد ينهى القوم عن الشيء، فيعرضون عليه حاجتهم إلى استعمال ما نهى عنه في بعض الأحوال، فيريهم أن ليس هذا موضع الرخصة، ويردهم إلى الحظر بإطلاق، ومن أمثلة هذا: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام "، فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ قال:"لا، هو حرام".
وأما حديث نزوله المنزل الذي أشار عليه أصحابه بأن ينزل فيه، فهو ما يروى من أنه عليه الصلاة والسلام لما نزل في غزوة بدر بأدنى مياه بدر، قال له الحباب بن المنذر: أهذا منزل أنزلك الله، ليس لنا أن نتقدمه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال:"لا، بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، فقال: ليس بمنزل، انهض بالناس حتى نأتي أدنى منزل من القوم.
هذه القصة حكاها ابن إسحاق في "السيرة" على هذا الوجه، وحكاها