الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقف في سبيل دعوته، وإنفاذ أوامره، فمن مقاصده: إقامة دولة اسلامية تجري في سياستها على شريعته ونظمه.
وهذه المزية تستدعي أن يكون أول القائمين بالدعوة إليه، والجهاد في إنقاذ ما جاء من إصلاح، ذوي أخلاق عظيمة، من نحو: الشجاعة، والصبر على المشاق، وقلة التعلق بالترف وزخارف الحياة.
وإذانظرنا إلى الأمة العربية من الوجهة النفسية، نجدها امتازت بأخلاق سامية فاقت فيها غيرها من الأمم؛ فقد كان العرب في الشجاعة والاستهانة بالموت في أقصى ذروة.
تشهد بهذا أشعارهم في الفخر بالأقدام والبسالة، ثم تاريخهم المملوء بوقائع الحروب، وحديث الأبطال الذين يؤثرون الموت في عزّ على الحياة في هون، ويتصل بالشجاعة: ما كانوا عليه من إباء الضيم، وعزة النفس، ومن يأبى الضيم، ويحمل في نفسه عزة، يقف في الدفاع عما يراه حقاً أو إصلاحا موقف الطود الراسخ، لا يخضع له عنق، ولا يتزلزل له قدم.
*
حياتها بمكة:
عندما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 1 - 3]، شمر عن ساق الجد في الدعوة، وأخذ يدعو إلى الحق، وأول من آمن به: خديجة رضي الله عنها؛ إذ علمت حين أخبرها بما تلقَّى من ملك الوحي: أن أعماله الصالحة، وخصاله الشريفة، لا يناسبها إلا كرامة الله تعالى، وإتمام النعمة عليه.
وفي أول المؤمنين به: علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وزيد ابن حارثة رضي الله عنهم، وأخذ الناس بعد هذا يدخلون في الدين واحداً بعد واحد،
وبقي صلى الله عليه وسلم نحو ثلاث سنين يدعو خُفية حتى نزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]، فصار يدعو إلى الله في علانية، ونادى قريشاً بعيب آلهتهم، وتسفيه أحلامهم، في عبادة ما لا ينفع ولا يضر، فناصبوه العداوة، وأرادوا به وباتباعه الأذى، وكان لأبي طالب يد في حماية النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين، وأما أصحابه، فمن كان له عشيرة، أو دخل في جوار ذي سطوة، هابوا جانبه، ومن لم يجد حامياً، أطلقوا أيديهم في أذيته، ولما اشتد النبلاء على المؤمنين، أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة.
وكان لإسلام عمر بن الخطاب أثر كبير في إظهار الدعوة؛ حيث صار المسلمون يصلّون في الحرم، وكانوا إذا أرادوا الصلاة، خرجوا إلى الشعاب حيث لا يراهم المشركون.
قام النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تعالى بين كفار قريش، وأعظم طرق الدعوة أثرًا: تلاوة القرآن الحكيم؛ إذ نرى كثيراً من المسلمين أعلنوا إسلامهم عقب سماعهم للقرآن؛ كما أسلم عمر بن الخطاب عقب سماعه سورة منه، ويضاف إلى هذا: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحلى به من فصاحة المنطق، وبلاغة القول، واستقامة السيرة، وسماحهَ الأخلاق، وسمو الآداب، من نحو: الصبر، والرفق، وعدم مقابلة السيئة بمثلها.
وكان صلى الله عليه وسلم مجداً في الدعوة، حىَ إنه ذهب إلى الطائف من أجلها ماشياً، وكان يعرض نفسه على القبائل في كل موسم، ويدعوهم إلى الإِسلام، ويتلو عليهم القرآن، ويكلم كل شريف قوم (1).
(1) ممن ذكرت أسماؤهم من القبائل التي دعاها في المواسم، وعرض عليهم نفسه: بنو عامر بن صعصعة، وفزارة، وغسان، ومرة، وبنو حنيفة، وسليم، وعبس، =
وكان أصحابه صلى الله عليه وسلم يؤازرونه في الدعوة، كما دعا أبو بكر الصديق عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، فدخلوا الإِسلام بدعوته، وكان علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق يخرجان معه عندما يخرج إلى دعوة القبائل في المواسم.
أقام النبي صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الحق بين كفار قريش ثلاث عشرة سنة، وسبب بطء ظهور الإِسلام بمكة بالنسبة إلى ظهوره بالمدينة: أن كفار قريش كانوا يقاومون الدعوة بأشد ما يملكون من القوة، ويصدون عن سبيلها بألسنتهم وأيديهم.
فمن مقاومتهم لها: أنهم كانوا يكثرون من التهكم والاستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ كقولهم له عندما يقرأ عليهم القرآن: {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5]. وقولهم عندما يرونه: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} [الفرقان: 41]، وكان كبار المستهزئين نفراً من ذوي الوجاهة في قومهم؛ مثل: الأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وفي هؤلاء وأمثالهم نزل قوله تعالى:{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95]. وكانوا يتعرضون له بالشتم والهجاء؛ كقولهم: إنه ساحر، أو مجنون، ويصفون القرآن بأنه أساطير الأولين.
ومن مقاومتهم له: أنهم كانوا يتبعون أثره، ويصدون عن قبول دعوته؛ كما كان أبو لهب يتتبعه عندما يقوم بدعوة القبائل في المواسم، ويقول لهم: إن هذا يدعوكم أن تخلعوا اللات والعرى من أعناقكم، إلى ما جاء به
= وبنو النضر، وكندة، وكلب، والحارث بن كعب، وعذرة، والحضارمة. ولم يستجب له من هؤلاء أحد، ومنهم من كان يرد عليه أقبح رد.
من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا منه.
ومن مقاومتهم له: تعنتهم في اقتراح المعجزات. قال الله تعالى فيما قصه عنهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 90 - 93](1).
ومما قاوموا به الدعوة: تعاقدهم علي بني هاشم، وبني عبد المطلب، وبني عبد مناف: أن لا يبايعوهم، ولا ينكحوهم، ولا يكلِّموهم، ولا يجالسوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة علَّقوها في سقف الكعبة، واستمروا على هذه المقاطعة نحو ثلاث سنين، حتى رجع بعضهم عن هذا التعاقد، فعادوا إلى نقضه (2).
ومن أشد ما قاوموا به الدعوة: بسط أيديهم إلى المستضعفين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسومونهم العذاب، مثل: عمار بن ياسر، وأُمه، وبلال بن رباح، بل وصلت أذيتهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعوا على ظهره سَلَى جزور (3) وهو يصلي عند البيت، حتى جاءت فاطمة رضي الله عنها، فطرحته عنه، وبلغ من أذية أهل الطائف له عندما ذهب إلى دعوتهم: أن
(1) والرسول لا يأتي قومه إلا بما يظهره الله على يده حسبما تقتضيه الحكمة.
(2)
بعد نقض الصحيفة ببضعة أشهر توفي أبو طالب. وتوفيت خديجة رضي الله عنها بعده في تلك السنة.
(3)
السلى: جلدة فيها الولد من الناس والمواشي. الجزور: البعير - "القاموس".